«الشرق الأوسط» في مهرجان ڤينيسيا (3):
أفلام اليوم الأول تنذر بقرب نهاية العالم
فينيسيا: محمد رُضـا
كم يتمنى المرء لو أن أهل السياسة والاقتصاد وأرباب
الصناعات في الدول الكبرى حول العالم يشاهدون الأفلام. وكم يتمنى
المرء لو أن أحد فيلمي اليوم الأول من مهرجان فينيسيا ينجح في
إقناعهم بأن حال العالم في خطر، وأن تلوث البيئة بات حاضراً، وأنه
وصل إلى مرحلة لم يعد بالإمكان معها العودة إلى الوراء.
فيلمان من الأفلام الثلاثة التي عرضت في اليوم
الأول من مهرجان فينيسيا الحالي (الذي انطلق يوم أول من أمس
الأربعاء ويستمر حتى الحادي عشر منه)، تدق أجراس الإنذار لعل
العالم ينقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن ينهار تحت وطأة ما يتم إنجازه
من تغييرات بيئية تصيب شتى أشكال الحياة أرضاً وبحراً وجواً، وكل
من هب ودب أو غطس أو طار من حيوانات وأسماك وطيور.
- عالمان متوازيان
فيلم الافتتاح «تصغير» هو ملحمة كبيرة أنجزها مخرج
خارج نوعه المعتاد من الأفلام لينقل عبرها قناعاته حول هذا
الموضوع. إنه دراما على قليل من السخرية، وأقل من ذلك من المؤثرات
الخاصة تحكي قصـة الأميركي العادي الذي يتابع باهتمام شديد ذلك
الاختراع الذي أخذ ينتشر من حوله. لقد توصل العلماء إلى تصغير حجم
الإنسان إلى ما لا يزيد على 15 سم. بذلك سيمكن الإسهام في تقليل
استهلاك الطعام والشراب والمساعدة في تجنيب العالم أزمة كبيرة في
هذا المجال.
بول (مات دامون) وأودري (كرستن ويغ) زوجان لديهما
مشاكل اقتصادية ومتفقان على أهمية هذا الإنجاز العلمي، وأودري
تستجيب لرغبة بول في تصغيرهما أسوة بالكثير من البشر بعدما ذاع هذا
الإنجاز العلمي وزاد عدد مريديه ما استدعى بناء مدن خاصـة كل من
فيها من صغار الحجم. لكن أودري تنسحب في آخر لحظة وتترك زوجها
بعدما تم تصغيره بالفعل. لا تستطيع تصغير نفسها ولا البقاء معه
بحجمها العادي وتطلب الطلاق.
كل هذا يرد في الساعة الأولى قبل أن ينتقل الفيلم
إلى فصل آخر من الحكاية يمر بول خلاله بسلسلة اكتشافات، من بينها
أن القوى التي تمسك بالاقتصاد في العالم الكبير الذي تركه هي ذاتها
التي تمسك باقتصاد العالم الصغير الموازي. المسألة، كما يكرر
الفيلم، ربما انطلقت من فعل إيمان بإنقاذ العالم، لكن المؤسسات
الصناعية استغلتها وفتحت لنفسها سوقاً جديدة.
في هذا الفصل، هناك أحداث كثيرة تسبر غور شخصية بول
بما فيها حكاية الفيتنامية (هونك تشو) التي هربت من بلادها إلى
الغرب ورضت بالتصغير، وتجد أن دورها في الحياة مساعدة الناس في
أحوالهم. تثير اهتمام بول، الذي لديه خبرة طبية محدودة والذي يجد
نفسه وقد أصبح أحد أفراد مجموعتها التي تعمل في تنظيف البيوت. حين
تأخذه الفيتنامية إلى الضاحية التي تعيش فيها يكتشف بول أن العالم
الذي يعيش فيه الآن هو نسخة عن ذلك الذي تركه وراءه. فالعالم هنا
مقسـم أيضاً بين من يملك ومن لا يملك.
الجزء الثالث هو الأكثر قتامة: بول والفتاة
الفيتنامية وصديقاه (كريستوف فولتز وأدو كير) يسافرون (في طائرات
لديها جناح خاص لأمثالهم) إلى النرويج لحضور مؤتمر في بعض بقاع
البلاد الشمالية. في نهايته سيتوجه الحضور إلى نفق يهبط إلى داخل
الأرض لبناء حياة جديدة، مدركين أن هذا الفعل هو الوحيد الذي سيضمن
استمرار البشرية. يقف بول حائراً بين أن ينصاع لرغبته المشاركة في
هذا الغرض أو البقاء مع حبيبته الفيتنامية.
لم يقدم المخرج ألكسندر باين على فيلم كهذا في
مسيرته. إنه الفيلم الفانتازي المضاد لفانتازيات الترفيه. لم يعمل
على فيلم بهذا الحجم أيضاً، لكنه على ذلك، مارس أسلوبه المحترف
والمدرك ولم يتراجع صوب السهل واللقطات الإثارية. هذا فيلم رسالة
كبيرة فيها الكثير من المضامين (تكاد تتحول إلى خطب أحياناً)،
لكنها تنجز المهمـة التي تتصدى لها: التحذير من سنوات مقبلة لا أمل
للحياة فيها على سطح هذا الكوكب.
- بحث وجداني
الجانب الآخر من الموضوع نفسه يكمن في الفيلم
الثاني من أفلام المسابقة التي شاهدناها في اليوم الأول: «فيرست
ريفورم» هو اسم الكنيسة التي يرعاها الأب تولر (إيثان هوك). ذات
يوم تتصل به امرأة اسمها ماري (أماندا سايفرايد)، طالبة منه
مساعدتها في أمر مهم: زوجها (فيليب أتنجر) يتصرف بشكل غريب، ويتحدث
عن أنه سيقتل الجنين الذي تحمله زوجته؛ لأن العالم سينتهي ولم يعد
هناك أمل في إنقاذه.
ليس أن الزوج يتنبأ، بل هو مدرك لما يدور حوله
ولديه إثباتات ودراسات علمية تؤكد ذلك. يقول: «قبل سنوات عدة، حذر
العلم من أنه إذا لم يتم إنقاذ الأرض بحلول العام 2015 فإن إصلاحها
سوف يصبح مستحيلاً. نحن الآن في سنة 2017 والعالم لا يهتم».
خلال هذه المقابلة بين الراهب والزوج الكثير من
الحديث حول الله والإنسان وحول الأمل واليأس والحياة والموت. في
النهاية ينجح تولر في تحويل نية دفع زوجته للإجهاض أو قتل الجنين
لاحقاً. لكن الشاب لا يستطيع أن يتجاهل الألم العاصف في داخله وهو
يتابع حال العالم فينتحر. كذلك، فإن الراهب يُـصاب بالأسئلة
الوجدانية المطروحة ونراه وقد أخذ يفكر بتفجير نفسه وسط الجموع
كونه عاجزا عن فعل أي شيء آخر.
الفيلم من إخراج بول شرادر الذي كان كتب قبل عقود
فيلم «سائق التاكسي» (إخراج مارتن سكورسيزي وبطولة روبرت دينيرو).
وهناك تشابه بين الفكرتين: بطل «سائق التاكسي» سأخط على مجتمع لا
أخلاقي وسوف ينتقم منه بالقتل. بطل «فيرست ريفورم» بات لا يرى
أملاً في نفسه وسوف ينتقم من العالم بقتل نفسه وآخرين معه. بطل
«سائق التاكسي» يحلق شعر رأسه. بطل الفيلم الحالي يلف نفسه بحزام
ناسف، قبل أن ينزعه ويلف نفسه بشريط شائك. كلاهما يرفض ما حوله ولو
من موقعين مختلفين.
الفيلم الجديد جاد وداكن وليس لديه وقت لكي يمضيه
في طرح احتمالات مختلفة. بطله يطرق أبواباً في بحثه عن نفسه وسط
الأزمة التي تنتقل إليه بالتدريج.
- حياة مهدورة
أما الفيلم الثالث، فلا علاقة له بأحوال الدنيا
والبيئة ومآزق المستقبل، لكنه لا يخلو من الحديث عن أزمة فردية.
كذلك هو الوحيد بينها المبني على شخصية واقعية. الفيلم هو «نيكو:
1988» وهو سيرة حياة المغنية كريستا بافغن (التي اشتهرت باسم نيكو)
كما أخرجتها الإيطالية سوزانا نكياريللي وقدمها المهرجان في افتتاح
قسم «آفاق».
كريستا كانت واحدة من هيبيات الأمس (في السبعينات
والثمانينات) وصاحبت الرسام آندي وورهول في نيويورك قبل أن تعود
إلى بلادها. الفيلم يستحوذ على السنوات الثلاث الأخيرة من حياتها:
ما زالت مدمنة مخدرات ولو أنها باتت في الخمسين من عمرها. حادة
الطباع. تغني بالطريقة ذاتها التي اعتادت عليها وتعيش ما بين
ذكرياتها وآمالها. لا الأولى ما زالت ممكنة ولا الثانية محققة.
ماضي المغنية (ظهرت ممثلة أيضاً في أفلام لوورهول
وفي «الحياة اللذيدة» لفديريكو فيلليني) يُـستعاد ببضع مشاهد مصورة
ومنفـذة كومضات ضوئية سريعة، كما في بعض الحوارات التي تتبادلها
كريستا مع مدير أعمالها. لكن كريستا تحاول إنقاذ نفسها بالغناء. في
تلك الأعوام كانت حاولت بالفعل العودة إلى تسجيل الأغاني والفيلم
يصور هذه المحاولات، لكنه معني بتصوير الحالات أكثر. حالاتها مع
نفسها وحالاتها مع محيطها.
هناك رغبة حثيثة في سرد حكاية صادقة، والممثلة
الدنماركية تراين ديرهولم جيدة. لكن القرار بتقديم كريستا امرأة
عدائية ومتذمرة ومدمنة يضع مسافة واضحة بين الفيلم ومشاهديه.
شاشة الناقد
الفيلم:
The Hitman’s
Bodyguard
إخراج: باتريك هيوز
النوع: الولايات المتحدة (2017)
تقييم:(2Stars)
لا تتشابه الأفلام الشعبية بالحكايات والأحداث فقط،
بل بموسيقاها وبمؤثراتها وبحواراتها التي تشبه عناوين الدعايات
التجارية. أما المغالاة فيمكن تأليف الكتب فيها. بالنسبة لـ«حارس
القاتل»، الذي تربع على عرش الإيرادات في أسبوعين ضعيفين أنجزت
فيهما الأفلام أسوأ الإيرادات من 30 سنة، فهو لا يخرج من هذه
العناصر النمطية.
الممثلان الرئيسيان فيه، سامويل ل. جاكسون ورايان
رينولدز، مصممان على أن يتساويا طوال الوقت بعدد الأهداف على طريقة
«ضربة منك ضربة مني» و«لقطة لك ولقطة لي». الموسيقى هي طبول
دجيتالية مزودة بأصوات مبهمة أقرب إلى أصوات سكاكين ممتزجة مع
أصوات الرصاص أو القنابل أو إطارات السيارات، أو أي شيء يمكن له أن
يقع في المشهد الواحد.
نتعرف على الحارس الشخصي قبل القاتل. صحيح كلاهما
يقتل لكن الفيلم قائم على الفصل بين المهنتين والقول إنه حتى
القاتل يحتاج إلى حارس يحميه من القتل! هنا نجد مايكل برايس (رايان
رينولدز) وهو يوصل الياباني الذي تكلف ورجاله بحمايته إلى طائرته
الخاصـة. سعيد بالمهمة المنجزة بنجاح على خطورتها. لكن رصاصة من
مصدر غامض تكسر زجاج النافذة وتغتال الشخصية اليابانية المهمـة.
طبعاً في مثل هذه الحالات سيلتفت الجميع إلى الوراء
لتحديد مصدر الرصاصة. لكن رجال مايكل يركضون جميعاً إلى الأمام كما
لو كانت فرصة لركوب الطائرة مجاناً. بعد ذلك يأتي دور القاتل
المحترف داريوس (جاكسون) الذي كان يقضي عقوبة في السجن في
بريطانيا، لكن لا أحد يمكن له أن ينجز المهام التالية سواه. لذا؛
يُطلق سراحه من جديد ما يدفع بالبروسي ڤلاديسلاڤ (غاري أولدمن)
لإرسال جيوشه لقتل داريوس تبعاً لثأر قديم.
عندما يتحد الرجلان (القاتل والحارس) ويواجهان
الأعداء كل عشرة معاً، فإن هذا ما ينتظره الفيلم لكي يرقص على
أنغام رصاصه ويطلق العبارات التي قد تضحك السذج وحدهم.
المعالجة هنا، تحت إدارة الأسترالي باتريك هيوز
(حقق من قبل
The Expendables 3)،
تشبه كرة ملونة تفلت من يدي الطفل الذي كان يلعب بها فتهرب منه
بعيداً ومن دون اتجاه محدد. الفيلم يتجه في البداية ليكون فيلم
أكشن، ثم يُـصاب بلوثة «الأكشن كوميدي». هو عن بطلين متناقضين،
وهذه وحدها حالة سينمائية متكررة مئات المرات. لكن في كل الأوقات،
هو فيلم متسارع وخال من الرغبة في رفع مستوى التلقي عبر رفع مستوى
العمل.
يبدو الفيلم متسارع لا الخطى في مرحلة التوليف فقط،
بحيث لا يمكن لأي مشهد أن ينال حقه من الاهتمام، بل متسارع في
الإنجاز بحيث تتكرر الأخطاء التنفيذية، ليس تلك المقصودة أن تبدو
هكذا، بل تلك التي لا يجب أن تقع أساساً. في أحدها، يتحدث داريوس
على هاتفه النقال مع زوجته (سلمى حايك) بينما يستخرج رصاصة استقرت
في ركبته. إذن، هي مجرد نظرية (أو ربما أكذوبة) في أن مثل هذه
الإصابات تحتاج إلى عمليات جراحية يقوم بها متخصصون.
سنوات السينما: الحب ينقذ الرجل العنيف
Sunrise
الحب ينقذ الرجل العنيف
(1927)
كان المنتج ويليام فوكس شاهد فيلم فردريك ولهلم
مورناو الأسبق «نوسفيراتو» (1922) وأعجبه جداً. عندما وصل المخرج
الألماني إلى هوليوود أبدى فوكس استعداده للعمل معه. النتيجة هذا
الفيلم الكلاسيكي الصامت بعنوان «شروق». الفيلم الوحيد في التاريخ
الذي فاز بأوسكار اسمه «أفضل فيلم فني». في العام التالي لفوز
الفيلم تم إلغاء الجائزة.
لا اسم للرجل أو لزوجته، كذلك لا اسم للبلدة التي
تقع فيها الأحداث. ففي البداية ترد مقدمه تقول إن الحكاية يمكن أن
تقع في كل مكان. القصـة للكاتب الليتواني هرمان سودرمان والفيلم
يبدأ بزيارة تقوم بها فتاة من المدينة (مرغريت ليفنغستون) إلى بلدة
ريفية تتعرف خلالها على الفلاح البسيط المتزوج حدياً (جورج
أوبرايان). توحي له ببيع مزرعته والهجرة معها إلى المدينة، وعندما
يسألها، وهما ملتقيان تحت جنح الظلام، عن زوجته، توحي له بأن
يغرقها وأن يتم الإغراق كما لو أنه نتيجة حادثة. الزوجة التي تعرف
أن زوجها يخونها تحتضن طفلهما الصغير وتبكي، لكنها تفرح عندما
يخبرها الزوج بأنهما سيمضيان يوماً في البحيرة.
لا يتكلـم الزوج لزوجته وتجلس هي في نهاية القارب
مستاءة من انطوائه وتصرفه ثم تفاجأ به يوقف المركب وسط الماء
ويتقدم صوبها يريد خنقها. تصرخ وتبكي ثم تترك المركب، وقد وصل إلى
الشاطئ، وتركض هاربة. يفيق إلى وعيه ويركض وراءها طلباً المغفرة
ومكرراً «لا تخافي» وعندما تمر حافلة في طريقها إلى المدينة تركب
فيها، لكنه يلحق بها. يمر وقت طويل قبل أن تغفر له وتثق به. يقرر
أن يحتفلا بذلك. يدخلان صالون حلاقة ومطعماً ومرقصاً وكارنفال
ألعاب وكنيسة، حيث يتصرفان كما لو تزوجا من جديد ثم محل تصوير.
في نهاية الليل وبينما هما في المركب من جديد
عائدان إلى القرية تهب عاصفة هوجاء وتقلب المركب الصغير. يبحث
الزوج عن زوجته ويصدم يدرك أنها غرقت. تهرع القرية لمساعدته في
البحث. حين يختلي بنفسه محبطاً يسمع صفير عشيقته يناديه. يخرج
إليها ويطاردها بغية قتلها. لكن رجال القرية اكتشفوا الزوجة وهي
على رمق الحياة. يترك العشيقة من بين يديه ويهرع إلى زوجته التي
تفيق من الإغماءة لتجده قربها.
ورد هذا الفيلم في نهاية الحقبة الصامتة، وهو أقرب
إلى احتفاء وداعي بتلك الحقبة؛ كونه عملا فنيا يرفض التنازل عن
مستواه على الرغم من أن الحكاية تمر في منتصفها بمشاهد كوميدية
التشكيل. لا يسقط الفيلم، بسبب هذه المشاهد وما يمنعه من السقوط هو
معالجته الفنية الراقية وكيفية إدارته ممثليه بحيث لا يسقطان في
المغالاة.
فصل المدينة هذا الذي نرى الزوجان يعيشان متعة
الحياة رغم فقرهما، هو مقارنة دامغة بين عالمين مختلفين. المرأة
الطيبة هي الزوجة وهي ريفية. المرأة الشريرة هي التي ترغب في رجولة
الزوج وهي من المدينة. المدينة في فيلم مورناو قد تجلب السعادة.
مبهجة. احتفائية. راقصة وفيها الكثير مما لا يمكن لحياة الريف أن
تستوعبه. لكنها أيضاً أشبه بالحلم الذي ينتهي بكابوس.
في أحد المشاهد الأولى يوفر المخرج قدرته على ترجمة
الحس الدرامي المطلوب بصرياً: نرى الزوج يركض لملاقاة عشيقته في
الغابة ليلاَ. في البداية تلحق به الكاميرا. وفي الثانية تتابعه في
«تراكينغ شوت» متوازيا مع حركته. في الثالثة - وقد أصبح قريباً من
مناله - تسبقه. كذلك، فإن كل تلك اللقطات المتشابكة والممزوجة
والمشهد الذي يصور فيه الزوجين وهما يمشيان متعانقين وسط ساحة
المدينة من دون اكتراث للسيارات المتكاثرة (لقطتهما على خلفية لقطة
منفصلة أخرى) ما هي إلا تعابير وليس وسائل للتعبير.
كان مورناو برهن على حسن استخدامه الظلال والإضاءة
من قبل وهنا يوفر المستوى الجيد ذاته. كذلك يوظـف جرس الكنيسة
لخدمة أحاسيس معيـنة. ليس على نحو ديني، فجرس الكنيسة لا يُـقرع
على النحو المعهود، بل كرنين موسيقي شبيه بتلك التي استخدمها
المخرج في رائعته «نوسفيراتو». انطلاقاً، فإن كل شيء معبر عنه من
دون بطاقات الحوار المعتادة. حين يهم الزوج بالقتل يرخي يديه
لجانبيه ويحني ظهره فيبدو كما لو كان زومبي أو مصاص دماء ما يوحي
بأن هذا الرجل لديه استعداد للعنف فهو يهم بقتل زوجته أولاً ثم
يتصدى لمن غازلها بسكين وبعد ذلك يهم بقتل عشيقته. لكنه الحب هو ما
كان ينقذه من شروره.
المشهد: أبو أسعد فوق الثلج
• المخرجون العرب ثلاثة أنواع: نوع يؤمن بالمحلية
ولا يستعيض عنها بأي عمل خارج بيئته الشعبية أو المحلية. نوع يؤمن
بالعالمية لكنه يصنع، في نهاية الأمر، أفلاما محلية، ثم نوع عالمي
التفكير والفعل، يحقق أفلامه على نحو من يعرف تماماً كيف يصيغها
للمشاهدين عالمياً.
• هاني أبو أسعد من النوع الثالث. منذ «الجنـة
الآن» (2005)، وهو يبني عمارته الفنية خارج موطنه الفلسطيني وخارج
العالم العربي بأسره. حتى «الجنة الآن» و«عمر» و«معبود الجماهير»
التي تداولت شؤونا وشخصيات فلسطينية عرفت كيف تنفذ بها غرباً ووصل
(بأول هذه الأفلام) إلى حافة الأوسكار.
• ما ساعده على ذلك موهبته في سرد غربي لحكاياته
العربية. والآن يُقدم على خطوة أهم: لقد أنجز فيلماً لا علاقة له
بأي موضوع عربي تقع أحداثه فوق جبال ثلجية عندما تسقط طائرة صغيرة
براكبَيها كيت وينسلت وإدريس إلبا.
• إنه بالتالي فيلم مغامرات هوليوودي كامل سنراه في
مهرجان تورونتو. لكن البعض سيسارع لإطلاق النار على الفيلم ومخرجه
على أساس أنه ضحـى بالقضية مقابل الشهرة والنجاح. هذا كلام فارغ
لأن القضية تحتاج إلى الناجح لكي تنجح، وتحقيق الأفلام ذات القضايا
التي لا تبرح دور عرض صغيرة ليس الحل.
• من ناحيته، صرح المخرج عمرو سلامة، حسب ما أوردته
مجلة
The Hollywood Reporter
بأنه يعمل الآن على تحقيق فيلم بعنوان «قناص عراقي» ((Iraqi
Sniper
هو، حسب وصفه، الجانب الآخر من قصة «قناص أميركي» الذي أخرجه كلينت
إيستوود سنة 2014، حسب ما قاله لمراسلة المجلة الأميركية فإنه كره
فيلم كلينت إيستوود، ليس قليلاً بل… «كرهته كثيراً جداً لدرجة أنني
أردت العمل على نسخة أخرى من تلك القصـة».
• بذلك التصريح وضع الفيلم في أزمتين، وهذا قبل
تصوير أولى لقطاته: حرمه من احتمال نجاح في الولايات المتحدة (يبدأ
بالرغبة في توزيعه من قِـبل شركة كبيرة) والثانية أنه راهن على أن
الفيلم سيكون جيداً لدرجة أنه سيتصدى لفيلم إيستوود الذي يصفه بأنه
كان مع الحرب، أما فيلمه فسيكون ضد الحرب.
• لم يكن فيلم إيستوود مع الحرب. كان تعليقاً على
شخصية بطله التي اعتادت العنف في موطنه منذ أن كان طفلاً. وعلى
الوهم الذي عاشه بأنه على حق وحول حقيقة أنه ما عاد قادراً على
العيش في مجتمعه وبات غريباً في بيته ما جعله يؤثِر العودة إلى
العراق ليقتل من جديد. في النهاية يُـقتل القناص بالعنف كما عاش
بالعنف وعلى يدي مجند أميركي آخر.
• الشخصية والقصة حقيقيتان، وكل ما فعله إيستوود هو
نقلها ولم يبررها للحظة. لم يجعل القناص بطلاً ولم يسرد حكايته على
هذا النحو. لكن القراءة المعكوسة دائما ما تقع مبنية على استعداد
جاهز للشعور بالغبن.
م. ر |