«الشرق
الأوسط» في مهرجان كان (10):
خلطة من الأفلام ذات المصادر الأدبية وتساؤل حول من
سيكون الرابح الأكبر
كان - محمد رُضـا
يسدل مهرجان "كان" هذا المساء الستارة على دورة
وصفها عديدون بأنها، في أفضل الأحوال وبكثير من اللطف، إشكالية.
دورة عرض فيها نسبة أعلى من الأفلام المتسابقة غير
المميّـزة. ودورة واجه فيها جمهور المنتقدين لقيامه بإدخال أفلام
من شركتي «نتفلكس» و«أمازون» غير المصنفتين كمؤسستين سينمائيّـتين،
وبل قام باختيار أعمال تلفزيونية لتقديمها، ولو خارج المسابقة.
مع عرض آخر أفلام المسابقة يوم أمس (السبت) فإن
المهرجان، الذي ما زال لديه فيلماً واحداً خارج المسابقة لكي يعرضه
بعد توزيع الجوائز هذا المساء (فيلم تشويقي جديد للمخرج رومان
بولانسكي)، أظهر أنه لم يكن جاهزاً بأفلام متميّـزة كثيرة، ناهيك
أن تكون متميّـزة لدورة أريد لها أن تحتفي بمرور 70 سنة على
إقامته.
مدير المهرجان، تييري فريمو، أوحى بأن الأفلام التي
أرادها، ومن بينها «دنكيرك» للأميركي كريستوفر نولان و«أنيت» للاوس
كاراكس و«فكتوريا وعبدل» لستيفن فريرز، لم تكن كلها متوفرة وقتما
حان موعد إغلاق الإنتساب. وربما يؤكد ذلك أن فيلم لين رامزي الذي
هو آخر أفلام المسابقة المعروضة بدا كما لو أنه لم يسعه الوقت
الكافي حتى لإضافة أسماء العاملين به في النهاية.
استيحاءات هيتشكوكية
الفيلم هو «أنت لم تكن هنا حقاً» وهو مأخوذ عن
رواية قصيرة للكاتب جوناثان آمس أرادت المخرجة رامزي نقلها
بإيقاعها وجوانبها الحادة. هي غير مكتوبة كسرد كلاسيكي وفيها أحداث
تختلط بأحداث وأخرى تقفز فوقها، وهكذا الفيلم مع إضافة أن العديد
من مشاهد الإستعادة (فلاشباك) تظهر في غير موضعها كما لو أن
المخرجة كانت فعلاً بحاجة لمزيد من الوقت للقيام بتوليف الفيلم على
نحو أجدى.
إنها حكاية قاتل مأجور أسمه جو (يواكين فينكس) يعيش
اليوم بأوجاع الأمس الدفينة. شخصية مرتبكة وحادة يطلب منها البحث
عن فتاة في الرابعة عشر من عمرها تم خطفها من قِـبل عصابة تتاجر
بالفتيات الصغيرات في عالم موحش يسوده الفساد بين النافذين وأصحاب
الثراء. الفكرة بحد ذاتها مقبولة وإن لم تكن منفردة وهناك ما
يذكرنا بأن مهمّـة روبرت دينيرو في «تاكسي درايفر» سنة 1976 لم
تكن مختلفة بإستثناء أنه لم يكن قاتلاً مأجوراً بل سائق تاكسي
يغشوه الضباب دافعاً به لمحاولة تصفية أشرار مشابهين.
جو لديه أسباباً أهم من أسباب شخصية دينيرو في ذلك
الفيلم وبعضها لا يعود فقط إلى ماضيه البعيد حين كان لا يزال ولداً
صغيراً. فهو شارك في المجهود الحربي الأميركي كمجند والتحق
بالمخابرات المركزية بعد ذلك وفي الحالتين قتل ما يكفي لكي يزيده
ذلك اضطراباً. هناك مشاهد منجزة بتفاصيل بصرية رائعة لكنها لا تمنح
العمل إلا حسنة واحدة في هذا السياق وهو الذي كان يحتاج إلى قدر من
التأني وبعض الإيضاح الممنهج جيداً.
الفيلم الذي سبقه، وذاك الذي سيختتم الدورة هذه
الليلة كلاهما تشويقي أيضاً.
الفيلم السابق هو «عشق مزدوج» للفرنسي فرنسوا أوزون
المقتبس من رواية أيضاً هي «حياة توأم: عشق مزدوج» للكاتبة
الأميركية جويس كارول أوتس صاحبة أكثر من 40 رواية منذ مطلع
الثمانينات وإلى اليوم. الماضي يلعب هنا دوراً مهماً فالفيلم حول
طبيب نفسي أسمه بول (جيرومي رنيير) الذي يعالج إمرأة شابة (مارين
فات) لجأت إليه لأنها باتت تعتقد أن أوجاع معدتها ناتجة عن حالة
نفسية وليس بدنية (كما أكد كذلك الأطباء). كليو تجذبه وسريعاً ما
يبدآن علاقة قبل أن تعلم بأن للطبيب شقيق توأم ولو أن ماضيه (أو
ماضيهما إذا أحببت) يبقى خارج قدرتها على الإلمام.
لويس (شقيق بول) هو أيضاً طبيب نفسي وهي تعرض
مشكلتها الصحية عليه وتجد أن حلوله ليست متطابقة مع تلك التي وفرها
بول. والأمور تتعقد من هنا وصاعداً وتتسع لمزيد من المتاهات التي
يعالجها أوزون جيداً لكنه يستعير من هيتشكوك ودي بالما (من الأخير
مبدأ المرايا الرامز لتعدد الشخصيات) ولو أنه يفتقد قدرتهما على
إبقاء التشويق خالياً من عيوب الرغبات الشخصية التي لديه.
عودة بولانسكي
أفضل منه فيلم رومان بولانسكي الذي يأتي ليختتم
الدورة السبعين والمرء يتمنى لو كان اختير للإفتتاح فلربما منح
الحضور طمأنينة لم يستطيع «أشباح إسماعيل» المتوعك توفيرها.
بولانسكي في «قصة من الواقع » مبني أيضاً على مزيج
من سينما هيتشكوك وسينما دي بالما. موسيقى ألكسندر دسبلات ليست
بعيدة الشبه بموسيقى برنارد هرمان لفيلم ألفرد هيتشكوك «فرتيغو»
(1958) وحياكة قصّـة تتناغم ومعطيات علاقة صراع بين إمرأتين وتقترب
ثم تنزوي بعيداً عن المثلية الجنسية تشبه تلك التي أقدم عليها
الأميركي دي بالما في فيلمه الفرنسي (انتجه طاق بن عمّار) «شهوة»
(2012) ولا حتى فيلم ألان كورنيو «جريمة حب» (2012). وهو أيضاً
مقتبس عن رواية أدبية وضعتها دلفين دي فيغان قبل بضع سنوات.
يفتح الفيلم على كاتبة ناجحة أسمها (أيضاً) دلفين
(إيفا غرين) وهي توقع كتابها الأخير في حفل أدبي. هناك تتعرف على
إمرأة تتقدم منها في نهاية صف طالبي التوقيعات أسمها «هي»
Elle،
كما تقدم نفسها.
إل (إيمانويل سينجر) تعمل ككاتبة في الظل وتمنح
دلفين أسباباً سريعة للتواصل معها. "أستطيع مساعدتك على كتابة
روايتك المقبلة"، تقول لها. لكن إل لا ترغب في المساعدة بقدر ما
ترغب في التسلط على حياة دلفين وإدارتها كما ترغب. في مكان ما من
منتصف الفيلم، وبعد أن انتقلت إل لتعيش في البيت ذاته الذي تعيش
فيه دلفين، تدرك الأخيرة أنها أصبحت في خطر السقوط في حفرة المرأة
الأخرى وهي تسقط فعلاً إنما على سلم منزلها الباريسي ما يصيبها
بكسر في الساق. هنا لم يعد هناك إمكانية عدم اتكالها على إل خصوصاً
وأن صديقها (فنسنت بيريز) غائب في رحلة إلى الولايات المتحدة.
سيبقي الفيلم مشاهديه مستمتعين معظم الوقت. فيه بعض
التشويق وفيه بعض الحيل وبعض التاريخ الغامض للشخصيات، لكن النظرة
الأعمق تكشف عن سيناريو مرتب ليقود مشاهده من وضع لآخر بفعل الصدف
والإختيارات المنتقاة من المفارقات على الرغم من إحتمالات أخرى يتم
إلغاؤها.
أذا ما كان مدير المهرجان تييري فريمو يعتقد أن
المهرجان المنسدل أدّى دورة ناجحة فإن المنتج والموزع الفرنسي
تييري لانوفل يكشف في حديث بيننا أن المسألة انتقلت بالفعل من
مهرجان يقصد دعم السينما عموماً إلى مهرجان صناعي يكثّـف وجود
السينما الفرنسية:
"ليس كل السينما. هل شاهدت فيلماً فرنسياً فنياً أو
مستقلاً هنا في السنوات الخمس الأخيرة مثلاً؟ غير ممكن".
موضوع متواصل
إلى ذلك يشير إلى أن ما تم عرضه من أفلام فرنسية لم
ينل معظمها تقدير غالبية النقاد هو أفضل ما تقدّمت به شركات
التوزيع: "هل شاهدت أفلاماً من باتيه وغومون مثلاً؟" وعند الإجابة
بالنفي أضاف: "لأنها لا تملك أفلاماً جديرة بالتقديم حتى ضمن هذا
الحيز المحدود من الفن".
السوق، حسب رصد المجلات الأميركية والفرنسية
المتخصصة بالصناعة والإنتاج، مثل «ذا هوليوود ريبورتر» و«فيلم
فرنسيس» و«فاراياتي»، كان ضعيفاً. الصفقات إما عقدت قبل الحضور
إليه أو إنها لم تكن بالمبالغ العالية التي كانت سائدة حتى ثماني
سنوات مضت.
وخلال الساعات الأخيرة من المهرجان طفت إلى السطح
مجدداً عقدة «نتفلكس» التي عرضت فيلمين من إنتاجها هما «حكايات
مايروفيتز» و«أوكيا» بنجاح نقدي محدود. ما أعاد القضية إلى الظهور
بيان من «إتحاد السينمات الأوروبي» (UNIC)
يمثل 36 سوقاً أوروبية، شدد على أن كل الأفلام عليها أن تكون صالحة
للعرض في صالات السينما.
هذا الإتحاد القوي من شأنه أن يحبط أي مسعى لنتفلكس
أو لمنافستها أمازون في عرض أفلامها في أي مهرجان أوروبي، وربما
آسيوي إذا ما أصدر إتحاد مشابه مثل هذا المشروع.
وهذا ما يعارضه المخرج رومان بولانسكي الذي صرّح
تعليقاً على البيان وعلى التجاذبات التي سادت المهرجان منذ إعلانه
اشتراك هذين الفيلمين في المسابقة بأن لا خطر على السينما من وجود
العرض المنزلي المباشر. قال:
"الناس لا تذهب إلى صالات السينما بسبب تقنيات
الصوت الأفضل ولا بسبب المقاعد الأكثر راحة فقط، بل لأنها تريد أن
تشاهد الأفلام معاً". ثم أضاف: "الجمهور يحب مشاهدة الأفلام على
نحو جمعي. إنها تجربة متأصلة تختلف كثيراً عن تجربة مشاهدة الأفلام
في المنزل وحيداً".
وبينما ترفض هذه المسألة أن تُـطوى قبل أن يسدل
«كان» ستار النهاية فإن الحديث الجامع والأهم هو من الذي سيفوز
بالجائزة في هذه الدورة؟
هناك عدة حقائق قد تضعنا أمام الأفلام الأعلى
احتمالاً بالفوز أهمها أن المميّـز فعلاً محدود وقليل. معظم
الأفلام المشتركة في هذه الدورة ذات عجينة متشابهة من المواد
البصرية والفنية ما يجعلها متشابهة في مستوياتها الإبداعية.
صوب النتائج
كما تقدّم هناك الفيلم الروسي «بلا حب» الذي نال
التقدير الأعلى بين النقاد في هذه الدورة. إنه جديد مخرج يوفر
لمشاهديه الأسلوب والعين الناقدة أسمه أندريه زفينتسيف وفيلمه
الجديد، وإن ليس الأفضل بين أعماله السابقة، ما زال يحمل هاتين
المتعتين في الشكل والمضمون.
وكان يمكن له أن يبقى في سدّة الترجيحات وحيداً
لولا فيلم آخر حمل قوّة شبه مساوية عنوانه «مخلوق رقيق» لمخرجه
الليتواني سيرغي لوزنيتسا. إنه فيلم يدور بكامله حول إمرأة تعيش في
بلدة روسية (فاسيلينا ماكوفتسيفا) استلمت طرداً كانت أرسلته لزوجها
السجين. لا تعرف لماذا أعيد إليها ولم يوفر لها أحد أي تفسير فتقرر
أن تقطع المسافة الطويلة بين قريتها وبين السجن الكامن في مقاطعة
روسية بعيدة لعلها تحظى بالجواب. حال وصولها تجد نفسها ممنوعة حتى
من الدخول من بوابة السجن الخارجية. ستسعى وستصد أكثر من مرّة
وستقضي ليلتها الأولى في بيئة من السكارى والثانية ما بين الشارع
وغرف إنتظار، هذا قبل أن يلتوي الفيلم 90 درجة جانبية ليدخل في
عالم من الفانتازيا في فصل طويل وغير متصل فعلياً بما سبق يمكن
لصقه بأي فيلم آخر ليؤدي ذات الهدف غير المحدد.
روسيا في هذا الفيلم بلد من العاهرات والسكارى
والفساد الإجتماعي. لكن المشكلة هنا هي أنه بوجود استثناء واحد عن
هذه القاعدة (هو الزوجة المصرّة) فإن هذا الموقف يقتنص نفسه. يقلل
من قيمة النقد لعدم امتثاله للواقعية ولخلوه من عنصر آخر (ولو
واحد) يقدّم تنويعة ما.
أسلوبياً، يحمل ذات ما حرص المخرج عليه في أفلامه
التسجيلية والروائية معاً وهو توظيف كل مشهد يحمل أكثر من شخص واحد
فيه، للإستماع إلى حكايات متبادلة بين الشخصيات حتى وإن لم تكن
متصلة بالأحداث. مشهد مثل إنتقال بطلة الفيلم في مقطورة مزدحمة
بينما تتناهى إلى مسامعنا ما يتبادله باقي الركاب من حوار كما لو
أن مهمّـة الفيلم سرد الحكاية الأساسية وكل حكاية أو موقف ممكن،
سرعان ما يخضع الفيلم لرتابة غير مقبولة.
على ذلك قد يفوز هذا الفيلم بجائزة ما. كذلك فيلم
تود هاينس «ووندرستراك» لكونه يلتقي في صميمه مع ما يتعامل وإياه
رئيس لجنة التحكيم المخرج الأسباني بدرو ألمادوفار من قضايا في
أفلامه: الماضي العابق بمشاكل نفسية وعاطفية تؤدي إلى حاضر من
اللون نفسه.
في المقابل، فإن ما يخرج من الإعتبارات المبدأية هو
أكثر مما يدخلها وفي هذا الصدد فإن الرأي المنتشر هنا أن فيلمي
صوفيا كوبولا «المنخدعات» وميشيل هنيكه («نهاية سعيدة») لا
يستحقان الفوز ما يرفع من احتمال فوز «ووندرستراك» أيضاً أو فيلم
التركي- الألماني فاتح أكين «في الإختفاء».
وبما أن المهرجان فرنسي ومعظم أفلامه مبللة بتمويل
فرنسي (حتى لو تحدثت بلغة أخرى) فمن غير المستعجب خروج أحدها
بجائزة ولو في مدار جوائز لجنة التحكيم.
|