مكتشف الرواد..محمد
كامل القليوبي
منير عتيبة
معظمنا
يعرف
المخرج
محمد
القليوبي،
يعرف
أعماله
السينمائية،
وربما
التقاه
البعض
فى
ندوة
أو
مؤتمر
أو
مهرجان
فنى،
لكن
الباحث
الرائد
الذى
غير
الكثير
مما
كنا
نظنه
عن
تاريخ
وبدايات
ورواد
السينما
المصرية،
هذا
الباحث
محمد
كامل
القليوبي
ربما
لا
يعرف
الكثيرون
عنه
شيئا،
وربما
أقل
منهم
من
يعرفون
عن
رحلته
فى
اكتشاف
رائد
السينما
المصرية
محمد
بيومي،
وهى
الرحلة
التى
تقدم
نموذجا
للإصرار
والإخلاص
والبحث
الجاد.
لم يكن
محمد بيومى سئ الحظ جدا، فبعد وفاته سنة
1963
بخمسة
عشر عاما فقط بدأ الدكتور محمد كامل القليوبي رحلة البحث عنه سنة
1978،
فى حين أن غيره من عباقرة العالم فى مجالات مختلفة كان يتم اكتشاف
بعضهم بعد رحيلهم عن عالمنا بقرن من الزمان أو يزيد.
بدأت
رحلة بحث الدكتور محمد كامل القليوبي عن محمد بيومى الرائد الأول
للسينما المصرية عام
1978،
فأخذ ينشر مقالات ودراسات عن هذا الرائد، إلا أن البعض شككوا فى
تأكيد القليوبي على الدور الريادى لبيومى، فترك القليوبي بطون
الكتب والمجلات القديمة وغادر مكتبته ودار الكتب، وبدأ تنقيبا
أثريا عن أفلام بيومى، فعثر على التراث الهائل لهذا الرائد الكبير
والذى أكد عمليا صدق نظرية القليوبى عن ريادة بيومى للسينما
المصرية.
ستة
عشر عاما قضاها القليوبي بحثا عن ووراء وفى حياة بيومى منذ
1978
وحتى
صدور كتابه
“محمد
بيومى..
الرائد
الأول للسينما المصرية”
سنة
1994
عن
أكاديمية الفنون، وحدة الإصدارات سينما2،
وقد سبق هذا الكتاب بحثان للقليوبي عن بيومى هما البحث الأركيولوجى
المتمثل فى التنقيب والبحث ثم الكشف عن أفلام بيومي وأوراقه
ومذكراته وتراثه، والبحث السينمائى المتمثل فى فيلم
“محمد
بيومى ووقائع الزمن الضائع”
الذى
أنجزه القليوبي عن حياة بيومى وأعماله.
تغلغل القليوبي فى حياة بيومي من خلال ما كتبه من مذكرات وأزجال
ومقالات وما أصدره من مجلات وما رسمه من لوحات وما كتبه غيره عنه،
ومن خلال أفلامه الروائية والوثائقية، ومن خلال شهادات الذين
عاصروا بيومى وتعاملوا معه.
ينقسم كتاب القليوبي عن بيومى إلى ثلاثة أجزاء رئيسية:
1-الجزء
الأول يتضمن المادة العلمية التى جمعها القليوبي عن حياة بيومى
وأعماله المكتوبة والمرئية، وينقسم هذا الجزء إلى ثلاثة أقسام كما
يلى:
1-1-يهتم
القسم الأول بـ”تسجيل
حياة بيومى أو على الأصح الخطوط العامة لها ولمسارها متوقفا عند ما
اعتبره محطات هامة فيها”ص9.
وفى
هذا القسم يقدم لنا القليوبي بيومي باعتباره ذلك الإنسان المتوقد
الذكاء والموهبة، الذى لا يقر له قرار، دائم التنقل والترحال بين
دراسات مختلفة، وأعمال متنوعة، وبلاد عديدة، وأهم ما يميز بيومي
أنه يحمل روح الرواد الذين يبحثون دائما عن الجديد شعارهم
“ما
لم يفعله من قبل أحد”.
1-2-وفى
القسم الثانى يعرض القليوبي
“محاولة
قراءة أوراقه
–يقصد
بيومي-
السينمائية، وتتمثل فى كل ما كتبه عن السينما فى أوراقه ومذكراته
ومحاولة استيعابها على ضوء ظروف حياته وعمله فى السينما، وواقع
السينما المصرية وقتها”ص9.
وهنا
يقدم القليوبي عرضا لمذكرات بيومي المعنونة
“الجندى
المجهول مذكرات وأزجال”،
ولكتابه غير المنشور
“الشريط
الأحمر-الجيش
فى عهد الاحتلال البريطانى”،
وبعض مقالاته وما كان يكتبه من ملاحظات عن المعلومات الخاطئة التى
تنشرها بعض الصحف والمجلات عن بدايات السينما المصرية ناسبة الفضل
فى قيامها إلى طلعت حرب، ومعطية دورا كبيرا لمحمد كريم وحسن مراد
متجاهلة تماما محمد بيومي، بالإضافة إلى الرسائل التى كان يبعث بها
إلى بعض الجهات والمسؤولين ليوضح لهم الحقيقة.
1-3-ويعنى
القليوبي فى القسم الثالث
“بمحاولة
دراسة أعمال محمد بيومى السينمائية مع وضع أول فيلموجرافيا له فى
حدود ما تمكنا من تحقيقه”ص9.
وهنا
كان القليوبي حريصا على الدقة المتناهية فلم يسجل فى الفيلموجرافيا
سوى
“الأعمال
التى تأكدت من إنجازها سواء التى وجدت مؤخرا أو التى تم الاستدلال
بصورة قاطعة على وجودها رغم فقدها”.
2-أما
الجزء الثانى من الكتاب والذى يشمل النص السينمائى لفيلم القليوبي
عن بيومى فيتضمن المعلومات التى سبق وأوردها فى الجزء الأول
بأقسامه الثلاثة، ولكن يزيد عليها الشهادات الحية التى سجلها
الفيلم للسيدة شارلوت يوسف كرالوفيتش أرملة بيومي ودولت بيومي
ابنته وبطلة فيلمه الخطيب نمرة
13
وغيرهما.
3-والجزء
الثالث هو الوثائق التى يتضمنها الكتاب، ويقع هذا الجزء فى
56
صفحة
(الكتاب
كله
185
صفحة)
ويضم
عددا كبيرا من الوثائق المتنوعة مثل الإعلانات عن الأعمال التى قام
بيومي بممارستها بعد إحالته إلى الاستيداع عام
1918
كالخياطة، وصناعة الموبيليا، والأدوات الفوتوغرافية، والصحف التى
أصدرها بيومي تأييدا لثورة
1919،
ورسومه الكاريكاتيرية السياسية، والشهادات التى حصل عليها من
ألمانيا فى مجال السينما، وأزجاله، وإعلانات أفلامه، وغيرها.
بالإضافة إلى
21
صورة
فوتوغرافية متناثرة فى الكتاب، بعضها لبيومي فى مراحل مختلفة من
حياته، وصورة لزوجته، وصورة لابنته، ولوحات بريشته، ولقطات من
أفلامه.
يتميز كتاب القليوبي بأنه شخصى جدا، بمعنى أ،ه يحكى تجربة القليوبي
الشخصية فى التعامل مع بيومى، كيف عثر عليه؟ كيف بحث عنه؟ الصعوبات
التى واجهته، المجهود الذى بذله، رؤيته الخاصة للمداة الوثائقية
التى تجمعت بين يديه، إبداعه لفيلم عن بيومي من خلال هذه المادة.
فلولا
الاقتناع الخاص، والمثابرة الشخصية، لما كان لهذا البحث الذى طوله
16
عاما
أن يستمر
“ولسنا
متأكدين من استمرارية أية محاولات للبحث عن هذا التراث الضخم والذى
يتجاوز عدده أكثر من ألف فيلم مفقود فى غيبة أية مراكز بحثية
متخصصة أو حتى اهتمام حقيقى بهذا الموضوع حيث لا تعدو عملية العثور
على الأفلام الأولى المفقودة للسينما المصرية أكثر من كونها جهد
شخصي قام به كاتب هذا الموضوع
–القليوبي-
بمبادرة منه وبتمويل عملية البحث، التى تعد أول عمل أركيولوجي فى
تاريخ السينما المصرية، على نفقته الخاصة”ص11.
ويرى
القليوبي أن الفيلموجرافيا التى وضعها لأعمال بيومي السينمائية
والدراسة التى كتبها حول هذه الأعمال
“لا
تعدو كونها محاولة أولى كان لى شرف إنجازها لا لشئ سوى لأننى أول
من اكتشفها واطلع عليها فأصبحت أول من يمكنه عمل ذلك..
ولكن
مع عرض الأفلام جميعها فسيصبح هناك مجالا لكثير من النقاد
والدارسين لإعطاء أضواء جديدة وعمل دراسات جديدة على هذه الأفلام”ص9.
وهذا تأكيد على إن تعامل القليوبي مع المادة الوثائقية ليس هو
التعامل الوحيد الممكن، وليست قراءته لأعمال بيومي هى القراءة
الوحيدة المحتملة، ولكن يمكن التعامل مع هذه المادة وقراءة تلك
الأعمال بوجهات نظر مختلفة، ومن زوايا متعددة حسب اهتمام الباحث،
خاصة وأن المادة والأعمال موضوع البحث من الثراء بحيث تحتمل تعدد
زوايا النظر إليها.
ولعل
تضمين القليوبي للنص السينمائي لفيلم
“محمد
بيومي ووقائع الزمن الضائع”
فى
الكتاب يؤكد على هذه العلاقة الشخصية فى التعامل مع المادة
الوثائقية، وينطبق عليه ما قلناه فى السطور السابقة عن
الفيلموجرافيا باعتبار أن حياة وأعمال بيومي تتسع لاجتهادات كثيرة
توضع بجوار اجتهاد القليوبي، مع الاحتفاظ للقليوبي بدور الرائد
والمكتشف لبيومي وأعماله.
والقليوبي نفسه يقول فى ختام مقدمة الكتاب:”وأخيرا
فإن هذا البحث بقدر ما يكمل مهمتى تجاه هذا الموضوع بقدر ما يفتح
الباب أمام دراسات واجتهادات أخرى حول الرائد محمد بيومي، ليس فقط
بالنسبة لعمله السينمائي، وإنما أيضا بالنسبة لإبداعاته كفنان
تشكيلى وكشخصية وطنية لعبت دورا هاما فى تاريخنا المعاصر”.
لذلك
لا نعجب من تأكيد وإعجاب القليوبي بالأسلوب البالغ الخصوصية لبيومي،
وذلك فى دراسته لأفلامه، فهو يقول:”إن
الحساسية البالغة الخصوصية والدقة التى يتميز بها أسلوب محمد بيومي
فى تصوير أفلامه الوثائقية تعبر على الأغلب عن وجهة نظر ذاتية
خاصة، إنها رؤية خاصة لما يصوره، رؤية محمد بيومي بحسه الوطنى
والقومي الخالصة وبمشاعر جامعة تنقل موقفا كاملا من الموضوع المصور
حتى وإن بدا محايدا”ص65.
“ومن
الطبيعي أن هذا الموقف الذى تأخذه كاميرا محمد بيومي فى هذه
المشاهد الوثائقية وغيرها ليست نتيجة لتخطيط مسبق من جانب صاحبها،
ولكنها على الأصح طريقة وأسلوب فى رؤية العالم والتعامل معه،
اختيار يبدو تلقائيا أحيانا، وعفويا فى أحيان أخرى، وهنا تتجسد
مشاعر صاحب العمل، ولكن تتحكم فيه أيضا عين خبيرة ومقدرة تقنية
عالية”ص66.
وهذا الإعلاء من جانب القليوبي لخصوصية بيومي هو ما يتميز به كتاب
القليوبي أيضا، فما أوردناه فى الفقرات السابقة ينطبق بكيفية ما
على القليوبي بالقدر نفسه الذى ينطبق به على بيومي.
مما هو
جدير بالإعجاب فى النص السينمائى الذى كتبه القليوبي بعنوان
“محمد
بيومي ووقائع الزمن الضائع”
وهو
الجزء الثانى من الكتاب، تعامل القليوبي مع المعلومات والوثائق
المتاحة لديه على مستويات متعددة بحيث أصبح العمل مشحونا بقدرات
وإمكانات درامية عالية.
فعلى
المستوى الأول:
نجد
شهادات الأحياء الذين عاصروا بيومي وتعاملوا معه، كل منهم يقدم
الجانب الذى يعرفه عن هذا الرائد، وهؤلاء الشهود هم:
زوجة
بيومي السيدة شارلوت يوسف كرالوفيتس وابنته السيدة دولت بيومى،
والسيدة فايزة محمود ندا زوجة المصور عبد الرؤوف بسيونى، والسيدة
ماجدة حسن صدقى حفيدة بيومي، والدكتور حمزة البسيوني والأستاذ سعد
عبد اللطيف زميلا بيومي فى
“حركة
أنصار السلاح المصرية”،
والأستاذ فوزى حمزة محامى بيومي..
كل
هؤلاء يطرحون معلومات وذكريات تخص بيومي، وتتميز بالذاتية
والحميمية والحنين إلى الماضى وإلى الرجل الذى يتحدثون عنه، فهذا
مستوى موضوعى/ذاتى
فى الوقت نفسه.
ولكن
المستوى الثانى المتمثل فى
“صوت
المعلق”
يأتى
موضوعيا تماما بلا أى قدر من الذاتية فهو يقدم معلومات أكيدة ويقرأ
وثائق، وهذا المستوى موضوعى.
أما
المستوى الثالث فهو ذاتى تماما، إنه محمد بيومي يتكلم.
ويلاحظ
القليوبي تعامل مع هذا المستوى بذكاء وحساسية كبيرين، فعندما نسمع
صوت محمد بيومي لا نحصل
–غالبا-
على
معلومات، ولكننا ندخل فى الشخص ذاته، أقصد أننا نتعرف مشاعر
وأحاسيس بيومي تجاه المعلومات التى يقدمها المستوى الأول/الشهود،
او المستوى الثانى/
التعليق، ولذلك فصوت بيومي نسمعه غالبا وهو يلقى الأشعار والأزجال
التى كتبها.
وهذه المستويات الثلاثة تكون مايشبه الضفيرة أو الحبل المجدول، فهى
برغم تميز كل منها عن الآخر؛ تتحاور وتتداخل جدليا، فيعلق بعضها
على بعض، وتضيف إلى بعضها البعض، لتعطى فى النهاية النص السينمائى
المكتمل.
أريد
أن أسجل ملاحظة
–شخصية-
أخيرة
على اسم النص السينمائى
“محد
بيومي ووقائع الزمن الضائع”
فهو
عنوان مشحون بالحنين الشديد إلى الماضى، وهو يوحى بدلالات غير
حقيقية فيما أرى، فمن خلال قراءتى للكتاب كله أرى أن الزمن لم يكن
ضائعا بالنسبة لبيومي ولا بالنسبة لمصر أو القليوبي نفسه.
فقد
عاش بيومي زمنه/عمره
بالطول والعرض والعمق، عاش حياة حافة لا تتاح مثلها إلا لقلة
نادرة، فعل فى حياته كل ما أراده، وتمتع بكل ما فعله، ومشروعه
الكبير/صناعة
السينما فى مصر كان تأكيدا على أن شيئا لم يضع من بيومي، فهو قد
أسس المشروع الكبير الذى حلم به، وهو الذى أعطاه بنفسه لطلعت حرب
لينفذ ما خطط له بيومي، لأن بيومي يعلم أنه لا يستطيع أن ينفذ كل
الخطة بسبب قصور إمكاناته المادية، وبسبب طبيعته الشخصية أضا، فهو
يحمل بداخله روح الرواد القلقة، يريد فتح طرق جديدة دائما، وقد
يسير فى الطريق خطوة أو خطوات ليشد الآخرين إلى السير فيها، حتى
إذا اطمأن إلى أن غيره يستطيع أن يواصل المضى فى الطريق بحث عن درب
جديد غير مطروق ليمهده..
وهكذا.
تقول
السيدة شارلوت عن زوجها
“لكن
هوه بقي..
كان
عايز يفتكر دايما على حاجه جديده..
يعنى
عايز يعمل حاجه جديده”ص102.
فإذا كانت قد بدرت من بيومي بادرة ندم فى وقت ما فلم يكن الندم
لأنه تر مشروعه لطلعت حرب ولكن لأنه لم يحفظ حقوقه قانونيا عند
تنازله عن المشروع.
ولم يكن الزمن ضائعا بالنسبة لمصر، فالبذرة التى بذرها بيومي أثمرت
صناعة كبيرة فى مصر والوطن العربى كله.
وبالنسبة للقليوبي نفسه فلم تضع منه ثانية واحدة، لقد أمضى
16
عاما
فى البحث والدراسة والتنقيب، وخرج بتراث هائل ونتائج كبيرة غيرت
الكثير من المفاهيم التى كانت راسخة عن بدايات ورواد السينما
المصرية، وهذا الزمن الذى أمضاه القليوبي فى عمله ذاك جعله هو
الآخر رائدا من رواد البحث الأركيولجى فى تاريخ السينما المصرية.
رحم الله الباحث والمخرج الراحل محمد كامل القليوبي. |