'بكالوريا' كريستيان مونجيو: تحفة مسابقة مهرجان كان
العرب/ أمير العمري
“بكالوريا” أو (التخرج) هو الفيلم الروماني الثاني الذي عرض في
مسابقة مهرجان كان الـ69 للمخرج كريستيان مونجيو الحاصل على
“السعفة الذهبية” عن فيلمه الشهير “4 أشهر وثلاثة أسابيع ويومان”
(2004).
يعتبر المخرج الروماني كريستيان مونجيو أحد رواد السينما الرومانية
الجديدة التي تتناول الواقع من خلال أشكال غير تقليدية، تعتمد على
استنباط الدلالات من تحت جلد الصورة، والتحكم الدقيق في المواقف
الدرامية بحيث تبقى محكومة، لا تجعل الفيلم ينحرف قط نحو المبالغة
أو التصعيد في إبراز المشاعر، والاعتماد بدلا من ذلك على الأداء
الهادئ من جانب الممثلين، وعلى الحوارات التي تكشف في اقتصاد عن
الأفكار، والتصوير الدقيق بالكاميرا للبيئة الاجتماعية، واستخدام
الإضاءة بحيث تلقي بالكثير من الظلال، أي تخفي أكثر مما تكشف
أحيانا، حيث يبقى هناك إحساس ماثل بالوجود داخل عزلة مفروضة على
الشخصيات، تجعل المشاهد يشعر ببعدها عن بعضها البعض حتى وهي تتحاور
معا.
ويدور فيلم “بكالوريا” أو (التخرج) لمونجيو والذي عرض في مهرجان
كان السينمائي الأخير حول شخصية الأب، وهو طبيب تجاوز منتصف العمر
يدعى روميو، من عصر شاوشيسكو، يسعى بشتى الطرق لتأمين مستقبل ابنته
“إليزا” التي يريدها أن تحصل على درجات تؤهلها للالتحاق بجامعة
بريطانية، لكي يضمن إفلاتها من الواقع الضيق الخانق الذي لا يبدو
له أفق في رومانيا.
كآبة وعزلة
الواقع المحيط يعكس جو الكآبة والعزلة، فالطبيب، وهو أستاذ جامعي
يقوم بتدريس الطب، ويُفترض أنه ينتمي الشريحة العليا من الطبقة
الوسطى، يقيم مع زوجته العليلة الصحة “ماجدا” في شقة تقع في أحد
تلك المباني القبيحة الرمادية المتشابهة التي تعكس طبيعة ما عٌرف
بـ”العمارة الاشتراكية” التي تُغلب الوظيفة على الشكل الجمالي،
ورخص المواد، على توفير إمكانات أرحب للسكان، فالمعمار هنا جزء من
قبح الواقع، وتبدو الكاميرا وهي تمسح البنايات المتطابقة في منظرها
العام، وكأنها تمر بسجن كبير أو معسكر اعتقال.
الرجل يوصل ابنته إلى المدرسة، ثم يشتري بعض الأشياء ويتوجه إلى
منزل عشيقته الشابة “ساندرا”، وهي مطلقة ولديها طفل، وهي معلمة في
نفس المدرسة التي تدرس فيها إليزا، لكن اتصالا هاتفيا من زوجة
الدكتور “روميو” يجعله يقطع موعده الغرامي ويهرع إلى المستشفى، فقد
تعرضت إليزا قبل أن تصل إلى مدرستها لاعتداء جنسي، ولكننا لا نعرف
بالضبط، هل اغتصبت أم لا؟
ومع ذلك، فكل ما نعرفه أن إليزا التي تبدو الآن مضطربة مرتعشة، يجب
أن تذهب في اليوم التالي إلى الامتحان النهائي الذي سيتحدد على ضوء
ما تحصله من درجات، مصيرها، فلا بد من حصولها على درجات مرتفعة لكي
تضمن الالتحاق بالجامعة البريطانية كما يريد لها الأب، فهو يريد أن
يجنبها المصير الذي انتهى إليه.
الكاميرا تبدو في الفيلم وهي تمسح البنايات المتطابقة في منظرها
العام، وكأنها تمر بسجن كبير أو معسكر اعتقال
لقد سبق أن غادر روميو وزوجته ماجدا رومانيا في 1991، لكنهما عادا
إلى البلاد ولم يكملا المشوار، وهو قرار لا يزال يشعر بالندم
الشديد عليه، ويريد لابنته مستقبلا حقيقيا خارج هذا الواقع الذي
يراه لا يتحرك إلى الأمام.
الطبيب ليس فاسدا بأي معيار، علاقة الصداقة التي تربط بينه وبين
مدير قسم الشرطة (تعود إلى أيام الدراسة معا في المدرسة)، وهو
يستشير صديقه في أموره الخاصة ومنها مستقبل إليزا، وينصحه الضابط
بأن يقدم خدمة بسيطة إلى نائب رئيس المدينة “بولاي”، بأن يجعل اسمه
في أعلى قائمة المرضى الذين ينتظرون إجراء عملية نقل كبد، مؤكدا أن
حالة الرجل خطيرة وتستحق هذا التدخل، ويعرض الضابط على الطبيب أن
يتحدث هاتفيا مع بولاي، ويطلب منه التدخل لدى مدير المدرسة الذي
سبق أن قدم له بولاي خدمة، لكي يرى ما يمكنه فعله لضمان حصول إليزا
على الدرجات المطلوبة.
الطبيب متردد، فهو رجل معروف باستقامته ونزاهته، لكنه يرضخ في
نهاية الأمر، ويقبل تحت تأثير ذلك الهاجس القهري الذي يدفعه دفعا
إلى إنقاذ ابنته من مصير يتصور أنه نهاية العالم، وعندما يتحدث
روميو مع مدير المدرسة يؤكد باستحياء، أن إليزا متفوقة بالفعل
وتحصل عادة على أعلى الدرجات، لكنه فقط يريد أن يضمن عدم التراجع
خاصة بعد الحادث الذي تعرضت له.
هذه السلسلة من “الخدمات المتبادلة” بين أناس في مواقع النفوذ، قد
لا تضر أحدا، لكن لا شك تفيد البعض على حساب البعض الآخر، وهي
بالتالي نوع من الفساد الذي يصنع له شبكة ممتدة في البلاد، لكن،
ومن ناحية أخرى، يمكن تفهم موقف الطبيب، فهو ليس رجلا سيئا أو
جشعا، بل نراه يرفض بإصرار قبول مبلغ كبير يعرضه عليه بولاي على
سبيل المكافأة، أو كما جرى العرف حسب تصوره، مؤكدا للطبيب أن لا
أحد يجري عمليات جراحية من هذا النوع بالمجان، ومع ذلك وافق روميو
على إجراء العملية، بل وأدخل الرجل بالفعل إلى المستشفى وأخذ في
إجراء التحاليل اللازمة له، أي أنه لا ينتظر أي مقابل، كما أن حالة
الرجل حرجة للغاية وتستدعي عملية عاجلة، أي أننا أمام حالة
“إنسانية”، بل إنه سيتوفى قبل إجراء العملية.
شخصيات رمادية
هذه التعقيدات في السيناريو هي جزء من ذلك المأزق الأخلاقي الذي
يجيد كريستيان مونجيو رسم ملامحه، دون أن يقفز إلى الحكم على
شخصياته، ودون أن يحصرها بين الخير والشر على غرار هوليوود، فكلها
شخصيات رمادية، تتأرجح في مشاعرها، ويمكن للمشاهد أن يتفهم دوافعها
المتناقضة.
إن زوجة روميو التي يفيض بها بعد شيوع أمر علاقته بساندرا، تصر على
طرده من منزل الزوجية الذي هو منزله أيضا، وهو لا يقاوم ويتعنت، بل
يستسلم في قبول غريب لهذا “العقاب”، والابنة إليزا تقبل أو تتغاضى
عما يفعله أبوها من أجلها، لكنها تأتي أيضا وتتمرد معلنة أنها لا
تعرف ما إذا كانت ستسافر أم ستبقى بعد أن تحصل في النهاية على
“البكالوريا”؟
سيدفع هو الثمن، فهو سيفقد الزوجة (التي لم يكن على وفاق معها)
ويفقد بيته، كما سيفقد عشيقته وغالبا أيضا سيفقد إليزا ابنته التي
أصبحت تميل الآن للاستماع لرأي حبيبها، وربما ستذهب أيضا للعيش
معه، بل إنه أصبح الآن خاضعا للمراقبة من جهاز الرقابة الإدارية
والشرطة بسبب علاقته (التي تم رصدها) بالراحل بولاي الذي كان ضالعا
في جرائم فساد.
في بداية الفيلم يتسبب حجر ألقي من الخارج في كسر زجاج نافذة في
شقة الطبيب.. تهرع ابنته تسأله “ما الذي حدث؟”، يقول إنه يعرف، وفي
ما بعد سيحطم أحدهم زجاج سيارته، ثم ستتعرض إليزا للاعتداء الجنسي
(أو الاغتصاب)، فمن المسؤول عن هذه الاعتداءات؟
الفيلم لا يهتم بتقديم أي إجابة عن هذه الأسئلة، فلسنا أمام فيلم
من أفلام التحري البوليسية، ومونجيو يريد أن يوحي لنا بأن العيش في
هذا الواقع قد أصبح شديد الخطورة، وهو يؤكد المصير الغامض والكئيب
الذي يواجهه الطبيب في المشهد الأخير.
هل يعتبر روميو مذنبا، وأنه دفع ثمن أخطائه؟ هل أجرم ويستحق
العقاب، أم أنه كان فقط يحاول تأمين مستقبل أفضل لابنته دون أن يضر
أحدا؟ لقد كان أيضا صادقا تماما مع بولاي عندما قال له بوضوح إن
نقل الكبد قد لا يؤدي لشفائه، وربما يرفض جسمه الكبد المزروع، وأن
التحاليل هي التي ستحدد ما إذا كان يمكن إجراء العملية، أم لا.
ملامح إنسانية وتفاصيل دقيقة بديعة تعمق من واقعية الفيلم: علاقة
روميو بعشيقته، وعلاقته بابنها، وكيف يجعله يكف عن إلقاء الحجارة،
وما ينتابه في لحظة من شك في صديق ابنته، فيمسك “بخناقه” دون أن
يقدر عليه.
الهمس المكتوم، والحوارات التي تأسرك ولا تتركك لحظة تسرح بفكرك
بعيدا عنها، والعلاقة القائمة بين الشخصيات والأماكن، ونغمة الرثاء
المغلفة بحزن غامض نبيل يحمله مونجيو لجميع شخصيات فيلمه، وبالطبع،
براعة التمثيل التي تعد من أهم عناصر السينما التي يصنعها مونجيو،
وهنا يتفوق الممثل أدريان تيتياني في دور “روميو”، حيث يبدو وكأنه
قد عاش الدور في سياقه الطبيعي، وليس على حلقات منقطعة ولقطات
منفصلة، أما ماريا فيكتوريا دراغوس في دور إليزا فقد شاب أداءها
الجمود والتعبير الواحد.
أخيرا يتعين القول إن الفيلم استحق دون شك، جائزة الإخراج في
مهرجان كان إلى جانب فيلم أصغر فرهادي البديع “البائع”. |