كان 2016: فيلم "باترسون" بين الشعر والسينما
صفاء الصالح - بي بي سي – كان
قصيدة نثر بصرية، وبحث معمق في العلاقة بين الإنسان والمدينة،
واستلهام لجماليات اليومي والعادي والملموس، قدمها المخرج الأمريكي
جيم جارموش في فيلمه الجديد "باترسون" الذي قدم عرضه العالمي الأول
في مهرجان كان السينمائي.
يترسم جارموش في هذا الفيلم خطى الشاعر الأمريكي وليام كارلوس
ويليامز في قصيدته الملحمية "باترسون" التي صدرت في 5 كتب في
الفترة بين 1946 و 1958.
ولا يمكن فهم فيلم جارموش دون العودة إلى قصيدة ويليامز التي
استلهمها وبنى عمله كليا على خياراتها الجمالية ومادتها
وأسلوبيتها، فبات محاولة لتقديم تجسيد بصري للقصيدة على الرغم من
أن الفيلم لم ينقل بيتا واحدا منها بل حفل بسبع قصائد لشاعر أخر.
ويبدأ هذا الترسم من اختيار اسم بطله من عنوان القصيدة "باترسون"
الذي يعيش في مدينة باترسون في ولاية نيو جرسي الأمريكية التي كتب
ويليامز قصيدته عنها واستلهمها من أجواء احيائها ومناطقها بل وحتى
لهجتها العامية المحكية.
وحاول جارموش في فيلمه أن يتتبع بصريا ما كان قد فعله ويليامز عند
كتابته لقصيدته، إذ كان أشبه بالصحفي الذي ظل يتجول في أحياء
باترسون راصدا كل شيء فيها: الأماكن والأشجار والشلالات والحدائق
وأحاديث الناس وتفاصيل حياتهم اليومية، أو كما يصف ويليامز بكلماته
عملية كتابته لهذه القصيدة "بدأت بالقيام برحلات إلى المنطقة،
تجولت في شوارعها، ذهبت في أيام الأحد في الصيف حيث يتنزه الناس في
المتنزه، واستمعت إلى محادثاتهم قدر ما استطعت، ورأيت كل ما
يفعلونه، وجعلته جزءا من القصيدة".
الإنسان والمدينة
لقد أراد ويليامز أن يقدم لمدينته ما فعله الروائي الايرلندي جيمس
جويس لدبلن عندما خلدها في عمله الكبير "يولسيس"، إذ كتب قصيدته في
شكلها الأولي في 85 بيتا بعد قراءته لعمل جويس عام 1926.
كما شكل توجه ويليامز هذا لحظة فاصلة في التاريخ الأدبي كرائد
لتيار شعري شيئي يهتم بجماليات الأشياء الملموسة، وشكل رد فعل على
التيار الشعري المهيمن في عصره، ممثلا بالشاعرين تي أس إليوت
وقصيدته الشهيرة "الأرض اليباب" وعزرا باوند وكانتواته، بعد أن كان
ويليامز نفسه أحد الشعراء الصوريين الذين تأثروا بباوند والحركة
"الصورية".
ولتجسيد هذا البناء صوريا اختار جارموش أن يبني فيلمه على يوميات
الحياة الرتيبة لسائق حافلة (أدى دوره الممثل آدم درايفر) في مدينة
باترسون ويحمل اسم المدينة نفسها، وتابع تفاصيل هذه الحياة من
الاستيقاظ صباحا إلى رحلة العمل فالعودة إلى البيت والنوم، وعلى
مدى أسبوع كامل.
ومثل ويليامز الشاعر الذي كان يعيش من مهنته كطبيب أطفال، كان
باترسون يعيش من عمله كسائق حافلة نقل عام، ونرى صورة في منزله تدل
على أنه كان جنديا سابقا، لكنه يستغل الفرص أثناء عمله لكتابة
قصائده التوثيقية التي تحتفي باليومي وترصد الأشياء الملموسة في
الحياة اليومية.
جماليات التكرار
ويفتتح جارموش فيلمه بمشهد ظل يكرره على مدى سبعة أيام، عندما
يستيقظ باترسون من النوم في الساعة السادسة والربع صباحا ويحتضن
زوجته لورا التي تقاسمه فراشه (الممثلة الإيرانية غلشيفته فرحاني)،
ثم يتناول فطوره ويحمل صندوقا معدنيا لحفظ غذائه ويتوجه إلى العمل،
ويجرب دائما أن يبتدأ يومه بكتابة قصيدة قبل انطلاق عمله في حافلة
تحمل رقم 23، وغالبا ما يقطعها حضور مراقب العمل الصباحي الهندي
الذي يشكو له همومه الحياتية، وينطلق بعدها في جولة في شوارع
المدينة، ثم يعود مساء ليتناول عشاءه مع زوجته ويأخذ كلبها
(البلدوغ الإنجليزي) في جولة تنتهي دائما بأن يربطه أمام حانة في
المحلة ويحتسي البيرة داخلها ويتحدث مع روادها.
وظل هذا المشهد يتكرر على مدى سبعة أيام مع تنويعات بسيطة هنا
وهناك، لا سيما داخل الحانة أو مع الزوجة التي تتفنن في تلوين
الأشياء في المنزل بالابيض والأسود.
يقدم جارموش، الذي ينحو في أسلوبه نحو الاختزالية أو التبسيطية،
درسا في جماليات التكرار والتعامل مع الرتابة كعنصر جمالي، والبحث
في جماليات اليومي والعادي، ومثل تنويعات على لحن موسيقى ثابت نراه
ينوع في بعض التفاصيل اليومية كتغيير اتجاه الحركة وترتيبها دون
المساس بالبنية الأصلية.
وفي كل الأيام يتكرر أيضا تجوال باترسون بحافلته في شوارع المدينة،
مع وجوه مختلفة للناس الذين يستقلون الحافلة، ونتف من أحاديث
مختلفة بينهم تلتقطها أذنه، كما كان يفعل الشاعر ويليامز، الذي
أدخل لهجة هذه المدينة العامية في قصيدته ليحي البعد المحلي في
مواجهة التقليد الأدبي العريق لدى الشاعرين إليوت وباوند.
كما يتوقف ليستريح في أكثر من مشهد في متنزه المدينة أو قرب
شلالاتها الشهيرة، حيث يقابل في أحدها باحثا يابانيا جاء يبحث عن
أماكن ويليامز، الذي نرى كتبه أيضا ومنها باترسون في بيته، في
إشارات إلى الشاعر حرص جارموش أن ينثرها في فيلمه.
وفي كل رحلة يومية من هذه الرحلات يقدم لنا قصيدة يومية تحتفي
بالمألوف والعادي والأشياء الملموسة بدءا من قصيدة اليوم الأول
التي كتبها متغنيا بجمال ماركة علبة ثقاب.
والقصائد المقدمة في الفيلم ليست لويليامز بل لشاعر آخر يدعى رون
باجيت (73 عاما) قال جارموش إنه معجب به كثيرا وقد كتب معظم هذه
القصائد خصيصا لفيلمه.
ويحرص جارموش على وفق النهج نفسه على أن يجعل من كلمات الشعر أيضا
شيئا ملموسا يمكن مشاهدته وليس سماعه فقط، فيعمد أن يقدم على
الشاشة كتابة بخط لليد لقصائد الشاعر عندما يقوم بكتابتها، وترافق
الكتابة جانبيا المشهد السينمائي الذي تدور في سياقه القصيدة.
نوستالجيا
ولا يعتمد جارموش على حبكة درامية بل نرى أن فيلمه عبارة عن مشاهد
ولقطات ملتقطة من الحياة اليومية تنتظم في مسار خيط سردي قائم على
الرتابة والتكرار، وينتظم في محورين: الشاعر وهو خارجي يتماثل مع
المدينة فهو أبنها وحتى اسمه هو اسمها نفسها، ونراه ويتمثل كل شيء
فيها، انه صورة أخرى مما أراده ويليامز في حديثه عن "التماثل بين
عقل الإنسان الحديث والمدينة"، والذي جسده في قصيدته التي جعلت من
المدينة التي شكلت مهد نشوء الصناعة في الولايات المتحدة موضوعا
شعريا لها.
ومقابل هذا المحور نرى محور الزوجة التي لا نراها في أي مشهد
خارجي، سوى مشهد الخروج إلى السينما، فهي غريبة لا صله لها في
المدينة (ربما لهذا اختار ممثلة ايرانية لتجسيدها)، منشغلة بعالمها
الذي تحرص كل يوم على أن تلونه بالأبيض والأسود، فهي تلون كل شيئ:
الستائر، الجدران، ستائر الحمام، الاكسسوارات، وتفكر بمشاريع تنجح
في تنفيذها كأن تلون قطع الكيك الصغيرة بكريم أبيض وأسود وتنجح في
بيعها في سوق الأحد، أو تحاول تعلم العزف على الغيتار لتصبح مغنية
ريف أمريكي وتنجح في تعلم العزف بطريقة مقبولة خلال أيام.
إنها نقيض باترسون، فهي نتاج العولمة وهي مقطوعة الجذور مع المكان،
لكنها قادرة على أن ملأ عالمها بتفاصيل صغيرة مبدعة في الغالب، على
الرغم من أنها مثل باترسون تعيش في الماضي وتغرق في النوستالجيا
بطريقتها الخاصة، لكنها لا تمتلك علاقة باترسون بمدينته، فنراها
تختار فيلما بالأبيض والأسود عندما يذهبان إلى السينما وهو فيلم
"جزيرة الأرواح الضائعة" الذي أخرجه ايرل كينتون عن قصة الكاتب
البريطاني أج جي ويلز عام 1932.
وربما كان الشبه بين الممثلة فرحاني والممثلة التي أدت دور المرأة
النمر في الفيلم القديم، كاثلين بيرك، سببا في اختيار مقطع منه، إذ
ليس ثمة لحبكته التي تتحدث عن عالم غريب الأطوار يجري تجارب على
الحيوانات في جزيرة منعزلة بسياق تطور الأحداث في الفيلم، وربما
التذكير بالنوستالجيا التي يعيشان فيها فحتى عندما يختاران فيلم
خيال علمي يتحدث عن المستقبل، لكنه أيضا من الماضي.
ومن المهم هنا أن نذكر أن جارموش لم يعمد إلى أن يقدم أي لمسة
سخرية من لورا أو من شعر باترسون، بل على العكس إنها تمثل نشاطات
جدية يبني فيلمه عليها، وعمل على أن ينثر بعض لمسات السخرية التي
عرف بها هنا وهناك فيما يتعلق بنشاطات أخرى، كما هي الحال مع
العاشق في الحانه، أو علاقة الغيرة بين الكلب وباترسون.
وفي مشاهد الحانة التي تتكرر يقدم لنا جارموش خيطا دراميا يوحي
بنمو درامي لكنه في الحقيقة في يظل في السكونية ذاتها، وهو خيط
العلاقة بين شاب وفتاة أسودين ، يحاول كل يوم إقناعها بحبه لكنها
ترفضه، فيمثل رد فعل ما يصل إلى ذروته بإخراج مسدس وتهديد من في
الحانة، فيقوم باترسون بنزعه من يده، وليكتشف لاحقا أنه لعبة وليس
مسدسا حقيقيا. ويختار جارموش هنا كل ممثليه الثانويين في الحانة من
السود.
ونرى خيطا دراميا آخر، فيه قدر من الطرافة بين باترسون والكلب
مارفن الذي يغار على صاحبته، ويقوم ببعض الأفعال الطريفة لإزعاج
باترسون كأن يدفع كل يوم عمود صندوق البريد أمام الباب قبيل وصول
باترسون الذي يقوم بتعديله في كل مرة، كما تصل تلك العلاقة إلى
ذروتها عندما يقوم الكلب بتمزيق الدفتر الذي يضم أشعار باترسون عند
تركه وحيدا في المنزل اثناء ذهابهما الى السينما.
وهكذا تنتهي الكلمات: فلا قصائد ولا أفكار سوى الأشياء نفسها، لا
شيء سوى واجهات البيوت والأشجار والشوارع والأشياء التي تتقاطع
وتمتد وتنتشر وتتشظى وتتجلى تحت شعاع الضوء، كما كان يرى ويليامز
في قصيدته. إنها الصورة المحسوسة ولا شيء سواها.
لقد عاد المخرج جيم جارموش إلى مهرجان كان بقوة هذا العام، إذ شارك
بفيلمين (له فيلم وثائقي أخر في المهرجان)، فهل سيقتطف بقصيدته
البصرية هذه سعفة المهرجان الذهبية بعد أن حصل على جائزته الكبرى
عام 2006 عن فيلمه "بروكن فلوارز" وعلى كاميرته الذهبية عام 1984
عن رائعته "أغرب من الفردوس"؟
فيلم "لافينغ": قصة عاشقين حاربا العنصرية للبقاء معاً
نيكولاس باربر- ناقد سينمائي
يدور أحدث أفلام المخرج جيف نيكولس حول قصة حب بين رجل وامرأة
مختلفين عرقيا، يعيشان في خمسينيات القرن الماضي، وينجحان في قهر
النزعة العنصرية في المجتمع، حتى يتسنى لهما البقاء معاً. الناقد
السينمائي نيكولاس باربر يوضح لنا سبب إعجابه بهذا العمل من مهرجان
كان السينمائي.
بوسع المرء أن يعتبر أن فيلم "لافينغ"؛ الذي يعرض حاليا في مهرجان
كان السينمائي، العمل الدرامي العذب والجدير بالاحترام للمخرج جيف
نيكولس، يشبه من أوجه عدة فيلم "سبوت لايت"، الذي أُنتج العام
الماضي. فكلا العملين يدور حول قصة حقيقية، تتناول الكيفية التي
قهر من خلالها النشطاء المؤمنون بقضية ما إجحافا مشينا في أمريكا
القرن العشرين.
ورغم ذلك فكلاهما يتسمان – وعلى نحو لافت - بالتحفظ في إثارة
المشاعر وكذلك بطابع حميمي، فليس فيهما ما هُيئنا لتوقعه من خطب
رنانة ترمي لإثارة إعجاب الجمهور، أو مشاهد عنف دموي. بل إن
"لافينغ" – الذي أخذ اسمه من لقب شخصيته الرئيسية – هو في واقع
الأمر ذو نبرة أكثر هدوءاً؛ تجعل حتى "سبوت لايت" يبدو إلى جواره
عملا عنيفا صاخبا، مثل فيلم "المنتقمون : عصر الألترون".
أما بطلا قصة الفيلم فهما ريتشارد لافينغ (يجسد دوره جو أدغرتُن)
وميلدريد جيتر؛ النحيلة وطويلة القامة (وتقوم بدورها روث نيغا)؛
وهما رجل ذو بشرة بيضاء وامرأة سوداء البشرة، كانا يعيشان معاً عن
رضا واقتناع، في منطقة ريفية بولاية فيرجينيا الأمريكية أواخر
خمسينيات القرن العشرين.
وعندما عرفت ميلدريد أنها حُبلى؛ توجهت مع ريتشارد إلى واشنطن
العاصمة، لعقد قرانهما هناك، نظرا لأن الزواج بين مختلفي الأعراق
كان محظورا – حينذاك - في فيرجينيا، إذ كان يوصم بأنه "منافٍ لسلام
وكرامة الكومنولث" – وهو الاسم الرسمي الذي يُطلق على عدة ولايات
أمريكية من بينها فيرجينيا – وذلك بغض النظر عن حقيقة أن السلام
والكرامة كانا كل ما ينشده هذان العروسان الجديدان.
وسرعان ما يُقتاد الزوجان إلى المحكمة على يد المسؤول عن الشرطة في
المنطقة "المعروف باسم الشريف"، وهو رجل عابس كئيب ذو شخصية تقشعر
لها الأبدان (يقوم بدوره مارتن كسوكَس). وهناك يؤكد القاضي أن زواج
مختلفيّ الأعراق مُخالفٌ لمشيئة الله.
وبفضل بعض المساومات القضائية البارعة من قبل محاميهما؛ ينجو
بطلانا من صدور حكم بالسجن بحقهما، ولكن شريطة انتقالهما للعيش
خارج فيرجينيا، والبقاء بعيدا عنها لمدة 25 سنة.
وهنا تتباين ردود فعلهما؛ فـ"ريتشارد"، وهو عامل بناء ماهر،
يُوطِنُ نفسه على العيش كـ"أب" و"عائل وحيد لأسرته" في واشنطن
العاصمة، أما "ميلدريد" فتصمم على أنهما لا ينتميان سوى للريف
بالقرب من أقاربهما، ولذا تغمرها السعادة، عندما يتلقيان عرضا من
محامييّن يتبعان الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية، للدفاع عن
موقفيهما.
صراع هادئ
وهكذا تبدو الساحة وقد حُضرِتْ لمشاهد حافلة بالهجمات العنصرية،
وبتبادل الحجج والجدالات المدوية، وكذلك بالانكسارات المُهلكة
والانتصارات المُلهمة. ولكن نيكولس (الذي أخرج من قبل فيلميّ مَدْ
وميدنايت سبشيال) كان يضع في ذهنه نسيجا دراميا أكثر واقعية ورصانة
بكثير.
فقد حرص – مثلاً - منذ وقت مبكر من الفيلم على أن تتضمن أحداثه
مشاهد تُظهر ريتشارد وهو يتناول العشاء مع أسرة ميلدريد، وأخرى
للزوجين وهما ينعمان بالاسترخاء في منزلهما الساكن المظلم، وهي
مشاهد كفيلة بأن تُبقي أيَ شخص شاهد من قبل ولو فيلمٍ واحد من
أفلام هوليود، متوترا طيلة فترة عرضها على الشاشة، وهو يحصي
الثواني، مُترقباً أن يتخلل هذه المشاهد إلقاء حجر عبر نافذة، أو
إطلاق رصاصة، أو انهمار السباب من سيارة مارة.
لكن مخرج الفيلم – وهو كاتبه أيضا – كان يعمد إلى ممازحتنا
وتشويقنا وإغاظتنا ليس أكثر. فتلك المشاهد تنتهي في سكينة كما
بدأت، وما من غرض منها سوى إظهار الحياة المنزلية البسيطة، التي
تعتز بها شخصيات الفيلم.
وعلى أي حال، يحافظ المخرج نيكولس على هذا الطابع المرهف الرقيق،
طيلة أحداث فيلمه "لافينغ". فحتى قبيل نهايته؛ عندما تُحال قضية
الزوجين ضد سلطات ولاية فيرجينيا إلى المحكمة العليا الأمريكية، لا
يلجأ الرجل إلى الخطابات التقليدية المثيرة، التي تُردد عادة عند
الحديث عن حقوق الإنسان.
إذ يُفسح المجال لمحامييّ الزوجين – ذوي المظهر الأنيق المرتب
واللذين يجسد دوريهما نيك كرول وجون بَيس – لكي يلقي كلٌ منهما
جانبا يسيرا من مرافعته؛ قبل أن يعود بالكاميرا إلى مسكن ريتشارد
وميلدريد؛ لنرى الزوجة وهي منهمكة في كي الملابس، والزوج وهو عاكفٌ
على ضبط بعض الأشياء في السيارة.
ويبدو هذا العمل شاذا إلى حد كبير عن سواه من الأفلام المماثلة،
فيما يتعلق بتحاشيه لأيٍ مما قد يكون ذا نكهة مثيرة للمشاعر
بإفراط، أو ذا طابعٍ نمطي تقليدي. وهنا ربما يشعر بعض المشاهدين –
عن حق – بأنه لم يكن هناك من ضير من أن تتسم المعالجة الدرامية
لقضية تاريخية كتلك التي يدور حولها الفيلم، بطابع عاطفي أكثر
وضوحا من ذلك بقليل.
وفي هذا الصدد، من الإنصاف كذلك ملاحظة أن "لافينغ" يكتسي بذاك
المظهر البراق الخالي من الشوائب، الذي تصطبغ به الأفلام التقليدية
لهوليوود، حتى وإن كان خاليا من لحظات قوة أو ضعف ذات طبيعة
دراماتيكية.
ولكن يتعين على المرء احترام التحفظ الذي يتسم به أسلوب نيكولس في
الكتابة والإخراج، والذي يبدو أنه مستلهم من شخصيتيّ بطله وبطلته
مقتضبيّ الحديث، ومن أولويات كل منهما. فـ"ريتشارد" و"ميلدريد" لا
يحاولان إلحاق الهزيمة بالنظام الاجتماعي القائم، أو تغيير العالم؛
فكل ما يريدانه لا يعدو البقاء معاً.
بجانب ذلك، فإذا كان من الممكن اتهام الفيلم بخفوت نبرته أكثر من
اللازم؛ فإن الأداء التمثيلي لشخصياته الرئيسية؛ يعبر عن نفسه
جلياً حتى دون كلمات.
فرغم أن "أدغرتُن" (41 عاما)، أكبر بعقد كامل من عمر الشخصية التي
يجسدها في الفيلم، فإنه ينجح في تحويل نفسه – وبشكل مقنع – إلى فتى
ريفي شديد المراس، يتسم باليقظة والتحفظ في الوقت نفسه، ويجد أن من
المؤلم فعليا أن يصبح المرء في دائرة الضوء.
ومع أن أكثر جُمَلِهِ الحوارية المشحونة بالمشاعر والعواطف في
الفيلم لا يزيد طولها عن ست كلمات، إلا أنه ينجح في أن يجعل لكل
كلمة منها وقعاً خاصاً.
لكن ذلك لا يُقارن بأداء الممثلة "نيغا" البارع ومرهف الحس، والذي
يثير إعجابا أكبر. فهي "ميلدريد"؛ صاحبة الشخصية الأكثر فعالية
مُقارنةً بزوجها؛ إذ أنها من يقرر الشروع في المعركة القانونية بل
ومواصلتها، حتى عندما أدى ذلك إلى أن يُحدِقَ الخطر بالأسرة
بأكملها.
ولكن "نيغا"، وهي ممثلة آيرلندية – أثيوبية، تقدم أداءً متوازنا؛
تجتمع فيه شجاعة ميلدريد وقدرتها على التكيف، مع تواضعها العذب
الممزوج بحديثها اللبق.
في نهاية المطاف، ربما لا يقتنص "لافينغ" جائزة أوسكار أحسن فيلم،
كما سبق وفعل "سبوت لايت"، ولكن لا ينبغي لأحدٍ أن يُفاجأ، إذا ما
فازت "نيغا" بأوسكار أحسن ممثلة عن دورها في هذا الفيلم.
يمكنك قراءة الموضوع
الأصلي على
موقع BBC
Culture. |