(1)
قبل أقل من أسابيع قليلة واجهت صباح شائعة موتها بقدر كبير
من الثبات، بل قالت إنها لا تريد أن تصاحبها أى مظاهر للصخب فى وداعها..
كيف لمَن عاشت تحت الأضواء أكثر من 70 عامًا أن تنتظر وداعًا هادئًا.. إلا
أن صباح بقدر ما تقبَّلت الموت بقدر ما أزعجتها الشائعة وتساءلت: لماذا
يتعجَّلون رحيلى؟ ولمّحت إلى أن هناك مَن يلاحقها بمثل هذه الأقاويل ليسرق
هدوءها النفسى، لماذا كانوا يطاردون شمس الشموس بتلك الشائعات رغم أن الشمس
لا تغيب؟!
فى السنوات الأخيرة يجب أن نعترف، أقصد يجب أن يعترف العديد
من المهرجانات العربية وبرامج الفضائيات، أنها باتت تستغل اسم الصبوحة من
أجل إضفاء البريق والوهج والإثارة، وأن صباح فى العادة صارت مجاملة، أو
ربما هى أيضًا لا تطيق البُعد عن الأضواء، ولهذا تلبِّى الدعوة بالحضور.
الشىء المشترك فى أغلب تلك المهرجانات والحفلات والتكريمات
مع اختلاف توجهها، هو أنك سوف تلمح سمير صبرى متصدرًا المشهد، تارة يغنِّى
مع صباح، وتارة يغنِّى بدلاً منها، وتارة يجرى حوارًا بالنيابة عنها!
ورغم أن أغلب هذه اللقاءات لا يخلو من تصفيق، وصباح كانت
تعتقد أن الجمهور لا يزال على العهد وحتى اللحظة الأخيرة ويصفِّق لها بنفس
الحرارة التى كان يستقبلها بها قبل أكثر من 70 عامًا، نعم اختارت الصبوحة
أن تظل داخل الدائرة، ربما الاحتياج المادى يلعب دورًا ويتحوَّل إلى ضرورة
للحياة.
بعض النجوم يتعاملون مع الضوء وكأنه أكسجين، وما داموا
يتنفَّسون أكسجين الحياة فهم أيضًا يتنفَّسون ضوء الحياة، ويمارسون الفن
حتى الضوء الأخير مثلما يتنفسون الحياة حتى النفس الأخير!
صباح أضافت الكثير إلى الحياة الفنية فى مصر منذ مجيئها إلى
القاهرة عام 1945 فى عز نجومية ليلى مراد، وكانت لا تزال أم كلثوم فى
الدائرة السينمائية تشكِّل رقمًا يضعها فى المكانة الأولى، ورغم ذلك صعدت
صباح إلى القمة فى أفلامنا الغنائية، وتركت صباح أكثر من 80 شريطًا
سينمائيًّا، بداية من أفلام «أول الشهر» لعبد الفتاح حسن، و«القلب له واحد»
و«هذا جناه أبى» لهنرى بركات، ثلاثة أفلام فى عام واحد، وظلَّت هى الأولى
فى العدد بين كل جيلها أحيانًا تُقدّم فى العام ستة أفلام، لم تتفوَّق
عليها فى المجال الرقمى سوى شادية، مع ملاحظة أن شادية تتمتع بالموهبتَين
بنفس القدر، التمثيل والغناء، بينما صباح ظلَّت حتى آخر أفلامها «ليلة بكى
فيها القمر» لأحمد يحيى، مطربة تمثِّل، ولكن درجة حضورها الطاغى أمام
الكاميرا كانت تتجاوز أى ضعف فى أدائها كممثلة.
(2)
كنت أتابع صباح فى العديد من البرامج خلال السنوات الأخيرة
وهى تتحدَّث قليلاً وتغنِّى كثيرًا، وأتساءل: هل هذه هى صباح التى قالت
بدلال يومًا «مال الهوى ياما مال»؟! أليست هى التى حذَّرت «من سحر عيونك
ياه»، وهى التى توعَّدت «أكلك منين يا بطة»؟! الزمن خصم الكثير من جمال
الصوت وجمال الصورة، ولكن ظل شىء غامض يربطنا بها، إنه الحضور، وهو ما لم
تستطع السنوات أن تنال منه!
صباح منذ أن بدأت مشوارها الفنى فى منتصف الأربعينيات
بالقاهرة بعد انطلاقها من بيروت وهى تعقد هذا التوازن بين جمال الصوت
وجاذبية المرأة.
صعدت صباح إلى القمة فى الغناء سابقة بقليل جيل فايزة أحمد
ونجاة وشادية ووردة، ورغم أنها تسبقهن فى العمر الزمنى، فإن شحرورة الوادى
من البداية وهى تتحدَّى بطاقتها الشخصية وتاريخ ميلادها، لأنها حافظت
دائمًا على الأُنثى الأسطورة التى تهزم سنوات العمر، ولهذا صدّقناها وهى
تحب فى أفلام فريد الأطرش ومحمد فوزى وعبد الحليم حافظ وسعد عبد الوهاب
وحسين فهمى.
بعض مقدمى البرامج أرادوا أن يحيلوا الأسطورة الشحرورة إلى
مجرد فقرة أو نمرة تتم استضافتها فى بعض البرامج وتغنِّى فى بعض الحفلات،
ويتحسَّر بعدها الجمهور على نجاح زمان وصوت زمان وجمال زمان. أرادوا -أقصد
صناع المهرجانات والحفلات والبرامج- استغلال صباح حتى آخر نفس، ولكنها كانت
لديها قناعة أن تاريخها موثَّق يمحو كل هذه الهنات!
كثيرًا ما أضبط نفسى أتمايل طربًا ونشوة مع صباح، حتى مع
الأغنيات التى تخاصم منطقى الفنى، صالحتها بسبب الصبوحة، فصارت مثل الحب لا
منطق له، أحيانًا نقع فى حب عمل فنى أو أغنية تخاصم المنطق «ساعات ساعات
أحب عمرى وأعشق الحاجات»، أصبحت هذه الأغنية هى عنوان لصباح، خصوصًا بعد أن
قُدمت فى تترات مسلسل «الشحرورة» الذى تناول حياتها، لم أكن أحب «ساعات
ساعات»، ولكنى تعايشت معها ودائمًا ما تجرح أذنى الحاجات التى يقصدها مؤلف
الأغنية الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى، حتى استمعت إليه فى أحد
البرامج يعتب على أمثالى الذين لم يفهموا، ويقول إن الحاجات هى الأشياء
التى تجدها بجوارك فى المنزل، كنبة، كرسى، منبّه، طبق حلَّة، قُلَّة قناوى،
كلها حاجات عندما نحب قد نقع أيضًا فى حالة عشق للجماد، وجهة نظر بالطبع،
ولكن هل ينبغى على الشاعر أن يصدر مذكرة تفسيرية بالمعانى المستترة لكلماته
وحاجاته ومحتاجاته، وسواء اقتنعت أم لا، فأنا أصبحت أحب تلك الأغنية التى
أضاف إليها أيضًا ملحنها جمال سلامة، العديد من الحاجات بهذا اللحن الصاخب
الذى يؤكِّد أن الحاجات وراءها حاجات وحاجات.
(3)
صباح من الفنانات القلائل اللائى قُدمت قصة حياتهن وهن على
قيد الحياة، وأتصوَّر أن صباح بسبب احتياجها إلى المال وافقت، ولكن قبل أن
يقدّم مسلسلها قبل خمس سنوات من تأليف فداء الشندويلى استوقفنى أن كاتبًا
آخر أسندوا إليه فى البداية كتابة المسلسل، ويومها صرَّح قائلاً «لن أكمل،
متعللاً أنها ليس فى حياتها إلا علاقات وخيانات.. كما أنها على الجانب
الشخصى تلاعبت بالأديان، فلقد أشهرت إسلامها من أجل الزواج، ثم عادت مرة
أخرى إلى المسيحية!».
اعتبر الكاتب أن كل ما حكته له صباح لا يصلح لصياغة أى عمل
درامى.. تعجبت لأن كل ما حكاه هو بالتحديد ما يمنح قيمة للدراما، السيرة
الذاتية لأى إنسان ليست حكايته هو بل هى حكاية زمن عاشه، وصباح عاشت عمرًا
تجاوز 87 عامًا، بكل تفاصيله السياسية والاجتماعية والنفسية، ولحظات ضعف
صباح هى تحديدًا التى تشكِّل القوة والجاذبية الدرامية، وأنه لن يقدّم حياة
القديسة جانيت جرجس فغالى الشهيرة بـ«صباح»، ولكننا سنرى الفنانة صباح..
وإذا كانت البرامج الأخيرة التى استضافتها لم تُظهر سوى العلاقات والخيانات
بغرض الإثارة، فلا يمكن لمن تُتاح له الفرصة باللقاء مع صباح بعيدًا عن
الكاميرا أن يعجز عن أن يقتنص منها لحظات إنسانية.. شعرت وأنا أقرأ هذا
الخبر أن هناك مَن يريد التشهير بصباح، ثم إن الكاتب الدرامى من الممكن أن
يبحث عن شىء فى طفولتها يكشف لنا: لماذا تتعدد العلاقات والزيجات؟ عندما
رأيت مسلسل حياة أسمهان كان لديها أيضًا علاقات وقسط وافر من الزيجات
والخيانات ولعب قمار واحتساء خمر، كأنه أحد طقوسها اليومية، لكن كان أمام
كاتب السيناريو السورى نبيل المالح، هدف آخر هو والمخرج التونسى شوقى
الماجرى، أن يقدما لنا تفاصيل هذا الزمن الذى بدأ مع الحرب العالمية الأولى
عند ميلادها 1914، حتى رحيلها عام 1944.. شاهدنا كفاح سوريا فى سبيل
استقلالها وموقف سعد زغلول الشجاع والكريم فى استقبال عائلة الأطرش على أرض
مصر.. صباح ولدت بعد أسمهان بنحو 10 سنوات.. حياتها الفنية تتزيَّن بالعديد
من النجاحات، غنَّت لكل الكبار من المؤلفين والملحنين، وأشهرت إسلامها
بالفعل بعد زواجها من المذيع أحمد فراج، الذى ارتبط بالبرنامج الدينى «نور
على نور»، ومن المفارقات أنها حضرت إحدى حلقات البرنامج وهى ترتدى الحجاب،
وكان هذا بمثابة إعلان لإسلامها.. وعلى جانب آخر استطاعت صباح إقناع أحمد
فراج بالتمثيل لأول مرة، وشارك فى بطولة فيلم «3 رجال وامرأة»، ولم يستمر
الزواج سوى بضعة أشهر، وعند إعلانه الطلاق أرسل أحد المشاهدين إليه خطابًا
يقول فيه: طلاقك من صباح «نور على نور».. لا شك أن علاقتها مع أحمد فراج
وتردده فى الارتباط بها وطلاقهما بعد زيجة قصيرة تصبح ذروة درامية.. علاقة
صباح مع الكاتب الكبير موسى صبرى، وكيف أنها غنَّت له «آه يا معلم يا
معلم».. لعبت صباح دورًا إيجابيًّا فى حياة صحفى كبير كان هو الأقرب إلى
الرئيس أنور السادات، ومن المؤكد لديها العديد من الأسرار ترويها عن علاقة
موسى بالسادات.. نعم وشاية أبعدتها فى نهاية الستينيات عن مصر، ولكنها عادت
إلى مصر، ولا أقول وطنها الثانى بعد لبنان، لأنى أتصوَّر أن صباح مصرية
بقدر ما هى لبنانية.. بصمة مصر على مسيرة صباح الغنائية والسينمائية واضحة
لا تخطئها العين ولا العقول ولا المشاعر، ورصيدها فى الألحان والأفلام يشهد
بذلك، مزيج من الجينات مصرية لبنانية!
(4)
جاءت صباح إلى مصر أيام الملك فاروق وعاشت فى القاهرة سنوات
طويلة فى زمن ناصر والسادات ومبارك، ولكن هل كان بينها وبين عبد الناصر قصة
ما؟
هل تغزَّلت صباح فى عيون جمال عبد الناصر، وقالت له من «سحر
عيونك ياه»؟.. هذا هو ما ذكرته صباح فى مسلسل «الشحرورة» للكاتب فداء
الشندويلى، وقدّمه باعتباره حقيقة فى الحلقة رقم «21».. الأكثر من ذلك أن
عبد الحليم حذَّرها أن لا تغنيها فى الحفل الذى يحضره جمال فى الذكرى
الخامسة لثورة 23 يوليو، مؤكدًا لها أن هذه رغبة الجيش المصرى، إلا أنها
تحدَّت الجميع، وقالت له «من سحر عيونك ياه من سحر جفونك ياه»، وبادلها عبد
الناصر نظرة بنظرة وضحكة بضحكة وغزلاً بغزل، خصوصًا فى المقطع الذى تقول
فيه «نسيت ليالى نورتهالى نسيت ياه».
الحقيقة الثابتة هى أن هذه الأغنية قدِّمت فى فيلم إغراء
للمخرج حسن الإمام عام 57، وكتب الكلمات الشاعر مأمون الشناوى، ولحّنها
الموسيقار محمد عبد الوهاب، وكانت تتغزَّل فيها صباح طبقًا للسيناريو فى
عيون حبيبها شكرى سرحان.. الكاتب الكبير نجيب محفوظ كان هو الرقيب فى تلك
السنوات، ووجد فى أداء صباح لكلمة «ياه» قدرًا من المبالغة الأنثوية ورفض
التصريح بها، وهكذا تأخَّر عرض الفيلم أسبوعًا حتى أعادت صباح التسجيل مرة
أخرى وأقلمت أداءها المبالغ فيه فى «ياه»!
هذه هى الواقعة ولا شىء أبعد من ذلك، ولكن بعد أن عُرضت هذه
الحلقة من المؤكد أن الجميع سوف يصدِّق أن صباح كانت علاقتها بالثورة
مزيجًا من الحب لعبد الناصر والتحدِّى أيضًا للجيش، بينما عبد الحليم يبدو
رسول الغرام لعبد الناصر والخادم الأمين لما يريده أعضاء مجلس قيادة
الثورة!
وتفسيرى أن الإنسان مع مرور عشرات السنوات تختلط عليه
الحقائق بالخيال ويضيف ويحذف لا شعوريًّا الكثير.. إلا أن الواضح هو أن
كاتب المسلسل لم يبذل أى جهد توثيقى ليتأكد من المعلومة أو حتى يُعمل العقل
ليعرف ظروف تقديم هذه الأغنية، هل هى أغنية حفل أم أغنية فيلم مكتوبة طبقًا
لموقف درامى.. صباح غنَّت بالمناسبة لجمال عبد الناصر «أنا شُفت جمال»،
والإذاعة المصرية تقدِّم هذه الأغنية باعتبارها أغنية عاطفية، معتقدين أنها
تقصد الصفة لا اسم جمال.. أتذكر أن المخرج كمال عطية وكان يمارس أيضًا
تأليف الأغانى، كتب لصباح أغنية «الغاوى ينقّط بطاقيته».. وقدمت الأغنية فى
حفل ببورسعيد وكان عبد الناصر حاضرًا الحفل، وقال لى كمال عطية إن كلمة
خارجة انطلقت من متفرج من فرط حبه لصباح وإحساسه بأنوثتها الطاغية، استمع
إليها الجميع على الهواء وارتبكت صباح، ولكن جاء القرار بضرورة الاستمرار
فى الغناء.
كثير من التحليلات الغنائية التى تحمل مبالغة تتعلّق بعبد
الناصر تم تداولها، مثل أن أغنية «آه يا اسمرانى اللون» كتبها الأبنودى،
وغنَّتها شادية، ولحّنها بليغ، تتغزل فى الاسمرانى عبد الناصر، وأن فى
أغنية عبد الحليم «جانا الهوى» مقطعًا يقول «اللى شبكنا يخلّصنا» أراد
الكاتب محمد حمزة والملحن بليغ أن يوجّها لومًا إلى عبد الناصر بعد هزيمة
67، وغيرها من الظلال التى لا تمت إلى الحقيقة بصلة، إلا أنه من الممكن
التسامح معها.. ولكن أن تصبح «من سحر عيونك ياه» رسالة غزل فى عيون وجفون
جمال عبد الناصر، يبدو أن الأمر اختلط على صباح بين عبد الناصر ورشدى
أباظة!
البعض يقول إن صباح شعرت ببعض الظلم فى مصر باعتبارها
لبنانية، تعرَّضت بالفعل لوشاية عندما اعتذرت فى اللحظات الأخيرة عن
المشاركة فى حفل وطنى، وصل الأمر إلى أن هناك مَن أدَّى إلى نزع الجنسية
المصرية عنها فى زمن عبد الناصر، والتى عادت إليها فى زمن السادات، ربما
حاول كعادة بعض الفاشلين إشهار هذا السلاح، وبالفعل فى نقابة الموسيقيين
منذ مجيئها إلى مصر فى منتصف الأربعينيات، ورددوا شعار «أخى جاوز الظالمون
المدى جاءت صباح بعد نور الهدى»، ونور الهدى هى مطربة لبنانية جاءت إلى
القاهرة قبل صباح بعامين فقط ولعبت بطولة عدد من الأفلام، ولكنها لم تواصل
المشوار وتصدَّت لتلك الدعوى الرافضة لكل ما هو غير مصرى أم كلثوم نقيبة
الموسيقيين. المصرى عندما يحب فنانًا لا يفتش أولاً فى جواز سفره، وهكذا
غنَّت لمصر بعد غياب «سلّمولى على مصر سلمولى».
هل تغيب شمس الشموس، نعم من الممكن بالطبع أن تحتجب مثل
الشمس، لكنها أيضًا مثل الشمس تحتجب لتشرق مجددًا، وسوف تُشرق دومًا شمس
الشموس فى قلوبنا ومشاعرنا. |