«سبات شتوي»:
سينما تحلّق عالياً بين روعة الطبيعة وانكشاف المرء
أمام أقنعته
كان (جنوب فرنسا) – إبراهيم العريس
قد تكون المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون محقة، بصفتها رئيسة لجنة
تحكيم الدورة المنقضية لمهرجان «كان» السينمائي، في أن تقول بعد
إعلان النتائج أنها ارتعبت أول الأمر أمام «الطول المفرط» لفيلم
«سبات شتوي» للتركي نوري بلجي جيلان، لكن الأمر انتهى بها الى منحه
السعفة الذهبية عن قناعة تامة بعد ان غاصت فيه دقيقة وراء دقيقة
لتشعر و «كأنني أرى نفسي منعكسة في كلّ شخصيات الفيلم». وقد يكون
من حق نقاد صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية ذات المكانة الثقافية
الرفيعة ألا يخصّوا الفيلم بعد عرضه بأكثر من سطور قليلة مفضلين
عليه أفلاماً مرت مرور الكرام من دون ان تلفت أحداً، ليعودوا
ويبجلوه بعد فوزه. ففي جمهورية السينما الديموقراطية النخبوية، يحق
لكل واحد ان يقول ويفعل ما يشاء. وفي النهاية ثمة نتائج تحسم
الأمر. تُربح هذا وتتناسى ذاك. وتنتهي اللعبة كما في كلّ مرة، بين
راضين وغاضبين. ولم يكن ثمة، هذه المرة، ما يدعو إلى أن تكون
اللعبة مختلفة.
السعفة ترافق الفيلم
وهذه المرة ذهبت اللعبة في اتجاه نوري بلجي جيلان. وبدا الأمر
منصفاً الى حد كبير. فالحقيقة ان السعفة الذهبية، منذ اللحظة التي
عرض فيها «سبات شتوي» لم تبتعد عنه ولو للحظة، حتى وإن ناصر قوم
أفلاماً أخرى رأوها أكثر استحقاقاً، ولا سيما من بين النقاد
الفرنسيين الذين كانوا اعتادوا مناصرة أفلام سابقة لجيلان في دورات
السنوات الماضية. ونعرف ان جيلان شارك مرات عدة في دورات «كانية»
خرج من ثلاث منها، قبل الدورة الأخيرة، محققاً فوزاً باهراً، حتى
وإن لم ينل السعفة عن اي فيلم سابق له قبل الآن. فهو بعدما كان
شارك في المسابقة الرسمية في مهرجان برلين عام 2000 بفيلمه الروائي
الطويل الثاني – بعد أوله «قصبة» – «غيوم مايو»، انضم منذ العام
2003 الى عوالم مهرجان «كان» التي لم يبارحها بعد ذلك. وهكذا بعدما
فاز في «كان» 2003 عن «من بعيد» بجائزة النقاد الكبرى، إضافة الى
جائزة التمثيل الرجالي، حقق في العام 2008 جائزة الإخراج بفيلمه
«ثلاثة قرود» ليعود بعد ذلك بثلاثة أعوام ويفوز بجائزة التحكيم
الكبرى عن رائعته «حدث ذات مرة في الأناضول»... وكان ذلك كله طبعاً
في انتظار السعفة الذهبية التي كانت من نصيبه هذا العام عن فيلمه
الجديد.
ثلاث ساعات وربع الساعة هي الفترة الزمنية التي يستغرقها عرض «سبات
شتوي»، ما يجعله، على حد علمنا، أطول فيلم يفوز بالسعفة في تاريخ
«كان»، علماً أنه ثاني فيلم تركي يحقق هذا الانتصار الكانيّ الكبير
بعد «يول» للراحل يلماز غوناي قبل ثلاثين عاماً تقريباً. وهنا،
مهما يكن من أمر، نأمل ألا يُخدع محبو المسلسلات التركية من
متفرجينا العرب وغير العرب بإغراء كون الفيلم تركياً فيعتقدون ان
عليهم مشاهدته. ففيلم جيلان الجديد، كما كلّ أفلامه السابقة، لا
علاقة له بمسلسلات مواطنيه، لا من قريب ولا من بعيد. بل قد نقول
إنه يقف على الضد تماماً مما تمثله وتحمله تلك الميلودرامات
السطحية التبسيطية التي دخلت في هوى ربات البيوت وأعادت أمجاد
العثمانيين الى ساحة التداول. في «سبات شتوي» الأمور تختلف تماماً
عمّا في «قبضاي» أو في «حريم السلطان» ولا أثر هنا طبعاً لوسامة
«مهند» أو نحيب «نور» أو ما شاكل ذلك. هنا في فيلم جيلان، لدينا
اشياء أخرى، أشياء مختلفة تماماً، لدينا فن حقيقي. ذلك الفن الكبير
الذي لا يبدعه إلا الأفراد المميزون. ومن هنا لا يكون غريباً أن
يستخدم النقاد في مجرى الحديث عن أفلام صاحب «من بعيد» مرجعيات
تتراوح بين إنغمار برغمان وأنطون تشيكوف، بين روبير بريسون وهنريك
إبسن، أو بين وودي آلن وناني موريتي... ونعرف جميعاً ان كل هذه
الأسماء لا تعني شيئاً لمتفرجي المسلسلات التركية على الشاشات
الصغيرة العربية، لكنها تعني الكثير لجمهور السينما الكبيرة. وتعني
بخاصة ان سينما جيلان باتت تعتبر سينما كبيرة أدخلت السينما
التركية مرة واحدة الى الصفوف الكبرى في تاريخ السينما. وجيلان وهو
يتسلم سعفته اهداها الى تاريخ السينما في بلاده والذي يحتفل هذا
العام بمئويته. لكنه كذلك أهداها الى شبيبة بلاده التي تضحي في
سبيل حريتها، مشيراً الى اغتيال شرطة اردوغان متظاهري ساحة تقسيم.
شاشة خارج السياسة
مهما يكن من أمر هنا، من الواضح ان هذا التعبير السياسي من على
منصة «كان» يأتي متناقضاً مع الاستنكاف السياسي المباشر الذي قد
يلاحظه كثر في سينما جيلان. بل يأخذه بعض الأتراك عليه. لكن، هل
يحتاج حقاً من جعل أفلامه غوصاً في النفس الإنسانية وبحثاً عن
الإنسان خلف قناع التشييء التغريبي، الى ان يقول السياسة بشكل
مباشر؟
ذلكم سؤال من الواضح ان جيلان يحب ألا يجيب عنه. بل بالأحرى يجعل
من سينماه كلها جواباً موارباً عنه. فجيلان واحد من الفنانين
الكبار الذين يعرفون ان الأسئلة والأجوبة تبدأ من الداخل. من داخل
الروح. من القلق الذي تصوّره السينما. وما «سبات شتوي» سوى صورة
حقيقية لذلك القلق. لذلك القناع الذي يظلّ المرء واضعاً إياه ليغطي
حقيقته، حتى لحظةَ يزول فيها القناع. وهذا هو بالضبط ما يحصل في
«سبات شتوي». صحيح أن الفيلم يعبر عن جماليات قد يجوز وصفها
بالمطلقة: جمال المناظر الطبيعية في ريف كابادوشيا الأناضولي وقد
بدأ ثلج الشتاء يغمره. جمال الوجوه. جمال القرية المبنية بين
الصخور في تداخل عجيب ومدهش بين هندسة الطبيعة وهندسة البشر. غير
ان المهم ليس هنا على رغم اهمية هذا كله وتميّز كاميرا جيلان في
الاشتغال عليه. المهم هنا هو آيدن، صاحب المكان، المثقف الكبير
الذي تقاعد لتوّه من عمله في التمثيل المسرحي ويدير الآن مع اخته
المطلقة وزوجته الحسناء الصبية، نزلاً ريفياً يبدو الآن خالياً من
الزبائن خارج الموسم السياحي. لكن آيدن ليس هذا فقط. بل هو ملاّك
ثري يسيطر على المكان وجواره سيطرة سلطان حقيقي. أو بالأحرى سيطرة
أب مهيمن فيما يحلم بأن يكتب تاريخاً للمسرح التركي، ويعبر عن
أفكاره اليومية المشاكسة في مقال اسبوعي ينشره في صحيفة محلية
صغيرة.
انطلاقاً من هذا كله، يبدو كل شيء هادئاً في حياة آيدن... وفي صمت
أخته وشقيقته. وفي ارتضائهم جميعاً العيش وسط طبيعة جميلة وقاسية.
كل شيء هادئ لولا حجر ثقيل يلقيه فتى مراهق على سيارة آيدن فيكسر
زجاجها ويكاد يؤذي صاحبها وسائقه. حجر عادي يلقيه فتى عادي في يوم
عادي...
أمر قد يحدث في أي زمان ومكان. لكنه يتبدى هنا بعد قليل، أعمق
وأخطر كثيراً مما نعتقد. وبالتالي، فإن الحوارات الطويلة التي
يصورها الفيلم بين آيدن وأصدقائه ثم بينه وبين أخته، وأخيراً بينه
وبين زوجته – وهو اقوى الحوارات في الفيلم وأخطرها -، تلك الحوارات
سرعان ما تتخذ معاني أخرى. وذلك انطلاقاً مما يكمن في خلفية رمي
الفتى سيارة السيد آيدن بالحجر: فالفتى غاضب لأن هذا السيد يسعى
الى إخراجه وأمه وأبيه الخارج لتوّه من السجن، من بيت يقيمون فيه
لأنهم عاجزون عن دفع الإيجار منذ شهور.
وأيضاً هنا تبدو المسألة عادية، لولا ان ما يحدث بعد ذلك، إنما
سيكون كشفاً وانكشافاً تدريجيين لأقنعة السيد آيدن. والكشف سيبلغ
ذروته، كما لدى تشيكوف مضافاً اليه عنف الكشف في مسرح هنريك إبسن –
في «عدو المجتمع» على سبيل المثال – سيبلغ ذروته بعد ساعة من مشهد
«مرعب» يُطلب فيها من الفتى المعتدّ بنفسه ان يقبّل يد السيد
تعبيراً عن ندمه على ما فعل، فيغمى على الفتى فيما آيدن يمد يده
بكل استعلاء. تلك هي لحظة الانفجار في الفيلم، أما ارتداداتها
فتتوالى. من صدام بين آيدن وأخته نجلاء، الى صدام بين آيدن وزوجته
التي كانت صامتة بجمالها مكتئبة طوال الفترة السابقة من الفيلم حتى
تنفجر في وجه زوجها بعد ان يسخر من مشاريعها الاجتماعية شاكّاً
بتعاطف ما بينها وبين مدرس شاب... كل هذا يضع آيدن أمام حقيقته
التي ما كان من شأنه أن يعترف بها. ينزع القناع عن وجهه ليس أمام
الآخرين بل أمام نفسه. وذلكم هو جوهر الفيلم، كشف الازدواجية التي
يعيشها آيدن.
والحقيقة ان الفيلم كله قائم على مثل هذه الازدواجية من الناحية
الشكلية – وهو ما برع فيه جيلان دائماً حيث يجعل الشكل وعاءً من
دون إعلان عن ذلك – فهناك امرأتان من حول آيدن. وهناك شقيقان في
البيت الذي يريد قبض إيجاره. وشقيقان آخران في القرية التي يزورها
بدلاً من توجهه الى اسطنبول. وهناك قريتان يزورهما، ثانيتهما لا
يدخلها لكننا نعرف انها القرية التي تعيش فيها فتاة كانت طلبت منه
مساعدة لكنه لم يستجب اول الأمر فيقرر الآن ان يستجيب بعد «تعرية»
زوجته إياه أمام ذاته، ما يجعله يتغير في نهاية الأمر ليستعيد حب
زوجته ويبدأ كتابة الصفحات الأولى من تاريخ المسرح التركي.
نهاية سعيدة؟ أجل. ولنتذكر هنا ان في معظم أفلام نوري بلجي جيلان
نهايات سعيدة تأتي لاحقة للحظات الانفجار، حيث يأتى الكشف – الذي
كان يتسم بمقدار كبير من الصمت في أفلام المخرج السابقة ليمتلئ هذه
المرة بحوارات رائعة يخفف من متعتها كون المتفرج غير التركي مجبراً
على قراءة ترجماتها – لوضع المرء أمام حقائق لم يكن مدركاً اياها
من قبل ودائماً إثر دنوه من حادثة كبيرة إما بشكل مباشر – كما في
«ثلاثة قرود» – أو بشكل غير مباشر كأن يكون الشخص المعني شاهداً
على ما يحدث – كما في «حدث ذات مرة في الأناضول» – أو بشكل حميمي –
كما في «من بعيد» أو «مناخات» الذي مثله جيلان مع زوجته إيبرو
وغائصاً من خلاله في مشاكل الثنائي الزوجي بشكل لا شك مهّد للجانب
الأساس من الفيلم الجديد الذي كتبه كذلك مع إيبرو - ونعرف الآن ان
هذا كله ما يجعلنا نشعر امام سينما جيلان، مرة أخرى اننا امام
سينما كبيرة موضوعها الإنسان وجوهرها صورته أمام ذاته.
جوليان مور في «خريطة إلى النجوم»:
جائزة التمثيل النسائي للسيدة الهستيرية
قلة فقط من المتفرجين وأهل المهنة كانت تتوقع ان تذهب جائزة
التمثيل النسائي عند اختتام الدورة الأخيرة لمهرجان «كان»
السينمائي الى جوليان مور، ولكن ليس على الإطلاق لأن هذه الحسناء
التي تجاوزت الخمسين من عمرها لم تكن تستحقها، بل لسببين، أولهما
ان الفيلم نفسه الذي فازت مور عنه، «خريطة الى النجوم»، لم يبد منذ
عُرض، واحداً من تلك الأفلام التي تستحق اي فوز مع أنه كان من
الأفلام المنتظرة اكثر من غيرها وأن مخرجه دافيد كروننبرغ يعتبر من
ابرز المشاركين في المسابقة الرسمية. أما السبب الثاني فهو وجود ما
لا يقل عن أربع ممثلات كبيرات في المنافسة لعبن أدواراً لافتة حقاً
في أفلام بدت أكثر إقناعاً من «خريطة الى النجوم»، من صاحبة دور
الزوجة في «سبات شتوي» الى الزوجة الشابة في «لفياتان»، والخادمة
في «مستر تورنر» وصولاً طبعاً الى ماريون كوتيّار التي كانت معظم
التكهنات تتجه اليها عن دورها الكبير في جديد الأخوين داردان
«يومان وليلة» عن حق. ومع هذا حين أعلنت جين كامبيون ان الجائزة
منحت الى جوليان مور علا تصفيق استثنائي في القاعة ونُسيت كل
التكهنات. كان الانطباع ان هذه الفنانة المجتهدة والقوية التعبير
تستحق حقاً هذا التكريم، إن لم يكن عن فيلم كروننبرغ تحديداً، فعن
مجمل عملها.
والحال ان جوليان تعتبر، في الأحوال كافة، فنانة استثنائية، ولعل
خير دليل على هذا انها سُمّيت لأوسكار افضل ممثلة أربع مرات قبل
الآن عن أدوار لعبتها في أفلام مميّزة طوال أكثر من ربع قرن هي
عمرها الفني الكبير حتى الآن هي التي تحمل الفيلموغرافيا الخاصة
بها تواقيع عدد من أبرز مخرجي الجيلين الأخيرين، من الأميركي بول
توماس أندرسون (الذي أدارها في فيلمين كبيرين له على الأقل هما
«بوغي نايت» و«ماغنوليا») الى روبرت آلتمان (الذي أعطاعا اول دور
كبير لها في «مقطوعات قصيرة») مروراً بستيفن سبيلبرغ والأخوين كون
والفرنسي الراحل لويس مال وردلي سكوت وغاس فان سانت ونيل جوردون.
وحتى لئن كانت جوليان مور ولدت أميركية ودرست في جامعة بوسطن، قبل
ان تعيش ردحاً في ألمانيا وإنكلترا، فإن من المنطقي حسبانها على فن
التمثيل الأنغلو ساكسوني بشكل إجمالي، هي التي ولدت أصلاً لأم من
اصول انكليزية - ويلزية، ونشأت نشأة شكسبيرية ما جعلها تعتبر
نفسها، على الدوام، فنانة نصف بريطانية إلى درجة انها حصلت عملياً
منذ العام 2011 على الجنسية البريطانية بعدما طالبت بها مراراً.
ومن هنا لم يكن غريباً ان يعتبر بعض الصحافة الإنكليزية حين أعلن
فوزها في «كان» - وهو كان اول فوز كبير لها على هذا المستوى على
اية حال - الى جانب زميلها الإنكليزي الكبير تيموثي سبال عن دوره
في فيلم «مستر تورنر» - راجع مكاناً آخر في هذه الصفحة - ان الفن
التمثيلي الإنكليزي هو الذي فاز.
ولكن سواء كان فن جوليان مور إنكليزياً أو لم يكن، فإن أداءها
تميّز دائماً بقوته التعبيرية وتركيبيته المدهشة ولا سيما حين تلعب
أدوار المرأة الهستيرية ذات العواطف المركبة المشبوبة، كما الحال
بخاصة في «خريطة الى النجوم» وكما يمكن للمشاهدين ان يتذكروا ما
شاهدوه منها في فيلم «نهاية علاقة» المأخوذ عن رواية رائعة لغراهام
غرين، أو حتى في «ماغنوليا» حيث لعبت بتميّز مذهل زوجة المحتضر
جازون روباردز وهي تلف في المدينة باحثة له ليلاً عن أدويته، او في
«ابن الإنسان» لألفونسو كوارون... كما في أدوار أخرى تضعها على
حافة الانهيار العصبي في أفلام من توقيع تود هاينز أو ريبيكا ميلر.
والحال أخيراً، أنه مهما كان رأينا في فيلم كروننبرغ «خريطة الى
النجوم» الذي اعطى جوليان مور جائزته الكبرى الأولى في مسارها
المهني، لا بد لنا أن نتوقف حقاً عند أدائها فيه حيث لعبت دور نجمة
يتقدم بها العمر وتبدأ بعيش انهيارها البطيء والمميت في هوليوود
وقد أضحت على حافة الهاوية، وهو دور لا شك في أن كروننبرغ كان على
حق حين صرّح للصحافة بأن جوليان مور كانت فائقة الشجاعة حين قبلت
ان تلعبه. ومور كانت دائماً على أية حال من الشجاعة الى درجة أنها
عكست على الشاشة ما لا يمكن توقعه من احوال المرأة في ظل مجتمعات
لا ترحم.
تيموثي سبال:
فنان طريف وحنون خلف قناع الوحش المدهش
منذ اللحظة التي شاهد فيها النقاد في «كان» اللقطات الأولى لفيلم
مايك لي الجديد «مستر تورنر» في المسابقة الرسمية للمهرجان، كان
القرار واضحاً، مهما كان ثمة من أدوار كبيرة وممثلين كبار يؤدونها
في الأفلام المتنافسة، لن يكون ثمة شك في أن جائزة التمثيل الرجالي
ستذهب الى القائم بدور الرسام الإنكليزي الانطباعي ويليام تورنر في
الفيلم، اللهم إلا إذا كان الفيلم نفسه سيقدّر له ان يحصل على
السعفة. عند ذلك كان من شأن حظوظ بطله أن تتضاءل لمصلحة بطل الفيلم
التركي «سبات شتوي». في النهاية سيفوز هذا الأخير بالسعفة، وسيكون
من المنطقي ان تذهب جائزة التمثيل الى تيموثي سبال، اي الى السيد
تورنر، فيعتلي المنصة من اعلى أعوامه المشرفة على الستين ليلقي
الخطبة الأطول في الحفل في شكل شكسبيري على رغم تبسيطيته، وطريف
على رغم بطء إلقائه... وكيف لا يكون الأمر كذلك مع فنان ينتمي
بوضوح الى تقاليد المسرح البريطاني الشكسبيري العريق، ويعرف جيداً
ان مايك لي «صديقي الذي أتعاون معه منذ ثلث قرن وأكثر» أعطاه اكبر
دور لعبه في حياته. ومهما يكن من أمر هنا، فإن كثراً كانوا بالكاد
سمعوا باسم سبال من قبل، حتى وإن كان كثر لا يزالون يتذكرونه في
دوره المميّز في فيلم سابق للي كان فاز اواسط التسعينات بالسعفة
الذهبية وهو «أسرار وأكاذيب»... غير انه مرّ يومها من دون ان يتنبه
احد الى إسمه وإن كان كثر قد تنبهوا الى أدائه «الطبيعي» القوي.
كذلك لا بد من ان نذكر في هذا السياق ان سبال لفت الأنظار حقاً في
فيلم «خطاب الملك» الذي فاز بأوسكار قبل عامين، حيث لعب دور السير
ونستون تشرشل. صحيح ان حضور سبال على الشاشة يومها لم يستغرق سوى
دقائق... وأن الرجل وجد نفسه يتجابه مع إثنين من كبار عمالقة
الشاشة الأنغلو ساكسونية، في ذلك الحين، ومع هذا فإن حضوره بدا
طاغياً الى درجة ان ناقداً قال: «من الآن فصاعداً لن يمكننا ان
نتخيل تشرشل إلا تحت ملامح هذا الذي نسيت إسمه!!».
فهل ليس من حقنا الآن ان نؤكد انه لن يكون من الممكن أن نتخيل رسام
البحر وجنازات السفن الإنكليزي الكبير ويليام تورنر من الآن
وصاعداً إلا تحت ملامح تيموثي سبال؟
سؤال يجد مشروعيته بالنسبة الى كل الذين شاهدوا هذه التحفة
الكلاسيكية الكبيرة التي يدخل بها مايك لي، مخرج الحساسيات
الاجتماعية الرهيفة، من جديد عالمي أفلام السيرة والأفلام
التاريخية – بعد تحفته السابقة «توبسي تورفي»، حيث لعب سبال دور
مغنٍ ناشئ -. ونحن لئن كانت ستكون لنا عودة قريبة الى هذا الفيلم
الاستثنائي على هذه الصفحات، نجدنا هنا ميالين الى الإشارة
السريعة، الى ان تيموثي سبال عرف في هذا الفيلم كيف يحمل جزءاً
أساسياً من الفيلم على كتفيه، فهو حاضر فيه في كل مشهد ولقطة. هو
في الفيلم من يُشاهَد وهو من يشاهد. هو الدور وهو المتفرج في
الأحوال كافة... وحتى وإن لن تكن هذه البطولة المطلقة الأولى التي
يقوم بها تيموثي سبال في اي فيلم من الأفلام التي شارك فيها، والتي
لا يقل عددها عن خمسين فيلماً حتى الآن، فإننا هنا إزاء أول دور
كبير يلعبه ويتيح له أن يشغل ساعتي الفيلم من دون انقطاع متجولاً
بين الأماكن والفئات الاجتماعية والثقافات والحالات الذهنية
والعلاقات النسائية بشكل مدوّخ. وكل هذا وهو هادئ واثق على الدوام
مما يريد ويعرف ما الذي يريده من فنه ولوحاته، وحتى من كل شخص
يعايشه أو يلتقي به.
ونعرف طبعاً ان مثل هذا الأداء يحتاج الى طاقة استثنائية. ولعل
المدهش في الأمر هنا، وكما قال تيموثي سبال بنفسه في خطاب تعليقه
على نيله الجائزة الكانية، أن لا شيء في اوضاعه الصحية كان يشير ان
لديه تلك الطاقة، هو الذي كان شُخّص لديه قبل سنوات داء اللوكيميا،
ما يجعله يعيش اليوم بحرص وحذر يتنافيان تماماً مع ضروب إفراط
أناه/الآخر، الرسام تورنر الذي صوّر، بعبقرية أدائية استثنائية –
نقولها من دون تحفّظ – آخر خمسة وعشرين عاماً من حياته في فيلم
كبير أخرجه الى الضوء أخيراً. |