هند رستم من نعيم الغواية إلي جحيم الدفاععن مبارك
عصام زكريا
ظل اسم هند رستم التي توفيت الاثنين الماضي عن عمر يتجاوز الثمانين،
ورغم اعتزالها الحياة الفنية منذ أكثر من ثلاثين عاماً، مطروحا في الجدل
الدائم الدائر حول الفن والجسد والجنس تارة باعتبارها رمزاً للأنوثة
الطاغية علي شاشة السينما المصرية، وتارة باعتبارها نموذجاً للإغراء
المحترم والمقبول في مواجهة الإغراء المبتذل لممثلات هذه الأيام وتارة
ثالثة بسبب مقاطع الفيديو المأخوذة من أفلامها علي موقع يوتيوب وما تثيره
من تعليقات محبة وأخري رافضة
منذ نحو عشرين عاماً في بداية عملي بالصحافة ذهبت لإجراء حوار مع هند
رستم في شقتها التي تطل علي النيل في حي الزمالك والكائنة في الدور الأرضي
علي ما أذكر في الطريق إلي هناك وخلال الدقائق الأولي من اللقاء كان
الأمر بالنسبة لي بمثابة زيارة لمعبد إلهة قديمة دبت فيها الحياة ولكن
بمرور الوقت ذاب جلال الموقف ورهبته لاحظت أن ربة الجمال التي تجري معي
الحوار تحاول أن تتملص هي شخصياً من صورتها القديمة لا تتبرأ منها ولا
تدينها، ولكنها تحاول تقديمها بشكل يناسب وضعها الجديد كربة بيت وزوجة عجوز
لطبيب وأم وجدة في ذلك الوقت كان تيار تحريم الفن في ذروة صعوده، وكل يوم
والثاني نسمع عمن اعتزلت ومن تحجبت كما نسمع عن الاغتيالات ومحاولات
الاغتيال المستمرة لرموز الفكر والأدب والسياح الأجانب أصابتني إجابات
السيدة هند رستم ببعض الإحباط، وكنت أنتظر أن تدافع بشراسة أنوثتها القديمة
عن الفن الذي قدمته، لاحظت أيضا أنها تتملص من مواجهة بعض الحقائق الشخصية
في حياتها وأنها تحيط نفسها بالكلاب الوفية في محاولة لإضفاء مشاعر الحنان
والأمان علي حياتها وإخفاء خوف قديم ربما من البشر
علي مر العقدين الأخيرين عشنا محاولات هدم السينما والفن ثم محاولات
التصالح مع عصر الأبيض والأسود الذي أضفينا عليه هالة من النبل والحشمة
مقارنة بالفجر والبذاءة التي تتسم بها الأعمال الحديثة، تصنيفات في رءوسنا
فقط اخترعناها لنحل معضلة الفن الحرام والفن الحلال التي ابتلينا بها دونا
عن شعوب الأرض وكانت هند رستم مثلا يتردد في معظم الحوارات الفنية التي
لا تخلو من سؤال أو أكثر عن الإغراء ومواصفاته ومدي قبول الممثلات له
وكانت الإجابة النموذجية دائما والتي تحصل علي أعلي الدرجات من قبل
المتشددين والمعتدلين علي السواء هي أقبل الإغراء علي طريقة هند رستم
الذي يعتمد علي الإيحاء بالعين والهمسة ولا أقبل إغراء هذه الأيام الذي
يعتمد علي التعري والابتذال
وجدت دائما أن هذا التصنيف مفتعل ومنافق، وأن مشاهد العري والإغواء
أكثر تأثيرا وإثارة في أفلام الماضي وأن الممثلات الجدد متحفظات ومتوترات
وغير مثيرات يكفي أن تشاهد هند رستم في ابن حميدو أو باب الحديد أو
رد قلبي أو صراع في النيل أو حتي بين السماء والأرض لتدرك أن هنا
امرأة تتباهي وتبرز أنوثتها دون تردد أو خجل من الجسد أو الجنس في مقارنة
بنساء يتقوقعن داخل أجسادهن كلما تعرين
جاءت هند رستم إلي ساحة السينما المصرية في عز صعودها وعايشت عصرها
الذهبي الذي يمتد من نهاية الأربعينيات إلي نهاية الستينيات صعدت
نجوميتها مع صعود هذه السينما وانهارت مع انهيارها واعتزلت مع نهاية هذا
العصر وميلاد سينما الواقعية الجديدة في الثمانينيات
لو أنها جاءت مبكراً قليلاً لما وجدت فرصة علي الساحة الممتلئة
بالبطلات النحيفات الشاحبات لفترة الثلاثينيات والأربعينيات ولو أنها
جاءت متأخرة قليلا لأصبحت نموذجاً صارخاً للغواية الصريحة والمقتحمة كما
كانت ناهد شريف ونادية الجندي ونعمت مختار في الثمانينيات لكن هند رستم
جاءت في ذروة صعود نظام النجوم، الذي كان تقليدا لنظام النجوم الهوليودي،
وكانت بعض نماذجه تقليداً محلياً للنجوم الأمريكيين ومنهم هند رستم التي
ارتبط اسمها بلقب مارلين مونرو الشرق
ليست هند رستم إذن تمثيلا للأدوار التي قدمتها فحسب، ولكنها تمثل
عصراً كاملاً وصل فيه فن السينما والمجتمع المصري كله إلي أعلي درجة وصل
إليها في قبول الحداثة والمدنية قبل أن ينكفئ علي نفسه ويسارع بالعودة إلي
الخلف مذعوراً منذ نهاية السبعينيات
ربما يقصد الذين يدافعون عن إغراء هند رستم، وان كنت أشك أنهم يقصدون،
أن الإغواء والجسد العاري لم يكونا مبتذلين أو مخجلين في ذلك العهد لأنهما
كانا في إطار حداثة شاملة متحررة وبريئة ومعتزة بنفسها، وليس ذلك التحرر
المسروق السري والمخجل لصاحبه الذي يسود المجتمع الآن ربما، ولكن التدهور
المستمر الذي عانت منه حوارات هند رستم وصل في نهاية الأمر إلي وصف ميدان
التحرير بـ الكباريه والدفاع عن مبارك حتي بعد رحيله موقف ليس منفردا
ولا استثنائيا وسط الفنانين المصريين الذين نسوا معني الفن والكرامة منذ
زمن بعيد
الأسف الذي شعرت به عقب لقائي بهند رستم في بداية التسعينيات لم يكن
سببه تراجع المجتمع، ولكن تراجع الفنانين أنفسهم وقلة حيلتهم وجبنهم في
مواجهة جيوش التخلف ولو أن هند رستم وباقي الفنانين والمثقفين كان لديهم
شجاعة المواجهة وقتها لتغير وجه التاريخ أكتب ذلك وعيني علي حاضرنا اليوم
وليس علي ذلك الماضي البعيد
|