أوروبا تهيمن على المسابقة في دورة تلتفت الى المهاجرين
والمتخرجين من السجون
....
ديتر كوسليك يُعلي سقف الطموحات مازجاً الهويات ومنفتحاً
على العالم بأسره
هذا المساء تنطلق الدورة الستون لمهرجان برلين السينمائي التي من
المتوقع ان
تكون دورة تحلق عالياً، مسنودة ببرمجة تليق بسن النضج التي تبلغها
المهرجان. مثل
هذا الوعد بتجاوز الذات، اعتدنا سماعه قبل كل دورة من البرليناله. ثم عندما
تُعرَض
الأفلام وينتهي النقاش، تكون الاستنتاجات أقرب الى الخذلان،
والكلام نفسه يعود على
ألسنة بعضهم ومسامع بعضهم الآخر: مهرجان برلين ليس فيه الا بضعة أفلام
جيدة،
واختيارات مديره ديتر كوسليك غير صائبة البتة، و"مهرجان كانّ" هو الذي
يصطاد دائماً
كل ما هو مستجد ومثير ويسرق الاسماء المنتظرة من دربه. أحياناً يبدأ
التململ في
منتصف المهرجان. وأحياناً في آخره. الأهم في هذه الحالة ألاّ
يحصل في بدايته.
في انتظار هذا كله، يتوجه أهل السينما اليوم الى مدينة تاريخية عريقة
ومهرجانها
الذي ساهم الى حدّ كبير في توحيد هذه المدينة بعدما انقسمت شطرين على مدار
عقود على
اساس ايديولوجي. بعضهم سيحضر الى هنا بالقطار والسيارات من بلدان أوروبية
قريبة،
وبعضهم الآخر سيستقل الطائرة لينتقل اليها من قارات أخرى
بعيدة. وعلى رغم انخفاض
الحرارة الى ادنى درجاتها، فالسينما والرغبة في المشاهدة تكفلان تدفئة قلوب
البرلينيين وسواهم ممن سيقيمون هنا بين الحادي عشر والحادي والعشرين من
شباط في
مدينة لها رمزية كبيرة بالنسبة الى الألمان خصوصاً والأوروبيين
عموماً.
المهمة الصعبة
برلين المدينة ستكون محط انظار في الأيام الأحد عشر المقبلة. فهل تكون
مسابقتها
الرسمية كذلك ايضاً؟ هناك 20 فيلماً تتسابق على جائزة "الدب الذهب" ودببة
أخرى في
مجالات عدة، ومعظمها عناوين غامضة ستنكشف مضامينها وتفاصيلها في الأيام
القليلة
المقبلة. الأفلام التي تسابقت في كانّ في الدورة الفائتة لوحظ
بعد انتهاء العام
انها كانت اهم ما صُنع وعُرض في 2009. ابسط أمنية هي أن يحذو برلين حذو
كانّ،
ويأتينا بأكبر قدر من الأفلام التي تظل ماثلة في الذاكرة.
فيرنير هيرتزوغ هو
الذي يترأس هذه السنة لجنة التحكيم. مع اسناد هذه المهمة اليه، يكتسي
المهرجان
طابعاً ألمانياً ألمانياً لا نعرف ما طبيعة التأثير التي سيكون له في
النتيجة
النهائية. هيرتزوغ مخرج كبير له افكاره المعروفة وطريقة عمله.
وله ايضاً جانب جعله
ينفتح على تجارب غير المانية. شاهدنا له في البندقية أخيراً ريميك فيلم كان
قد
أخرجه سابقاً الأميركي أبيل فيرارا عنوانه "ملازم سيئ"، وكان على قدر كبير
من
الرعونة على رغم بعض الأشياء التي حاول هيرتزوغ العبث فيها. لكن التعرف الى
هذا
الالماني الغاضب من هذا المكان، هو خطأ غير مغفور. فنحن نتكلم
عن سينمائي أنجز "اغيري،
غضب الله" و"فيتسكارالدو" و"رجل الغريزلي"، وهو أحد أعلام السينما
الألمانية الجديدة. يمتد مسار الرجل على خمسة عقود لم يتوقف خلالها عن
العمل، لا بل
سعى في أحايين كثيرة الى تجديد جلده، ولم يتوان مثلاً عن الانكباب على
وثائقيات
غريبة والذهاب الى القطب الجنوبي لتصوير مصير رجل وصديقته
ستأكلهما الدببة بعد أن
تحاول تحويلهما حيوانات أليفة. يساند هيرتزوغ في مهمته الصعبة المخرجة
الايطالية
فرانتشيسكا كومينتشيني، التي كانت، هي الاخرى، تتسابق جنباً الى جنب مع
هيرتزوغ، في
المسابقة الاخيرة لمهرجان البندقية. سيكون برفقتهما الكاتب
الصومالي نور الدين فرح
الذي ترجمت رواياته الى أكثر من عشرين لغة، وأيضاً وخصوصاً الممثلة
كورنيليا فروبوز
التي لعبت تحت ادارة فاسبيندر في فيلمه "سر فيرونيكا فوس". أما العضو
الخامس فهو
الاسباني خوسيه ماريا موراليس، احد المنتجين الذين يعرفون جيداً البرليناله
اذ سبق
أن شارك فيه مرات عدة، كان آخرها مع فيلم البيروفية كلاوديا
ليوسا التي حازت في هذا
المكان نفسه العام الماضي "الدب الذهب" عن فيلمها "حليب الاسى". تنضم الى
هذه
الفرقة الجميلة، الممثلة الصينية يو نان التي بعدما عرفت بأفلام فنية في
بلادها
سلكت درب هوليوود. والى ساحة بوتزدامر ستأتي أيضاً الممثلة ذات
الرقة التي لا
تضاهى، رينيه زيلويغر، ولن تكون مجرد لعبة للبكاء والتباكي، انما سيكون لها
كلمة في
جائزة "الدب الذهب" التي ستمنح في العشرين من الجاري.
سينمائيون لا بلدان
هناك اذاً 20 فيلماً في المسابقة الرسمية، 18 منها تُعرَض للمرة
الاولى عالمياً.
هذه الأعمال تأتينا من 14 بلداً مختلفاً هي تركيا، اليابان، الولايات
المتحدة،
الدانمارك، النروج، رومانيا، انكلترا، المانيا، روسيا، فرنسا،
البوسنة، اسبانيا،
الصين، ايران. التوزيع الجغرافي هذا موحٍ على أكثر من صعيد: أميركا
اللاتينية غائبة
عن المسابقة (اذا استثنينا "بازل" للأرجنتينية ناتاليا سميرنوف من انتاج
فرنسي)
بعدما كانت نجمة المهرجان العام الماضي اثر
فوز الشريط البيروفي "حليب الاسى"
بـ"الدب الذهب". أما آسيا القصوى فمتمثلة في بلدين هما اليابان والصين على
حساب
السينما الكورية التي بات من المعروف أن جواهرها تقتنص في كانّ وليس في
برلين الذي
يفتح ذراعيه، مرة أخرى هذه السنة في المسابقة الرسمية،
لجمهورية ايران الاسلامية،
نظراً الى وجود شراكة سينمائية بينها وبين المهرجان. اذاً تسعة من 14 بلداً
مشاركاً
في المهرجان هي بلدان أوروبية، والأولوية لشباب أوروبيين يخوضون لتوّهم
غمار
الاخراج، ومنهم سبق له ان جاء الى هنا، مشاهداً أو مشاركاً.
لكن لنبتعد قليلاً عن
منطق المباريات في منتخبات كرة القدم، والعقلية المناطقية، فنحن في نهاية
المطاف
أمام سينمائيين وليس أمام بلدان، ومنهم حتى من يفعل عكس ما تفعل بلدانهم.
اذاً
الافتتاح هذ المساء بفيلم Apart together
للصيني وانغ كوانان. صاحب "زواج تويا"
الذي حاز "الدب الذهب" عام 2007، يقترح هنا قراءة مستجدة ومثيرة لتاريخ
بلاده
الحديث. بعد أكثر من نصف قرن على تأسيس الجمهورية الشعبية الصينية، تنظَّم
أول
زيارة لمجموعة من المحاربين القدامى بغية لمّ الشمل. دائماً في
اطار المسابقة، التي
تبدأ من صباح غد، نجد الروسي الكساي بوبوغريبسكي الذي سيقدم في البرليناله
فيلمه "كيف
انهيت هذا الصيف" الذي تجري حوادثه في محطة قطبية على جزيرة نائية. الفيلم
يصفه الملف الصحافي بأنه "ثريللر نفسي قطبي"، مستوحى من يوميات ن. ف.
بينغين، التي
دوّنها عام 1912 عندما رافق المستكشف الروسي جورجي سيدوف في محاولته لبلوغ
القطب
الشمالي، والتي مات على اثرها. كان المخرج في الرابعة عشرة من
العمر عندما قرأ هذه
اليوميات فأصيب بالذهول ولا سيما لقدرة بعضهم على التعامل مع مفهومي الزمن
والمساحة.
عودة ثنائي
بعد "ماموث" للوكاس موديسون، فيلم آخر بالعنوان نفسه يشارك في برلين،
لكن هذه
المرة من اخراج الفرنسيين بونوا ديليبين وغوستاف كيرفيرن. العمل يعيد الى
الضوء
الثنائي ايزابيل أدجاني وجيرار دوبارديو، بعد عقدين على تمثيلهما "كاميل
كلوديل"
لبرونو نويتان، حول قصة رجل ستّيني يعلم في يوم تقاعده أن ستة من الذين عمل
عندهم
كموظف لم يبلّغوا عنه في الضمان الاجتماعي، مما يضطره الى تعقب آثار شبابه
من مكان
الى آخر، ليكتشف في نهاية المطاف ان جميع من قابلهم في حياته
كانوا يعتبرونه ابله،
ولا يزالون يعتبرونه كذلك الى اليوم. مسكون بالشك وبذكرى موت صديقته ياسمين
التي
قُتلت في حادث دراجة نارية، سينسى صديقنا الهدف الاول الذي باشر رحلته من
أجله،
ليجد في داخله شيئاً فشيئاً شاعراً نائماً. وها ان الحياة
تنبعث من أعماقه
مجدداً.
من المخرجين القلائل المعروفين والمشاركين في مسابقة هذه الدورة، هناك "القاتل
الذي في داخلي" للانكليزي مايكل وينتربوتوم الذي يقتبس في هذا الفيلم
الـ"نوار"، احدى روايات جيم تومسون الذي سبق أن شكلت كتبُه اصولاً أدبية
لأفلام من
إنجاز ستانلي كوبريك وبرتران تافيرنييه وسام بكينبا. هذه الرواية المنشورة
عام 1952
والتي سبق أن أفلمها برت كينيدي عام 1976، هي أحدى أكثر روايات طومسون
شخصانية.
محور القصة هو شريف فاسد، يحبه الجميع ويحترمه، لكن ازدياد الجريمة في
المنطقة التي
يشرف عليها، سيفتح عيون الناس عليه، وصولاً الى فضح حقيقته أمام الجميع:
مجرم سادي
يقتل بدم بارد. التمثيل هنا لجيسيكا ألبا وكايسي أفليك.
من تركيا يأتينا سميح
كابلانوغلو بفيلمه "عسل". هذا المخرج قابلناه للمرة الاولى في مهرجان
القارات
الثلاث عام 2005. حينها فاز بالجائزة الكبرى عن فيلمه "سقوط الملائكة". بعد
مشاركته
في مسابقة البندقية قبل عامين، بفيلمه "حليب"، ها انه يشارك في برلين بقصة
عائلة
تهزّ استقرارها مجموعة أحداث مترابطة، منها ذهاب الأب الى جهة مجهولة وسكوت
الابن،
هذا كله على خلفية حلم يطارد الجميع، في طريقه الى التحول
حقيقة ملموسة.
حروب وصراعات
بعد 23 عاماً على نيله "الدب الذهب" في مهرجان برلين، يشارك المخرج
الصيني
المعروف زانغ يمو في مسابقة هذه السنة مع "امرأة، مسدس ومتجر المعكرونة"،
عن وانغ
الذي يدير متجراً متواضعاً لبيع المعكرونة الصينية، لكن الجميع يتذمر من
بخله وطبعه
الرديء، مما يجعل زوجته تنام مع الطبّاخ كلما كانت في حاجة الى أحمر شفاه.
يقال إن
الفيلم هو نسخة ثانية لـBlood
simple
باكورة الأخوين كووين، الذي اعجب به يمو عندما
شاهده للمرة الاولى في أحد المهرجانات قبل عشرين عاماً. دائماً
من آسيا، وتحديداً
من اليابان، هناك فيلم السبعيني كوجي واكاماتسو "كاتربيلار"، عن ضابط يعود
من الحرب
مبتور الرجل والذراع ومغطّى صدره بالنياشين العسكرية. واكاماتسو، الذي كان
معروفاً
لمواقفه السياسية المتطرفة، جاء الى البرليناله للمرة الاولى عام 1965، مع
فيلم
"أسرار خلف الجدار"، وكانت له زيارة أخرى لها قبل عامين (ضمن قسم
فوروم) مع فيلم "جيش
يونايتد الأحمر"، وفي اثناء عملية التقاط مشاهد، خطرت على باله فكرة هذا
الفيلم. يقول: "ايقنت انه، من أجل أن نفهم شباب الستينات من القرن الفائت
وسبعيناته، يجب علينا أولاً أن ننجز فيلماً عن حقبة اهلهم اثناء حرب المحيط
الهادئ.
عملية وصف الحرب لا تعني اظهار طلقات الرصاص والمعارك، بل الاصرار على
أولئك الذين
يتأثرون منها أكثر من سواهم، أي الاطفال والنساء الذين لا يشاركون حتى في
الحرب.
القادة يكذبون على الناس عندما يقولون لهم
ان الحرب مفيدة، ويغشونهم كي يذهبوا الى
الحروب. يبقون على مسافة منها ولا يزالون على قيد الحياة عندما
تنتهي الحرب. كنت
أؤمن أن شخصيات "جيش يونايتد الاحمر" اصبحوا ما كانوا عليه، لأن اهاليهم
عاشوا هذه
المرحلة".
هناك أيضاً فيلم يدعى "بازل". بعد عملها لمدة سبعة أعوام في
التلفزيون، تقفز المخرجة الارجنتينية ناتاليا سميرنوف الى الاخراج
السينمائي في هذا
الفيلم الذي انتج بالاشتراك مع فرنسا ويروي قصة ماريا، فتاة
تهدي اليها عائلتها في
يوم عيد ميلادها الخمسين لعبة بازل بغية تركيب أجزائها المبعثرة. لكن هذه
اللعبة
ستكون مدخلها للتعرف الى رجل عجوز سيندهش بالطريقة القديمة التي ستتبعها
ماريا
لتركيب البازل. سيدة أخرى، هي الدانماركية برنيل فيشر
كريستنسن، تشارك مع فيلمها
الثاني في المسابقة، بعدما كان فيلمها الاول حاز جائزة لجنة التحكيم
الكبرى. أما من
البلد المضياف، فيأتينا "الصياد" لرافي بيتس (انتاج ايراني - الماني
مشترك)، عن شاب
ايراني اسمه علي يخرج من السجن ويجد عملاً في احد المصانع بحيث يمكنه سدّ
جوع
عائلته، الى اليوم الذي تختفي فيه زوجته وابنته، ليتبين انهما
كانتا ضحية احدى
التظاهرات المسلحة. فيلمان آخران من المانيا: "اللصّ" لبنجامين هايزنبرغ،
عن رياضي
شارك في ماراتونات، يسرق المصارف ويعيش في منأى من عيون الآخرين؛ و"جيو
سوس، صعود
وانحطاط" لأوسكار رولر، عن ممثل اسمه فرديناند ماريان، اضطلع بدور البطولة
في فيلم
دعاية للنازية عام 1940. برع في تقمص هذه الشخصية، لكنه أيضاً دمّر نفسه من
خلالها.
التاريخ والحاضر
نوا بومباك معروف لاشتغاله على نصوص ويس اندرسون. اليوم، لديه فيلم
جديد اسمه "غرينبرغ"،
عن علاقة غرائبية بين "مساعدة شخصية" لعائلة ثرية والرجل الذي يحرص على
منزل هذه العائلة خلال سفرها الى الخارج. اما من البوسنة، فهناك فيلم
جاسميلا
جبانيتش المعنون "على الدرب". المخرجة المولودة في ساراييفو،
تعود هذه المرة بشريط
يعالج علاقة ثنائي لا تجري الامور بينهما على ما يرام، ولا سيما عندما يقرر
الرجل
الانخراط في محيط ديني وهّابي متشدد، رغبة منه في التخلص من عادة شرب
الكحول.
قصص وحكايات كثيرة، بدأت قبل أن تُنجَز عنها أفلام، وستستمر بعد ان
تغرق هذه
الأفلام في النسيان. برلين، لرمزيتها ولتجربتها المرّة (ولشتائها القارس
الذي يبدو
ان الوسيلة الوحيدة للاحتماء من قسوته هو اللجوء الى الصالات المظلمة)،
تستوعب هذا
الكمّ، مع العلم ان الأشياء تأخذ هنا مذاقاً مختلفاً في بعض الأحيان لعدم
امكان عزل
التاريخ عن الحاضر، واليوم عن الأمس.
بالنسبة الى الأفلام الاوروبية، معظم هذه
الشخصيات التي نجد ملامح صارمة لها في الأفلام المعروضة (خير،
شر، وما بينهما) هي
صنيعة بيئة اوروبية حيث هاجس الاندماج يطغى على سائر الهموم. هناك الخوف من
الآخر
ايضاً، لكن هناك الخوف من الذات دائماً. لا يزال الوقت مبكراً للاستنتاجات
الواضحة
التي تتكفل منحنا فكرة واضحة عن المنحى التيماتيكي الذي تذهب
اليه السينما
الأوروبية، ولا سيما أن الملخصات غالباً ما تأتي متسرعة وتوقعنا في الخطأ.
مع ذلك
كله، هناك اكثر من فيلم، شخصياته من مسلمي الجيل الثاني او الثالث. وهذا
يقول
الكثير عن أوروبا اليوم ومخاوفها. في العام الماضي، جاءنا رشيد
بوشارب في هذا
المكان نفسه بفيلم "نهر لندن" الذي طرح بذكاء مسألة الاسلاموفوبيا في مدينة
مثل
لندن. ما كان استثناءً العام الماضي، هل يتحول هذه السنة ظاهرة، وخصوصاً في
ظل
اختلاط فظيع بين الهويات، أي الاختلاف بين هوية الفيلم وهوية
المخرج؟ شريط "شهادة"
ذو العنوان اللمّاح لمخرجه الأفغاني الاصل برهان قرباني، قد يكون التمثيل
الأدق
لهذا التيار المتنامي، اذ يحكي قصة ثلاثة شبان مسلمين من برلين، مريم وسمير
واسماعيل،
وعلاقتهم بإيمانهم والخيارات الناتجة منه في مدينة مفتوحة على كل
الاحتمالات.
تحت الاربعين
دورة 2010 تتضمن عدداً لا بأس به من السينمائيين الذين لم يبلغوا
الاربعين بعد.
الروماني فلورين سيربان هو واحد من هؤلاء. فيلمه "اذا اردت ان اصفر،
سأصفر"، ذو
العنوان الغريب، يتعقب شؤون شاب "مشكلجي" يبقى له خمسة ايام ليعود الى
المنزل بعدما
كان قد وُضع في مركز للتأهيل. بيد أنه عندما يعلم ان شقيقه الاصغر الذي كان
له يد
في تربيته هو الآخر سيعود الى المنزل، فإن هذه الايام الخمسة
ستصبح ابدية.
اللافت أيضاً في تشكيلة هذه السنة، عدد الأفلام التي تتكلم عن متخرجين
من سجون
أمضوا فترة عقابهم وها هم ينصرفون الى الحياة الحرة. جميعنا يتذكر تحفة عام
2004
لبيتر مولاند "بلاد جميلة". هذا المخرج يعود اليوم مع
A Somewhat gentle man،
وهو
الآخر يختار قصة سجين يعود الى الحياة الطبيعية بعد 12 عاماً سجناً، ليبدأ
حينذاك
مساراً طويلاً مع تيمات مثل المغفرة والانتقام والتوبة. عقل
نيّر آخر هنا هذه
السنة: توماس فينتربرغ. الأرجح أن فيلمه الجديد لن يكون مصوَّراً بحسب
قواعد
الدوغما التي لجأ اليها لإنجاز رائعته Festen.
في "سابمارينو"، يروي فينتربرغ،
نابغة السينما الدانماركية، قصة شقيقين يصبح الواحد منهما
بعيداً عن انظار الاخر،
قبل أن يلتقيا بالمصادفة في احد السجون (السجن، مرة أخرى!). مقتبس من رواية
للكاتب
الدانماركي جوناس بينغتسون، يعود الفيلم الى طفولة الاخوين لتبرير سلوكهما
ولجوئهما
الى الكحول والمخدرات، وهو، في تقديري الخاص، أحد الافلام المرشحة لاثارة
الاهتمام
على ساحة بوتزدامر هذه السنة.
فيلم آخر، أميركي هذه المرة، قد لا يمر مرور
الكرام في المسابقة:
Howl
لروبرت ابشتاين وجيفري فريدمان اللذين يلتفتان في هذا
الفيلم الى الشاعر الاميركي الكبير ألان غينسبرغ انطلاقاً من قصيدة له مثلت
أمام
محكمة سان فرنسيسكو في مرحلة أولى بعدما كان الشعر قرأها عام 1955، ثم
نُشرت في
احدى المطبوعات التي يديرها الشاعر لورنس فيرلينغيتي، مما
استدعى تدخل الشرطة التي
صادرت 520 نسخة من المطبوعة التي نشرت فيها القصيدة، واتهام فيرلينغيتي
أمام
المحكمة بتهمة نشر كتابات أباحية. هذه المحاكمة هي التي اعطت الضوء الأخضر
للثقافة
المضادة التي بلغت احدى قممها في الكتاب المؤسس لثقافة الـ"بيتنيك": "على
الطريق"
لجاك كرواك. هذه اللحظة التاريخية يعيد كل من ابشتاين وفريدمان تجسيدها من
وجهات
نظر ثلاث.
نذير شؤم
بولانسكي لن يكون حاضراً في الدورة الـ60 من مهرجان برلين، أما فيلمه
"الكاتب
الشبح" فبلى. أكبر المشاركين في المسابقة عمراً، يروي في جديده الذي كان
يخشى الا
يكون جاهزاً للتشكيلة البرلينية بسبب ما تعرّض له أخيراً، قصة كاتب مأجور
يُطلَب
منه كتابة مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق آدام لانغ.
الناشر وعد الكاتب
بمبلغ كبير من المال، لكن يبدو ان المشروع محاط بنذير شؤم ولا سيما ان احد
الذين
سيبني الكاتب روايته على استشارته يموت في حادث تراجيدي.
خارج المسابقة، لكن
ضمن التشكيلة الرسمية، نجد ستة أفلام، أهمها
Shutter island
لمارتن سكورسيزي، و"عن
شقيقها" ليوجي يامادا الذي يختتم المهرجان. في الاقسام الاخرى:
"فوروم" الذي يحتفي
بعيده الاربعين، يأتي في هذه المناسبة بعناوين ترقى الى هذا
الحدث، و"بانوراما"
(يتضمن
فيلمين عربيين هما "ابن بابل" لمحمد الدراجي و"الرجل الذي باع العالم"
لسهيل
وعماد النوري) الذي يفتح ذراعيه لسينما العالم شمالاً وجنوباً، غرباً
وشرقاً. هناك
مئات الأفلام لا يسمح ضيق الوقت بمشاهدتها: من وثائقي عن الناقد السينمائي
ميشال
سيمان الى أفلام عن التغذية، مروراً بفرزان أوزبيتيك وشانتال
أكيرمان، نحن أمام
تنوع قد يصدم بتنوعه وعدم التجانس بين عناصره. استعادات كبيرة وفضفاضة،
تكريمات
لوجوه سينمائية ذات أهمية في صناعة الوعي السينمائي الالماني والاوروبي
والعالمي.
هذا كله يشير الى أن ديتر كوسليك يرفع سقف الطموحات عالياً، ليس فقط رغبة
بالبهرجة،
انما من خلال تحويل المدينة برمتها احتفاء بعظمة السينما. أياً يكن، فعلى
الورق، كل
شيء يبدو جميلاً. أما على الشاشة، فعلينا ان ننتظر لنتأكد من ذلك...
المسابقة الرسمية (20 فيلماً)
Tuan Yuan (افتتاحاً)
*
Mammuth *
Puzzle *
A Simple Noodle Story *
Submarino *
Caterpillar *
A Family *
A Somewhat Gentle Man *
If I Want To Whistle, I Whistle *
Greenberg *
Howl *
Jud Sub : Film Ohne Gewissen *
How I Ended This Summer *
Shahada *
The Killer Inside Me *
The Ghost-writer *
Bal *
Der Räuber *
Na Putu *
Shekarchi *
خارج المسابقة
Exit Through The Gift Shop *
The Kids Are All Right *
Please Give *
Shutter Island *
My Name Is Khan *
Otôto (ختاماً) *
(hauvick.habechian@annahar.com.lb)
####
خارج الكادر
راديكالية!
شحّ مخيلة، قصر نظر،
أفكار بدائية غير ناضجة، هذا بعضٌ من أحوال الأفلام القصيرة العربية التي
عُرضت
أخيراً في مهرجان كليرمون فيران السينمائي. في "رؤوس دجاج" للفلسطيني
الأميركي بسام
علي الجرباوي، تأخذنا الكاميرا الى أحدى القرى الفلسطينية حيث الحياة
البرية وسط
طبيعة شاسعة. نتعرف الى صبيين ووالدهما. النبرة قاسية. الجو
مقلق. شيئاً فشيئاً
نكتشف لماذا. يدخل الى الكادر يوسف، صغير العائلة. يوسف أمام معضلة
أخلاقية: غزاله
قتل خروف العائلة السمين من دون قصد. خشية على مصير الغزال، يتهم يوسف كلب
شقيقه.
لكن عندما تتبلور الامور، الى حدّ يصمم ابوه على الانتقام من هذا الكلب
وتسميمه،
يقرر يوسف أن يقول الحقيقة.
سبق للجرباوي أن أخرج فيلماً قصيراً مدته ست عشرة
دقيقة اسمه "فريكوانسي" (2005). مع هذا الفيلم الذي تدور أحداثه البسيطة في
محيط
فلسطيني صرف، يلجأ الى الاستعارة انطلاقاً من تيمات كالمغفرة والشعور
بالذنب. واقع
يذكّر بواقع آخر. على رغم هذا كله، لا يوصل الفيلم الى أي مكان
ذي قيمة، لأن
الطريقة التي أنجز بها، تقنياً واخراجياً، تبقى في مكانها حائرة وتائهة.
نحن أمام
نموذج آخر لمخرج عربي مثقل بالهموم. فما إن يمسك المخرج الفلسطيني أو
اللبناني أو
السعودي او الجزائري كاميراه حتى يضع نصب عينيه أهدافاً كبيرة:
قضية المرأة،
اسرائيل، القمع، تسلط الدين، خناق الجماعة. القضايا تصنع سينما بلا شك، لكن
يبدو أن
كثرتها مثل غيابها. والسلاح في يد من يجهل استعماله، يؤدي أحياناً الى قتل
الذات.
في المهرجان نفسه، شاهدنا أحد اهم أفلام المسابقة: "جويل" للايسلندي
هلينور
بالماسون. فيلم يأتي من بلاد لا تتصدر عناوين الصحف ونشرات الأخبار كل يوم.
واذا
كان هناك هموم فهي من نوع
آخر. هذا الغياب للقضية الملحة يجعل سينمائيي هذه البلدان
يشغلون عقولهم ويبتكرون ما لم نجده في أفلام السينمائيين الشباب العرب
المعروضة في
كليرمون. يحكي بالماسون في فيلمه عن الفراغ الذي يدفع بالشاب المهمش جويل
الى
المشاركة في لعبة سادية قاتلة. مجموعة من هواة الدراجات
النارية يدفنونه تحت رمال
احد الشواطئ ويتيحون له التنفس عبر انبوب ويضعون الى جانبه شاباً يحرسه.
لكن الأخير
ينام فتدخل مياه الأمواج الى الانبوب ويموت جويل! من فكرة بسيطة وموحية،
أنجز
بالماسون فيلماً جميلاً ينهض على أفكار متداخلة، أهمها الوعي
الشبابي في مجتمع
مستقر ومتجانس. هذا الوعي بحسبه يحتاج دائماً الى صدمة.
هناك ايمان بالصورة
كناقلة احاسيس وأفكار كبيرة لدى السينمائيين الغربيين الشباب. لغتهم أكثر
نضجاً،
وتقنياتهم كذلك. لا شأن لهذا النضج بالامكانات المادية بل بالخلفية
الثقافية وبفهم
آخر للسينما. اذ شاهدنا بعض الأفلام التي حظيت بإمكانات ضئيلة
جداً تذهب الى أبعد
بكثير من مجرد النكتة. والنكتة هي الشيء الذي وقف عنده اللبناني جورج طربيه
في
فيلمه القصير Civil… but not civilized.
لا نعرف ما اذا كانت تفاصيل قصته شخصية،
لكن كل شيء يجعلنا نؤمن بذلك. بيد انه من يوميات حرب 1989 التي صوّرها
طربيه، لا
يلفتنا الكثير، لأنها خلاصة ما سبق أن رأيناه في الموروث البصري اللبناني
المتعلق
بالحرب. كثير من التضخيم لاستدرار العواطف، والقليل من
السينما. التمثيل التلفزيوني
الكاريكاتوري لريمون صليبا ينسف كل شي. يشارف الفيلم نهايته من دون أن يقول
شيئاً،
لا بصرياً ولا سياسياً ولا انسانياً. يبقى على حافة الأشياء والكلمات (لا
تسعفه بعض
الشتائم) لأن الشجاعة تنقصه وبعض الراديكالية التي ترافق كل
مراحل عملية الخلق لدى
سينمائيين من الدانمارك وهولندا وبريطانيا مثلاً، وهي راديكالية قادرة على
إحداث
الفرق... كل الفرق!
هـ. ح.
النهار اللبنانية في
11/02/2010 |