باختيار المخرج السوري (غسان
عبد
الله) لقطةً افتتاحيةً عامة لمدينة دمشق، واستعراضه البانورامي لها،
فإنه يشير
ـ
بدون مُواربة ـ إلي الإطار المكاني، والزماني لأحداث فيلمه الروائي
القصير (أحلام
منتصف الظهيرة)، وبانتقاله المُفاجئ إلي لقطة متوسطة لكفي رجل،
وامرأة يلتقيان،
وتعلو
مؤثرات دقات طبول، وموسيقي أفراح، وينهض العريسان، ومعهما الكاميرا
مبتعدةً
إلي
الخلف نحو الأعلي، فقد تخير بذلك لقطات تعميمية مُوجزة لا يمكن فهم
دلالاتها
بدون لقطة تالية تظهر إعلاناً كبيراً عن (المصرف الوطني
العقاري، مشروع الأحلام
السكني)، حالما ترتفع الكاميرا من جديد، وتستعرض مباني سكنية فاخرة،
وتتقدم لتعبر
نافذة أحدها، وتدخل إلي صالة ..تصحبها موسيقي ناعمة، ونشاهد
زوجة تحمل طبقاً
ساخناً، تضعه فوق طاولة يجلس علي جانبيها أب، وطفلةٌ صغيرة.
مما
شاهدناه يمكن أن
نستخلص الفكرة التالية
:
في
دمشق، العاصمة السورية، يتزوج شابٌ (ما) من امرأة
(ما)،
ويستقران في مسكن فاخر، وينجبان طفلةً، ويعيشان حياةً هانئة....
باقتطاعه
من سياقه، وما سوف نشاهده فيما بعد، تطغي علي ذاك المشهد
صياغةً سينمائيةً (إعلانية)
عن مشروع سكني، أو سلعة غذائية.
وباستمرار تجوال الكاميرا في الحي
الفاخر، وهبوطها من جديد بعكس حركتها السابقة نحو سيارة، وشخص (ما)
يسترخي خلف
مقودها، يبتعد الفيلم عن تلك الصبغة، ويقترب أكثر فأكثر من مساره
الروائي، حيث
نتوقع كمتفرجين تطور الحكاية.
وحالما يستعيد شريط الصوت دقات الطبول، تصاحب
رؤوساً من الخلف ضمن مجموعة مواطنين ينتظرون الحافلة العمومية،
ويتطلعون إلي
إعلانات كبيرة، يتبين لنا بأن هناك حكاية أخري سوف تتوازي، تتقاطع، أو
تتداخل مع
الأولي.
هناك
احتمالان لتفسير تلك المشاهد المتباينة :
ـ
الزفاف، الحي
السكني، البيت الفاخر، الأسرة النموذجية....تشكل في مجموعها
مشهداً حقيقيا (غير
مُتخيل) يعبر عن جانب من المجتمع السوري.
ـ أو
الاحتمال الأرجح، فقد سرحت
الشخصيات المُنتظرة للحافلة، أو البعض منها، وبدأت تحلم بالزواج،
البيت، الاستقرار،
الأولاد، والحياة الهانئة..
وفي
لحظة مرور سيارة فوق بركة ماء (وكأن سائقها
يتعمد
تصرفاً سادياً أرعن) استيقظ هؤلاء من شرودهم، وأحلامهم، وعادوا إلي
معاناة
الواقع.
إنه
احتمال كبير أن يكون المشهد الأول مجرد (حلم) لهؤلاء المواطنين
(المساكين)،
وهو ما يؤكده عنوان الفيلم، ولكنه في نفس الوقت لم يكن (حلم) أي واحد
منهم،
لأن الشخصيات التي شاهدناها في ذلك المشهد المُتخيل مختلفة تماماً،
..
ـ
فهل
من المعقول أن يتخيل أحدنا نفسه متجسداً في شخصية أخري تعيش بدلاً منه
مواقف،
وأحداثاً جميلة؟
ـ وهل
من المعقول أيضاً أن يحلم ثلاثة أشخاص، أو أكثر، وفي نفس
الوقت، حلماً واحداً متشابهاً بكل تفاصيله؟.
وانطلاقاً من الأجوبة البديهية،
تتكشف
التركيبة الهشة للسيناريو، وشخصياته الهلامية، وتقود أحداثه إلي
الافتعال،
التبسيط، الرمزية الفجة، المُقارنات المدرسية، والنماذج النمطية
الجاهزة.
وكي
تتعمق
الهوة أكثر بين طبقتين متباينتين، فقراً، وثراءً، فقد أقحم السيناريو
سيارةً
فاخرةُ تمرق أمام منتظري الحافلة، وتعبر دواليبها بركة ماء
راكدة، فتبلل ملابسهم،
ووجوههم، وكان من البساطة وصول الحافلة كي توقظ الجميع من (أحلام
اليقظة).
ومع
ذلك،
عندما تصل متكاسلة، ويتلهف المنتظرون للصعود فيها، يقدم لنا السيناريو
سلوكاً
سادياً آخر، فهو ليس حكراً علي الأثرياء فقط، حيث يتوقف السائق
بعيداً عن موقف
الانتظار، كي نشاهد بدورنا تلك اللقطات الأزلية لأشخاص يركضون مسافة
كبيرة خلف
الحافلة، ويلحقون بها حتي تتوقف، وتستقر عدسة الكاميرا لحظات عند
ماسورتها الخلفية،
وهي تنفث دخاناً كثيفاً.
وبينما يتزاحم الجميع للركوب، ترتفع الكاميرا نحو
الأعلي كي تظهر لنا سقف الحافلة، وهي تغادر موقف الانتظار.
ثلاثة
أشخاص فقط
(أشخاص ما) لم يتمكنوا من الصعود، هم الحالمون أنفسهم، فاضطروا لانتظار
حافلة أخري،
وهم
يتطلعون إلي إعلان كبير:
(عطر إغراء، استخدم عطر إغراء لتعثر علي شريكة
حياتك).
إعلانٌ آخر:
(اشتر هذه السيارة، واخلق 206 فرص
عمل).
وثالثٌ:
(المصرف
الوطني العقاري، مشروع الأحلام السكني).
وما
زال
شريط الصوت يقدم بين الحين والآخر دقات الطبول، تلك المُستخدمة
في مناسبات الزفاف،
والأفراح.
ومع
الإعلان الثالث، يظهر العنوان: (أحلام منتصف الظهيرة).
ماذا
حدث؟ في تلك اللحظة اعتقدت بأن الفيلم سوف يبدأ حالاً (بعد
مقدمة طويلة)، ولكنني
فوجئت
بنهاية الفيلم، وقائمة شكر لأصحاب الإعلانات نفسها، ومكتب السلام
العقاري
لأبو
وائل، ومطبعة شروق للإعلان.
حسناً، كان يمكن أن أتساهل مع فيلم كهذا أخرجه
شخص
لم يدرس السينما، وربما أتسامح مع طالب في معهد سينمائي أنجزه كفيلم
تدريبي،
ولكن،
كيف لمخرج درس السينما في بريطانيا تقديم فيلم تبسيطي إلي هذه الدرجة
عن
الفقر، والثراء، والفوضي، والنظام، والتناقضات الطبقية.
هذه
التيمات التي شبعت
منها السينما السورية والعربية منذ بدايات السينما فيها، وحتي
اليوم. وما زالت
تستهلكها القنوات التلفزيونية في كل برامجها الترفيهية، والدرامية،
والوثائقية.
أذكر
أنه في بداية علاقتي بالسينما، صورتُ مع أصدقاء مغرمين مثلي
بكاميرا (سوبر 8) فيلم هواة (ساذجا) عن شاب يركب سيارته، ويعود
إلي منزله في أحد
الأحياء الثرية لمدينة حلب، وآخر ينتظر الحافلة العمومية في المحطة
المركزية وسط
المدينة، ويذهب إلي بيته في حارة شعبية.
كان
ذلك استيحاءً من واقعنا الاجتماعي
في
تلك الفترة، وتأثير واضح من أفكارنا المدرسية عن الاشتراكية التي
جعلتنا نعتقد
بأننا
طالما نسكن في أحياء شعبية، ونستخدم المواصلات العمومية، ولا نتجرأ
الدخول
إلي كافتيريا الفندق السياحي، ولا نحتفل بليلة رأس السنة، ولا
نستمتع بأجواء
الملاهي المنتشرة في منطقة العزيزية، فإننا في هذه الحالة فقراء،
مساكين.
كان
مفهومنا عن الفقر، والغني قطعياً، وساذجاً، وأتذكر أننا كنا نستعذب،
ونتلذذ حالتنا،
ونعتبر أنفسنا ضحايا التناقضات الطبقية، وتوضح ذلك عملياً خلال
دراستنا الجامعية،
عندما
تقوقعنا علي أنفسنا في مواجهة طلبة آخرين، تبين لنا فيما بعد أنهم
ليسوا أكثر
ثراءً
منا، ولسنا بدورنا أكثر فقراً منهم.
اليوم، بإمكاني توجيه أسئلة كثيرة
لنفسي، وللمخرج (غسان عبد الله):
ـ
ماذا يريد بالضبط من تلك المُقارنات
التبسيطية؟
ـ هل
يتخلي الأثرياء عن مساكنهم، وسياراتهم؟
ـ وهل
يتوجب علي
الفقراء السكن في فيلات، وامتلاك سيارات مماثلة كي تصبح الحياة
وردية؟
ـ وهل
انتظار الحافلة، وركوبها من علامات الفقر، وقد فعلتُ ذلك طوال
عمري، ولم تمنعني عن
الدراسة، والسفر، وتحقيق طموحاتي.
أليس
الهدف من سيناريو كهذا الاقتراب من
المواطن العادي، الغني، والفقير، بينما تخير (عبد الله) تقديم كل
شخصياته من بعيد،
فظهروا أشكالاً شبحية، دمي في مسرح عرائس،.... وعندما اقترب منهم عند
صعودهم إلي
الحافلة، كانت الكاميرا تصور أيديهم، وأرجلهم.... ومؤخراتهم.
لماذا
اختار (غسان
عبد الله) ممثلين محترفين إذاً، وهم نجوم السينما، والتلفزيون،
وكان من الممكن ـ في
حالة
كهذه ـ التعامل مع أناس عاديين، وتصوير لقطات تسجيلية حقيقية لأشخاص
ينتظرون
عند
موقف ما.
والحقيقة، خلال زياراتي الأخيرة لدمشق وحلب لفتت انتباهي الحافلات
العمومية الفارغة من ركابها، وعرفت أن السوريين يفضلون استخدام (الميكرو
باصات)
الخاصة.
لقد
أصبح مشهد الزحام الشديد في المواصلات العامة ذكري بعيدة في مخيلتي،
تعود
إلي سنوات دراستي الثانوية، والجامعية، فهل تدور أحداث فيلم (أحلام
منتصف
الظهيرة) في تلك الفترة؟.
وبعد
أن نوهت إلي نفس الأمر في كتابتي عن فيلم روائي
قصير
آخر بعنوان (رتلٌ كامل من الأشجار) لمخرجه (طلال ديركي)، أتساءل عن
دور،
ومسؤولية (المؤسسة العامة للسينما) بدمشق في إنتاج هذا الفيلم، هل بدأت
تتساهل لجنة
القراءة مع أفلام قصيرة تستنسخ من جديد أشكال، ومضامين
السبعينيات؟
من
جهة أخري،
تقنية بحتة هذه المرة، لماذا جلب (غسان عبد الله) فريقاً من
بريطانيا لتصوير
سيناريو باهت، غامض الأهداف، والمعاني، وحاول تنفيذه بصياغة سينمائية
مُتكلفة،
ومُكلفة (حركات الكاميرا المحمولة علي رافعة، وتُسمي الكرين)؟
وهل
وصلت
(المؤسسة) إلي درجة من الثراء (الذي يستهجنه الفيلم علي طريقته)؟ وهل هناك
نقص في
الخبرات التقنية السورية كي تستقطب تقنيين من بريطانيا، وما هي الخبرات
الكبيرة
التي
قدمها الفريق الإنكليزي لمثيله السوري؟
أم أن
(المؤسسة العامة للسينما)،
والوسط السينمائي في سورية يجدان في هذا الفيلم مستويات
إعجازية لم أستطع شخصياً
رصدها، لأنني، ومنذ ربع قرن أشاهد أفلاماً لم تصل بعد إلي هذا المستوي
من
الإبداع.
أسئلةٌ لا أمتلك أجوبتها اليوم، وربما أكون متحاملا، أو مخطئاً، أو غير
قادر
علي فهم المنظومة الإبداعية لأفلام كهذه.
لا
أدري.
البطاقة التقنية
والفنية للفيلم
أحلام
منتصف الظهيرة: 7 دقائق، 35 ملم ، 2005
إخراج،
ومونتاج: غسان عبد الله
مدير
تصوير: فيليب روبرتسون
مساعد
كاميرا: جيسيكا
ستيد
مصمم
الصوت: دوني بوكوك
مؤلف
موسيقي: لي همفرايز
مكياج:
إما
رومانز
ہ
غسان عبد الله:
عمل
لسنوات عديدة منتجاً تلفزيونياً في سورية
قبل
أن يسافر إلي بريطانيا، ويدرس الإخراج، ويحصل علي درجة الماجستير،
ويعمل
محاضراً في نفس المدرسة التي درس فيها، وبعد عودته إلي سورية، عمل في
المؤسسة
العامة للسينما بدمشق، وهو بصدد تحضير فيلمه الروائي الأول.