يُجسّد المغربيّ (محمد مفتاح)
واحدةً من المُبادرات الفريدة، والاستثنائية في المشهد السمعيّ/البصريّ
العربي،
تستحق
الكتابة عنها، والاحتفاء بها.
فهو
بعد سنوات من العطاء، والنجاح، والشهرة
كممثل
في الكثير من الأفلام، والمسلسلات المغربية، والعربية، تخيّر في جزء من
نشاطه
السينمائي أن يتنحي جانباً، ويقف خلف الكاميرا مخرجاً، وبالذات
لأفلام قصيرة كان
حصيلته منها حتي اليوم ثلاثة علي درجة من الموهبة، والاحترافية.
وفي
الوقت الذي
جمع اثنان منها بناءً سردياً (بموافقة الوالدين، والحُفاة)،
ابتعد الثالث (الهائم)
عن
كلّ ما هو تقليدي في السينما العربية، وانطلق بفكرة ذهنية رافقت شخصيةً
واحدة،
بحيث
تحول الفيلم الي (مونودراما بصرية) بدون حوار
.
تتباهي أهمية تلك المُبادرة
بالايجابيات التالية:
ـ لا
تسعي الي شهرة اضافية حصل (محمد مفتاح) علي ما يكفيه
منها
من خلال أعماله السابقة كممثل.
ـ لا
تتوخي تضخماً ابداعياً يبحث عن تنفيس
له
بتمثيل الأدوار الأولي في أفلام لم تجد من يمولها، وينتجها، فهو لا
يحتاج الي
فرص
جديدة، ولم يمثل في أيّ واحد من تلك الأفلام.
ـ لم
تكن وسيلةً سهلةً
لاستنزاف صناديق الدعم المحلية، والأوروبية، فقد جازف (محمد
مفتاح) بتمويل أفلامه
القصيرة من جيبه الخاص، وهو يعرف أنها لا تمتلك سوقاً تجارية مضمونة
كحال الأفلام
الروائية.
ـ
والأهمّ من ذلك، لم تقدم تلك الأفلام تكراراً سينمائياً عقيماً، بل
أصبحت
اضافات حقيقية لرصيد السينما المغربية من الأفلام القصيرة، تطفح
بانسانية
موضوعاتها، وثراء شخصياتها.
يبدأ
الفيلم بلقطة بعيدة(عامة)، تتحرك الكاميرا
فيها،
وتظهر مجموعةً من الأطفال (الحُفاة) يتقاذفون كرةً في منتصف طريق
ترابية،
تستمر
في حركتها، وتنتهي عند قطيع من الأغنام.
المشهد الثاني، في باحة مدرسة
القرية، يتفقد المُعلّم (رشيد الوالي) أقدام التلامذة، ويتوقف عند كلّ
حافٍ منهم،
هو
جادٌّ، وصارمٌ، ولكن، تصنعه يخفي انسانيةً كامنة في داخله.
يرسل
أحد التلامذة
الحفاة الي بيته ليُحضر والده:
ـ لا
تعد الي المدرسة الاّ ومعك أبوك.
خلال
القاء درس اليوم، يصل اثنان من التلامذة متأخرين، ولا يخلو
المُعلّم من روح الهزل،
والدعابة، علي الرغم من محاولاته اخفاء ذلك بعبوس دائم.
ـ
لماذا تأخرتما ؟
ـ
أستاذي، لقد فقدتُ 20 سنتاً، وكنت أبحث عنها.
تٌسارع الكاميرا بالحركة يميناً كي
تُلاحق ضحكات التلاميذ.
ـ وهل
وجدتها ؟
ـ لا.
ـ
اجلس.
تلحقها ضحكةٌ
أخري قصيرة من التلامذة، ونظرةٌ غاضبة من المُعلم يسكت بعدها
الجميع، يتوجه بأسئلته
الي
التلميذ الثاني:
ـ
وأنتَ ؟
ـ
وأنا يا أستاذي، بقيتُ واقفاً طوال الوقت
أخفي
الـ20 سنتاً تحت قدمي.
هذه
أول مرة يبتسم فيها المُعلم، ويضحك، يخرج مع
التلميذ خارج القاعة،
ويطلب
منه أين خبأ الـ20 سنتاً، يُدير الطفل ظهره، وفي
لقطة
كبيرة يكشف للمعلم كيف التقط القطعة النقدية بأصابع قدمه.
يستعيدها
المُعلم، ويرسل الطفل الي البيت، ومرةً أخري:
ـ لا
تعد الي المدرسة الاّ ومعك
أبوك.
للوهلة الأولي، يتبين لنا ان المُعلم قد استحوذ علي القطعة النقدية،
وأصبح
في
دائرة الشكّ، وهي محاولةٌ ذكيةٌ من السيناريو لاختطاف المتفرج، وتحضيره
للمشاهد
التالية.
يعود
المُعلم الي القاعة، موضوع الدرس اليوم هو (التربية الوطنية)،
والسؤال، من يعرف السلطات الثلاث : التشريعية، التنفيذية، والقضائية.
أليسَ الموضوع
أكبر
بكثير من هموم التلاميذ الحياتية الراهنة ؟
ولكنّ
المُعلم جادٌّ تماماً في
الشرح، والتفسير، والكتابة علي السبورة، عندما يقطع الدرس دخول التلميذ
الحافي
بصحبة
أبيه.
ينظر
المُعلم الي الأبّ، تتحرك عدسة الكاميرا (بمُصاحبة الموسيقي)
نحو
الأسفل، انه أيضاً حافٍ، وقدماه مغمّستان بالطين، لقد جاء لتوّه من
الحقل.
كان
السيناريو يُحضرنا لمشهد توبيخ، أو عقاب يتلذذ بعض المخرجين العرب
باستعادته من ذاكرتهم بهدف استدرار العطف، والتشهير بممارسات عانوا
منها في
طفولتهم، ومراهقتهم، ولكن، لحسن الحظ، يتجه الحدث نحو مسارات
ايجابية أكثر فعاليةً
من
التذمر، وجلد الذات، والآخرين، حيث يُعيد المُعلم القطعة النقدية الي
الطفل الذي
فقدها، ويسحب أخري ورقية من جيبه يعطيها للأبّ، ويطلب منه شراء حذاء
لابنه.
ـ
واشتر
لنفسك حذاءً أيضاً.
في
تلك اللحظة، يصل التلميذ الآخر مع أبيه.
لقطةٌ
متوسطة، وموسيقي مُتسائلة، لقد غابت الصرامة، والجدية عن وجه
المُعلّم، وبدا
حزيناً، ومتألماً، تهبط الكاميرا مرةً أخري نحو الأسفل لنري الأبّ،
والابن ...حفاة
أيضاً.
يبحث
المُعلم في جيبه عن ورقة مالية أخري، لا يجد، يطلب من الأول بأن
يأخذ
نصف المبلغ، ويمنح الثاني النصف الآخر.
وهنا
تحدث مشادةٌ كلامية طريفة (ومسكينة)
بين الكبار، لأن الثاني لا يثق كثيراً بالأول.
لا
بدّ من حلّ عاجل
لهذه المشكلة، وكما عرفناه انساناً، يستعيد المُعلم القطعة
الورقية، ويخرج من
الغرفة، يتبعه الآخرون، والموسيقي، ويدعنا السيناريو نتخيل ما نشاء من
وقائع لاحقة،
كي
يتخيّر كل متفرج حلاً مناسباً، ولكن، ونحن بصدد التفكير، بقيت الكاميرا
بصحبة
التلاميذ تراقب تململهم، وانتظارهم، وتتلصص علي أقدامهم، وتنقل
للمتفرج صورةً لا
تحتاج
الي أيّ تعليق. واحداً بعد الآخر، يخلع التلاميذ نعالهم العتيقة،
والممزقة،
ويضربون بأقدامهم المُتسخة أرض الغرفة.
هل
هناكَ أكثر بلاغةً من تلك اللقطة
؟
فيلم
(الحُفاة)، بمدته الزمنية المُركزة، ينضح بكثير من التأثير، والتأثر،
ويتحول الي درس بليغ نتعلم منه، ونعلّم.
ـ
الحُفاة : سيناريو، واخراج (محمد
مفتاح) ـ 11 دقيقة، انتاج المغرب 2005
محمد
مفتاح : من مواليد عام 1945 في الدار
البيضاء، توجه نحو التمثيل منذ الستينيات، وأصبح واحداً من ممثلي فرقة
(الطيب
الصديقي) في المغرب، والتي قدمت عروضها في فرنسا أيضاً.
ممثلٌ
في الكثير من
الأفلام، والمسلسلات المغربية،
والعربية.