موضوع مهم طرحه
الفيلم السوداني «إيمان» للمخرجة "مِيا بيطار" وإنتاج أحمد
عبدالمحسن. والذي يروي قصة 4 شباب سودانيين، مستوحاة قصصهم من
أحداث حقيقية حدثت لشخصيات واقعية تأثروا بالتطرف العنيف في
السودان أثناء الخمس سنوات الأولى بعد عقد الألفية الأول، وهم
من مختلف التوجهات الفكرية والاجتماعية والمكانية في السودان.
لظروف متباينة وأسباب
مختلفة، يتوجهون هؤلاء الأربعة نحو التطرف. ليس بإرادتهم إنما
باستقطاب جهات سعت لزجهم في أتون الارهاب والارتزاق من القتل
المأجور، وبذلك فإن مصائرهم تتقاطع في سرد الفيلم، من حيث
واقعهم وظروفهم الزمانية والمكانية والفكرية، لكن هذه الشخصيات
لا تجتمع في صراع مشترك. فكان صراع كل منهم صراعاً فردياً
متغلغلاً في محيطه الاجتماعي. إنه صراع جيل واجه حقبة زمنية
وواقع سياسي فرض أجندته على المجتمعات المهمشة فاجتاحت الشباب
المهمل في السودان.
أربع شخصيات
ـ شاب (أسعد علي)
يخرج من السجن بعد أن قضى عقوبة على فعل ارهابي؛ ليجد والده
(عادل كبيدة) في استقباله، وكما يبدو أن خلافاً فكرياً جذرياً
مشتعلاً بين الأب والابن. يحتدم الخلاف والنقاش المحموم بينهما
على أجزاء متفرقة من سرد الفيلم.
ـ فتاة تدعى «إيمان»
لا نراها، في الفيلم، فهي غائبة مختفية مختطفة، لكن والدتها
(سحر إبراهيم) تبحث عنها، تتصل على هاتفها فلا تجيب، تبحث عنها
في البيت فلا تجدها، فتبلّغ الأمن عن اختفائها أو بالأصح
تجنيدها في تنظيم "داعش" بواسطة جماعات تستخدم تطبيقات النت في
تجنيد الشباب ثم ترحيلهم الى سوريا. وذلك يذكرنا بما أعلنته
السلطات التركية في عام
2015م بالقبض على
18 طالبا
سودانيا تراوحت أعمارهم بين
18
23
عاما كانوا في طريقهم للانضمام إلى تنظيم
داعش في سوريا.
ـ رجل محارب مرتزق من
قرى الغرب السوداني (حسن خميس عطش)، يعود الى بيته حاملا سلاحه
الرشاش، فهو عائد من مهمة حربية كما يبدو، فيلتقي بزوجته
(نتالي يعقوب) التي تحبه كثيراً... ولكن الى ماذا يقودها هذا
الحب؟ والى ماذا يقوده رشاشه المأجور؟
ـ "هيما" شاب مغني
وعازف للموسيقى (ابراهيم أحمد) عاد من بريطانيا ليلتحق
بالجامعة في بلده، وفيها ينظم الى فرقة الموسيقى وليلتقي
بصديقته "لمياء" (إسلام عبدالمنعم) وهي أيضاً محية للموسيقى
والغناء، فتنشأ بينهما صداقة ومودة، فيتدربان على أداء أغنية
مشتركة.
إنتاج متكامل وحضور خافت
الفيلم حظي بإنتاج
متكامل، وبطاقم محترف اجتهد بقيادة المخرجة ليصنع حبكة مجودة
تحيل الى تعاطف شعوري متقن، ثم تدخل بالمشاهد في اندماج كامل
مع عوالم الفيلم التي تدور أحداثه في الخرطوم وفي مناطق أخرى،
وأيضاً حظي بتوظيف كامل لعناصر البناء الفيلمي الجيد.
تنوع في الايقاع
السردي وتنوع مكاني لمواقع التصوير، بما يكفل جاذبية المتابعة،
وكذلك اشتغال بصري وسمعي تأثيري في المعزوفات الحسية الموسيقية
المستخدمة؛ وفي المؤثرات الصوتية المشغولة باحترافية، كبيرة،
وان زادت قليلاً في لغة التوتير التي اعتدنا عليها في أفلام
الآكشن الأمريكية التجارية، لكن ذلك لا يخل بلغة الفيلم
المتكاملة بدأ من المونتاج والتقطيع المتوازن، والاضاءة
والملابس والمكياج وجميع التفاصيل التي لا تشوبها شائبة في كل
لقطات ومشاهد الفيلم.
تمثيل طبيعي مؤثر
الممثلون ظهروا
متمكنون من أدوارهم بأداءات طبيعية، بل أن تنقل الكاميرا
وزوايا التصوير المتقنة لتعبيرات وجوههم ساهمت في الاحساس
بأدائهم الطبيعي... أسعد علي، عادل كبيدة، إبراهيم أحمد، سحر
إبراهيم، جميعهم تألقوا وكانوا في "الفورما" الكاملة. أنهم في
حالة أداء درامي عالي الاحساس باللحظة الشعورية البالغة
للمتلقي. كذلك الحال مع الممثلين نتالي يعقوب وحسن خميس.
في كل ذلك نلمس قدرات
المخرجة اللبنانية ميا بيطار في نسج خيوط فيلمها؛ ونقل تفاصيل
عن المجتمع السوداني، وكأنه مجتمعها أو أن أبطاله من أبناء
جلدتها، ويبدو أن ملكاتها وتخصصها في الافلام الوثائقية أضاء
لها كيفية التعمق في خصائص المجتمع والبيئة السودانية، فأبدعت
في تصوير أحداث الفيلم في أماكن طبيعية؛ متجنبة الاستديوهات
المعلبة، ثم قيادتها لفريقها المحترف في التصوير والمونتاج
والاضاءة والسينوغراف بمجمله. ولمساتها السردية في التنقل بين
قصص أبطالها دون ارتباكات درامية، بل أن السرد سار في خطوط
متوازية منسجمة في حبكات متقطعة متصلة، تؤدي الى استيعاب عميق
لكل شخصية من شخوص أبطال الفيلم. والمهم في ذلك رسمها
للسيناريو بهذه الكيفية التي مكنت له هذا التوليف الرصين.
حسرة تكتنف إهمال الفيلم
ولكن ... كل تلك
الاحترافية التقنية لم تجعل من فيلم إيمان فيلماً شهيراً أو له
حضور مقدر في المهرجانات العربية والاقليمية، التي لا ندري ان
كان قد شارك فيها أم لا. ولا ندري لماذا لم يجتهد منتجوه في
عرضه على نطاق واسع داخل السودان، أو حتى حث الجماهير لمشاهدته
عبر النت، ناهيك عن تقاعسهم في عرضه بمختلف انحاء العالم!
إذن ما هي الحكاية،
لماذا لم يعمل منتجو الفيلم على جعله يحقق حضوراً لافتاً خلال
هذه السنوات الثلاث؟ وهو المنتج منذ عام 2017م بتمويل من
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والهيئة الوطنية لمكافحة
الإرهاب. فعرضوه في معهد العالم العربي بباريس وفي برلين،
وبمعهد جوتة وبالمسرح القومي بالخرطوم، عروض خاصة لم تستقطب
الجماهير العريضة، ورغم ذلك حقق إعجاباً كبيراً وإشادات متحمسة
ممن شاهدوه. فهل كون الفيلم قصيراً (43 دقيقة) لم يتم تسويقه
على شركات العرض التجارية، مع أنه كان من الممكن جداً أن تمتد
دقائق الفيلم لنصف ساعة أخرى على الأقل فبعض خيوط السرد بحاجة
الى اشباع أكثر، خصوصاً ما يفعله المجندون في العمليات
الارهابية، وكذلك ما تفعله الجهات المجندة للشباب وأساليب
تجنيدهم، فهذان مساران قد سقطا من سيناريو الفيلم، وبالتالي
كان من الممكن تناولهما وعندها يصبح فيلماً طويلاً يضمن عرضه
الواسع في دور العرض التجارية، حتى وإن كان الأمر كذلك لم يحظى
الفيلم بعروض تلفزيونية بالمحطات الفضائية. إنها حسرة مجسدة
كان من الممكن أن يتم التعامل مع الفيلم بشكل مختلف، فهو يستحق
الترويج والعرض واشعال الاعلام حوله، لكننا لا نعلم ما وراء
الأكمة.
بين قصص الأربع
نتنقل بين شخصيات
الفيلم الأربع، نقف مع مناقشة بين الأب والابن الخارج من
السجن؛ حول دور الأب في رعاية الأسرة وعن طموح الشباب ورؤيتهم
لآبائهم بأنهم مقصرون في توفير متطلبات الحياة التي يريدونها.
ولوم شديد من الأب يحاول فيه تصحيح مفاهيم الإبن الذي ضلع في
الارهاب ودخل السجن جراء ذلك. انه مأزق الفكر الجهادي بين نظرة
الدين الاسلاموي المتطرف وبين متطلبات الحياة المسالمة
والمنتجة التي أوصى بها القرآن، مجابهة الفكر الضلالي لقيادة
الشباب للقتال والدفاع عن قضايا وهمية... ينجح الأب قي احتواء
ابنه ونشاهدهما وهما يصليان معاً.
نعرّج على والدة
إيمان "السيدة أمل الممرضة"، الأم المفجوعة بغياب ابنتها، و
ورود أخبار بأنها انضمت الى جماعة ارهابية. تصبح شاردة الذهن
غير مركزة في اتقان عملها. فابنتها اختفت في غياهب "تنظيم
داعش" الذين كانت تتابعهم عن طريق النت. فتيات سودانيات
وعربيات يرتدين الخمار والعباءات السوداء، من أين أتو؟ وأين هي
إيمان؟ ... تستمر الأحداث وتتصل إيمان بوالدتها لتخبرها أنها
بخير وأنها في سوريا.
إيمان.. عنوان الفيلم رمز ودلالة
الفيلم بمجمله مليء
بالإيمان، كل أبطاله مؤمنون بأفكار، يصلوّن لتحقيقها بدافع من
ايمانهم. وإيمان الشابة التي اختطفها مغذو الارهاب هناك في
المجهول. فتكتب لها والدتها رسالة اعتذار، هي بمثابة اعتذار
لكل الفتيات وبنات السودان الذين همشتهم الظروف السياسية
والمعيشية الخانقة، فتقول لها:
فشلنا في أن نخلق لك
عالم يضمك، ويعطيك معنى لوجودك. نعم هذه هي مرافعة وعزاء كل
الأمهات والآباء اللذين تركوا أبنائهم لنهش الارهاب والعنف
الفكري. إنه واقع مشحون بالأيمان؛ باللحظة والمنعطف التاريخي
الذي مرت به السودان.
يأخذنا السياق الى
المحارب المرتزق الذي أصبح يعاني من تفاعلات نفسية ويعاتب
زوجته لأنها تتسول، بينما هو قادر على توفير المال لأسرته من
حمل السلاح المأجور. فتزدريه زوجته، بأن التسول أفضل من ماله
القذر. ينفعل ويصوب الرشاش على أحد أبناءه الاطفال لأنه يلعب
بالكرة، فقط لا غير، لقد اختلت موازين تفكيره.
تقول له زوجته لقد
أصبحت خطراً على البيت فيجدر بك أن تحمل سلاحك وتغادرنا.
يبدأ في البحث عن عمل
في ورش اصلاح السيارات، وغيرها من الأماكن. يجد من يحث الشباب
للانضمام الى فرق تسافر لمهمات قتالية ارهابية في ليبيا أو
العراق أو سوريا وغيرها. فيفكر بالذهاب... ولكن هل يذهب؟ لقد
انتصر للخير بداخله وعمل في مصنع يفتخر به.
نطل على "هيما"
و"لمياء" فنجد أن هيما ابتعد عن بروفات الموسيقى، فقد تواصلوا
معه وبدأوا في اقناعه بالانضمام الى صفوف الارتزاق الارهابي،
فتوقف عن حضور بروفات الأغنية التي تدرب على أدائها مع لمياء.
لقد حل أمر بهيما ولا تعرف لمياء ما هو. تحاول أن تقترب لتعرف
مشكلته، فتضع يدها على من يتواصل معه ويبعده عن فنه، وحتى لا
ينكشف يطلب المستقطبون من هيما العودة الى فرقة لمياء والغناء
معهم، لعله يبعد شكهم، فيذهب هيما ليغني:
واقف بغني براي
في الضلمة كايس ضيّ
وأنا كل شقايا غنايّ
خلق الله عينها عليّ
سألت بين الناس
فتشت رغم البيّ
هل من طريق معروف ... يخلي الميت حيّ
هنا يغيب عن
السيناريو أن يبين للمشاهد إذا ما كان هيما قد انسلخ عن
التنظيم الارهابي الذي يحاول ضمه إليه؛ أم أن الأمر مجرد
مناورة تمويهية من التنظيم ليكف بها عين أصدقاءه وفرقة زميلته
(لمياء) والمجتمع... لكن ثمة ايحاء مبهم يشي بأن هيما ابتعد عن
تنظيم الارهاب، وهكذا يكمل فيلم "إيمان" كلمته: إضاءة تنويرية
تنتصر للخير والنماء ومحاربة الارهاب العنيف. |