أعرف محمود عبد الشكور منذ عشرين سنة تقريبا! ليست بالفترة الهينة ولا
القليلة! ولكن من قال إن السنين وعددها فقط هي المعيار في تحديد مدى قربك
أو بعدك، معرفتك من عدمها بشخص أو إنسان ما؟! لا أظن أنه المعيار الصائب
فضلًا على أن يكون المعيار الوحيد!
ومع ذلك فعشرون سنة من الصداقة والأخوة والعشرة الطيبة والمودة الصافية،
والشراكة الإنسانية والمهنية والفكرية ليست أيضًا بالهينة ولا بالقليلة!
عشرون سنة قطعنا فيها عشرات الكيلو مترات سيرا على الأقدام نتحدث ونفضفض
معا وتتقافز أمام أعيننا مشروعات كتابة تحقق منها ما تحقق وما زال هناك
الكثير..
واجهنا تحديات وصعابا وخضنا مسارات صعبة.. كتبنا معا ورفضنا الإذعان لأي
قيد يحد من حريتنا في هذه الكتابة، وغادرنا معا حينما استدعى الأمر ذلك ولم
نندم أبدا، وعدنا معا حينما عرف الجميع أن الملاح وعبد الشكور لا يخضعان
أبدا إلا لما يتفق مع مبادئهما ومع ما يمليه عليه ضميرهما (لم نسافر معا
بعد.. لكن قريبا إن شاء الله)
سيأتي يوم أسجل فيه تفاصيل تلك الصداقة والأخوة للذكرى والتاريخ والتوثيق!
فقط سأكتفي بإيراد هذا الجزء من "يومياتي" التي أدونها عن كل ما يجمعني
بمحمود عبد الشكور:
في أول زيارة لمكتب محمود عبد الشكور في مجلة (أكتوبر)؛ عقب التعارف الأول
بيننا في صيف عام 2006، فوجئت بعشرات بل مئات القصاصات الورقية الصغيرة
مرصوصة بكثافة غير عادية أسفل زجاج المكتب.. قصاصات في حجم كف اليد؛ كل
قصاصة منها تحتوي على بيتين أو ثلاثة أبيات لا أكثر للمتنبي والبحتري وأبي
تمام وابن الفارض.. ومن روائع الشعر العربي كله عبر عصوره، ومن الشعراء
المعاصرين صلاح عبد الصبور وأمل دنقل والأبنودي ونجم وسيد حجاب..
وقصاصات أخرى تتضمن من سطرٍ واحد إلى خمسة أسطر عبارة عن فقراتٍ من نصوص
مسرحية وروائية وكتب... إلخ. لم أحزن على شيء مما نال هذا المكتب
(بالتنقلات، وتغيير غرف المكاتب، والأدوار.. إلخ) قدر حزني على ضياع هذه
الثروة الممتازة من النصوص المختارة، ولم أكن أملك حينها "موبايل" بكاميرا
يمكنني من تسجيل وتوثيق وجود هذه القصاصات المكتوبة بخط الرقعة أحيانا
والثلث والنسخ أحيانا أخرى... كان اكتشافا مبهجا وجميلا في هذا الذي أشبهه
ويشبهني في كثير من الأمور، ولكل منا طباعه وخصاله وخصوصيته أيضًا.
لاحظت بعد ذلك أنه يسجل في نوتة صغيرة "قد الكف" ملاحظات سريعة ومكثفة
للغاية عن كل ما يعن له في لحظة تأمل أو تفكير عميق أو انشغال بموضوع ما،
وبعد فترة لاحظت أنه يفعل ذلك بانتظام أثناء مشاهدة الأفلام وعقبها، هذه
الملاحظات البسيطة هي نواة كل ما كتبه محمود مفصلا بعد ذلك في مقالاته
وكتبه..
أذكر عندما صدرت الطبعة الثالثة من كتابه «كنت صبيا في السبعينيات»، دونت
بضعة أسطر سجلت فيها ما يلي:
"ما زلتُ عند رأيي بأن هذا الكتاب نص مختلف تمامًا عن كتب السيرة الذاتية
المألوفة، والمذكرات العادية.. ربما كان مصطلح (سيرة ثقافية واجتماعية) هو
الأقرب للتعبير عن هذا المضمون الذي تنظر له بعض اتجاهات الكتابة السردية
الحديثة بعنوان "التاريخ من أسفل".. ربما!
لكن المهم بالنسبة لقارئ الكتاب هو شحنة الصدق والجمال والخبرة والفهم
العميق والمتصالح لمعنى أن تكون إنسانًا "بحق وحقيقي"..
أن تكون نتاجا سويًّا وراقيا ونموذجيا لأسرة مصرية أصيلة؛ نموذجا مثاليا
لما كانت عليه أسرنا المصرية المتوسطة بكل ما كانت تمثله من قيم ومبادئ
وطموح وسعي للأفضل في الحدود المتاحة.. سترى مصر السبعينيات بكل ما لها،
بكل ما كان فيها، بكل ما تمخض عنها، بعين متسعة على آخرها؛ تشاهد وتسجل،
تحفظ وتحلل، تفكر وتتأمل ثم تسرد خلاصة ما عاشته وخبرته وعاينته بكل حب
وسلام وإجادة...
هذا هو محمود عبد الشكور الذي أحببته، ورأيت فيه أخي الأكبر وصديقي الأعز
وعشرة عمري الذي أغتني به وأعتزّ".
*****
سأكتفي بهذا القدر، والله، ولن أستسلم أبدًا لغواية الاستغراق والاستطراد
والتداعي التي يمكن أن تلتهم عدد المجلة هذا، والذي يليه والذي يليه والذي
يليه.. إلى ما شاء الله! لكني سأحاول وبأكبر قدر من السيطرة والتحكم في دفق
المشاعر والانفعالات أن أؤدِّي دوري وأتحمل مسؤوليتي كمحرر لهذا الملف
المتواضع فقط لنقول للكبير والقدير محمود عبد الشكور: هيا بنا نفرح، فقد
جاءت فرصة ومناسبة لإعلان هذا الفرح والاحتفال به!
المناسبة: فوز محمود عبد الشكور بجائزة القلم الذهبي في دورتها الأولى فرع
الرواية الواقعية عن روايته (أشباح مرجانة) الصادرة عن دار دون للنشر
والتوزيع، 2024.
الزمان: مساء الأربعاء؛ الموافق 18 فبراير.
المكان: العاصمة السعودية الرياض.
وبمجرد إعلان فوز محمود عبد الشكور بجائزة القلم الذهبي (فرع الرواية
الواقعية) تفجرت تظاهرة (هل أقول تظاهرات حقا وصدقا؟!) محبة وفرح غير
مسبوقة سجلتها منشورات الفضاء الأزرق في لحظتها، وفي حينها.. هناك إجماع
بمعنى كلمة "إجماع" على الفرح الخالص من القلب، على إعلان هذه الفرحة
وإظهارها وتجسيدها بكل الأشكال الممكنة والمتاحة!
ربما كان ما كتبه الصديق العزيز، الناشر والمترجم البارز الدكتور أحمد
السعيد، مؤسس ورئيس بيت الحكمة، خير ما جسد هذه الحالة:
لم أر فرحا بفوز أي شخص بجائزة مثل ما حدث من إجماع ومباركات مساء الأربعاء
الماضي، مع فوز الأخ الكبير والحبيب للوسط الثقافي، وأكثر من عرفت خلقا
ومحبة، العزيز محمود عبد الشكور.
المحبة تبقى وتصنع الأثر، وتديم صاحبها في قلوب الجموع،
ومحمود عبد الشكور خير مثال على ذلك.
مبروك لنا جميعا بوجود محمود عبد الشكور وسطنا".
وقد تنوعت أشكال هذا الاحتفال والاحتفاء والمباركة والتهنئة، بصورة هنا
واستدعاء لأخرى هناك، تسجيل صوتي أو فيديو، "بوست" لا يتجاوز السطر وآخر
يسهب في الشرح والتفصيل، كل على قدر طاقته، ووفق قدرته التعبيرية
والأسلوبية! الجامع المشترك الأعظم هو:
حب محمود عبد الشكور،
إعلان المحبة والاحتفاء بالقيمة، لرجلٍ ظل يمنح محبته ومعرفته وصداقته
ومعونته الإنسانية، قبل أي شيء آخر دون قيد أو شرط! إنه محمود عبد الشكور
وكفى!
*****
فرحتي بهذا الفوز لمحمود أكبر بكثير جدا جدا من مجرد فرحة الفوز بجائزة
مهما كانت قيمتها المالية أو الأدبية!
صداقته ومحبته والتعلم منه إنسانيا ومهنيا كانت جائزتي الكبرى في هذه
الدنيا.. أما جائزته التي لا ينافسه فيها أحد، ولا يتربع على عرشها سواه
فهي "حب الناس"، وتقديرهم لرفيع إنسانيته وامتنانهم لوجوده في حياتهم
وقيمته التي لا يختلف عليها اثنان.
يكتب محمود عبد الشكور منذ ما يزيد على الثلاثين سنة، ويملأ الدنيا محبة
وسلما ورقيا ودعمًا بغير حدود للقريب والبعيد، للصديق والزميل والعابر..
للمصري والعربي والأوروبي والأفريقي والآسيوي.. إلخ.
طاقة حب فطرية وطبيعية بغير حدود ولا ضفاف.. سألته يوما عن سر هذا الدفق
وهذا العطاء وهذه الطاقة فأجابني قائلا:
"لا شيء يعادل محبة الناس وثقتهم.. يا رب أكون في مستوى هذه الثقة الكبيرة،
وتلك المحبة الغالية".
لم يتقدم أبدًا لجائزة (لا التشجيعية ولا التفوق ولا غيرها) ولم يسعَ عمره
لتكريم أو تقدير.. متعفف نزيه، حر الضمير، مترفع عن الصغائر،
محمود سيكمل الستين هذا العام، ورغم إنجازه الذي يشهد به الصغير والكبير،
في الصحافة والنقد والدراسات الأدبية والثقافية، وكتبه التي تجاوزت
العشرين، لم ينل شهادة تقدير حتى عن جهده ومسيرته العامرة المشرفة
النبيلة!! وليُسأل في هذا الذين يوزعون الشهادات يمينا ويسارا في المناسبات
الانتخابية، وغيرها!
هو عندي الناقد الجماهيري المحبوب صاحب الجمال والحس والمعالجة الذكية
الخبيرة بالفن والكتابة والحياة.. العين المدهشة بصرًا وبصيرة.. الفطرة
النقية والذوق الرفيع والثقافة الواسعة العريضة، وفوق ذلك كله القلب الطيب
والروح السمحة النقية.. هذا هو محمود عبد الشكور.. المبدع والناقد والمثقف
والإنسان..
كل جوائز الدنيا لن تفي قدرك ولا قيمتك عندي يا محمود..
ألف مبروك يا صديقي وأخي ورفيق العمر والأحلام والكتابة..
فرحتي كبيرة.. كبيرة.. كبيرة.. لأجلك يا صديقي وأخي..
إنها "أيامنا الحلوة" كما أطلق عليها صديقنا الناشر المرموق شريف بكر،
وموثِّقها بالصوت والصورة..
فهيا بنا نفرح.. واحتفالنا سيقام وسيستمر وسيبقى.. ونستهل هذا الاحتفال
بهذه الكلمات من صديقات وأصدقاء لم يترددوا لحظة في منحنا هذه الدفقات
التلقائية العفوية من المحبة لصديقهم يتحلقون حوله ويفرحون به ويفرحون له،
ويقولون له في نفس واحد:
"نحبك يا محمود.. ألف مبروك.. تستحقها وتستحق عشرات غيرها"..
*******
فلنبدأ ببرقيات المحبة وبوكيه أزهار وورود مغلفة بالفرح والسعادة لصاحب
السعادة الذي كان صبيا في السبعينيات، ثم صار شابا في الثمانينيات، واحترف
الصحافة والنقد في التسعينيات..
وخلال العقود الثلاثة التالية تربع على عرش الناقد الجماهيري المحبوب بغير
منازع ولا منافس.. والمبدع "الروائي" صاحب الأعمال الأكثر تأثيرا وقبولا
واستجابة عالية من جمهور القراء في مصر وجميع أنحاء العالم العربي..
فلنقرأ برقيات المحبة: |