زياد الخزاعي

 
سيرة كتابة
 
 
 

كتابة

مهرجان كان السينمائي الدولي الـ78

Palme D’or

A Simple Accident

"مُجرّد حادث" للإيراني جعفر بناهي... الظنَّة المرجُومة

بقلم: زياد الخزاعي/ خاص بـ"سينماتك"

 
 

"لا يتعلق الأمر بحرب وسّلام، بل بدائرة عنف. نحن صانعو أفلام اجتماعيّة، وبصفتنا هذه، لا توجد لدينا ما يُسمى بشخصيّة جيدة تماماً أو سيّئة تماماً. الجميع جزء من النّظام، والكُلّ نتاج بنيّة نظام تفرض قواعدها وقيمها على هؤلاء الناس. لذا، فالمسألة تتجاوز المصالحة. أنّها مسألة فهم كيف، عندما ينهار هذا النظام، يمكن للأشخاص الذين تعرّضوا لقصف دعاية العصور الوسطى لما يقرب من نصف قرن أن يعيشوا معاً بسلام، ويعبّروا عن احتياجاتهم ورغباتهم بطريقة صادقة". (جعفر بناهي في حديث مع صحيفة فارايتي الأميركية، 20 مايو 2025)

يبدأ عَارِض الإيرانيّ جعفر بناهي بصوت لن ينتهي حتى أخر مشهد صادم في جديده "مجرّد حادث" (105 د)، الفائز بجائزة السّعفة الذهب في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو 2025) لمهرجان كانّ السينمائي، متخذاً أشكالاً سمعيّة متعدّدة ومتداخلة واستفزازيّة، ومثلها تشكيكية واتّهامية، تضع الشخصيات الست تحت وقع سايكولوجي عصابي وتهديديّ، يأسر كُلّ واحد منهم داخل ظنَّة مرجومة، تسعى الى انتقام من شخص عابر يعتقدون، من دون إثبات قاطع، أنّه ذلك الرجل/ العميل الحكومي الذي عذبهم، وأحال حياتهم وكياناتهم وكراماتهم الى ما يُشبه سجن ضميري داخلي راسخ لن يزول من ذاكرتهم.

ارتياب جماعي يكتسح بقوّة درامية غير معهودة حكاية بناهي كون هؤلاء الضحايا لم يتمكّنوا من رؤية وجه مضطهدهم ابداً، بيد أنَّ ما ترسَّخ في وعيهم، ولاحقا عزمهم على ملاحقة مستبدهم ومقاضاته، ذلك الصّوت الغير المألوف الشبيه بصرير مكتوم  وقصير، تصدره ساق اصطناعيّة كانوا يسمعونه اثناء جلسات التنكّيل مع خطوات الرجل وهو يمشي داخل غرفة تعذيبهم. هل هذا دليل كاف لرجم أي كائن عابر ومجهول الهويّة لكنه يملك طرفاً اصطناعياً؟. من هذه الفكرة الجنونية، صاغ بناهي واحداً من أفضل أفلامه الروائيّة التي عاد الى صناعتها منذ "تسلل" (أوفسايت) في العام 2006، محققاً نصّاً صاخباً ووحشياً يتوافر على أكبر كميّة من صريخ وتُرَّهات منّاكفات وتهديدات وتعيير وتأثيم، ترميها شخصيّات موتورة ومكلومة بعضها في وجه الأخر، ذلك أنَّ المُرْيَة تقف حاجزاً اعتبارياً بين تعجيلهم بالقصاص أو تصبُّرهم وصولاً الى توكيد جازم بحقيقة الرجل المرمي داخل حفرة في عراء قاحل، هي قبره المنتظر، وكما هم في أغلال ماض ممرور، فإنْ حمِيّتهم بإتمام الأمر بأيّ ثمن، تفجّر بينهم قضية جارفة تخصّ مأزقهم الأخلاقيّ إن ارتكبوا فعلاً جرمياً بحق إنسان بريء، لو ذهبوا الى نهاية قرارهم بقتله، فهل يبرّر العنف الذي تعرَّضوا له وحشيّة "الدم بالدم" اللاحقة؟

تنطلق بليَّة المجموعة البناهية مع صوت ارتطام كلب بسيارة يقودها رجل يدعى إقبال (ابراهيم عزيزي) بمعية زوجته الحامل بايامها الأخيرة وابنتهما الصغيرة وسط ظلام الليل. تصر الأخيرة على تصحيح "الجريمة"، رغم محاولات والديها تبرير ما حدث باعتباره حادثاً عابراً وقع لحيوان سائب "وضعه الله في طريقنا لسبب ما"، تقول السيدة المحجبة، لكن أمام حجّة الطفلة يخضع الأب وينقل الجثة الى مكان جانبي، قبل أن ينتهي المطاف به في مرآب لإصلاح أضرار الضربة، يملكه رجل وحيد وسجين سياسي سابق يدعى فَهيد (فَهيد مُبشري) يتعرَّف، وهو مذعور، الى الصوت اللعين للطرف الاصطناعي، قبل أنْ يقرر بسرعة محموماً بالانتقام الى خطف الرجل ودفنه حيّاً. حين نشاهد التّراب وهو ينهال على وجه وجسم مربوط بإحكام، وهذيانات الأخر بما أصابه سابقاً على "يده"، نعرف أنّ بناهي يرسم مساراً انقلابياً في سينماه التي لطالما ظلت تجريبيّة وتقشفيّة وتأمليّة بسبب عقوبات حكوميّة جائرة وحصاراتها عليه، ومنعه الصارم من حرّيّة التصوير والأفلمة، ليعيده الى مجد "ذهب قرمزي" (2003) الذي نعدّه المنجز الأكبر لبناهي، والاشتغال الأكثر تماسكاً درامياً ووضوحاً سياسيّاً حيث يتشابه بطله حسين عامل توصيل البيتزا مع ميكانيكي السيارات فَهيد كونهما ضحيتين دمويتين لنظام سياسإجتماعي فاسد وغير عادل وقمعي. يسعى الأول الى سدّ فجوة عوزه وعزلته والفروقات الطبقيّة التي تحاصره عبر القيام بمحاولة فاشلة لسرقة متجر مجوهرات، تنتهي بقتله صاحبه وانتحاره، فيما يأتي القدر للثاني بمواطن "ناقص البدن" كي يحرّضه على "اكمال" نيّته المبيّتة في الثأر من جلاد مفترض. لئن عانى حسين الغليظ الجسد من انتكاسات نفسيّة ومرضية لفشله في تحسين أوضاعه والتعجيل بعبور حاجز حرمانه، فإنّ الثاني الذي يكابد من أوجاع كليتيه اللتين يضغطهما بطريقة غريبة لتخفيف ألمهما، وهي إشارة فسلجية على ما صنعه المعتقل والضرب المبرح بجسده، إنّما هو تذكير بدني له بإغتنام فرصته يوماً ما لرّد الصاع.

 
 

كلاهما محاصران بالغمّ والإقصاء. يحسم السارق قراره بإستهداف رأسه بطلقة خلاص، بينما يرى الميكانيكيّ نفسه أمام تراب الدّفن وكأنّه الخيار الأخير لغسل مراراته، إلا أن صرخات الضحيّة كونه الرجل الخطأ حيث لم يسبق له العمل قط في سجن، وأنّه فقد ساقه قبل عام فقط، تثبت تاريخه جروح غير ملتئمة، تعيد جزءاً من صواب فَهيد، وتمنح صاحب "البالون الأبيض" (1995) مناورة سينمائيّة للمزج بين دعابة خفيفة ونبّرات هجوميّة لفيلم مسيس، تتوالى بأحداث خارجة عن سيطرة الشخصيات تصل الى حدود سورياليّة فاقعة، مسرحها نصفان: الأول فضاء صحراوي يتوافر على شجرة واحدة، يصفها أحدهم بأنّها مثل نظيرتها في مسرحية صموئيل بيكيت الأثيرة "في انتظار غودو"، والثاني خلفية شاحنة تحميل (فان) يستخدمها الميكانيكي قبراً متحرّكاً لـ"معتقله" المكمم والمحشّور بحبال كما حيوان، أرضيّة اعترافات جماعيّة حين يدور بها على مواقع مختلفة، صورها القدير أمين جعفري (الذي أنجز باكورة الشاب بناه نجل جعفر بناهي "الرحلة"،2021) بلقطات طويلة واضاءات خارجيّة مشعة، جامعاً مواطنين مثله تعرضوا الى غدر المحقق، ليشاركوه كابوس حدسه وتوكيد هويّته.

ما يصنعه بناهي في هذه الفصول المتميّزة بكثرة المساجلات والغضب والاستياء هو تبيان أحقيّة المقاومة الشخصيّة في وجه نظام قمعي، وهل إنْ القتل هو إبلال فعلي لجروح الاعتقالات والتعذيب والمهانات وخراب الحيوات؟. عليه، يجعل من كُلّ فرد أمثولة سينمائيّة لطرائد مؤسسة ثيوقراطية وظلاميّة، تناور بين عذاباتها في الحقّ، وقرار فكّ عقدة الشّكّ الصّعب. ترى مصوّرة الأعراس شيفا (مريم أفشاري) إنْ العقلانيّة واجبة قبل ارتكاب جريمة أخرى، لأن رائحة عرق جسد المُعذِب التي كانت تشمُّها طوال الجلسات غير حاسمة كدليل، بينما تصرخ العروس غولي التي تخلت عن زفافها في أخر لحظة وهي في بدّلتها البيضاء كي "تحاكم" رجلاً اغتصبها وعذبها، إنْ الرجل السافل "أشاع كاذباً أنني تعاونت مع أجهزة الأمن، وجعل من حياتي معتقلاً  أبدياً"، في وقت يبقى زوجها (مجيد بناهي) محيداً لأنّ ثقل الإثم داخله أكثر ضغطاً من رعونة العامل الشاب الأخر حميد (محمد علي يلشمهر)، الذي يشتمه بنعت "الأغلبيّة الصامتة"، والعازم على تنفيذ الإعدام بالرّجل "الأعرج" بأيّ ثمن وبأسرع وقت، لأنّ "عميل المخابرات أفة على الإنسانيّة حتى في موته". في المقابل، يبقى فَهيد قائداً للفوضى، منتظراً حصيلة نهائيّة لا تأتي سريعاً، إنّما تجبره على إيجاد تسهيلات لمطبات آنية تواجهها المجموعة المرتجلة، على شاكلة نفاذ وقود الشاحنة، أو شراء حلوى للجميع، أو نقل زوجة إقبال الحامل الى المستشفى، والتعرض الى إبتزازات ممرضاتها والتّسبّب في فضيحة إذا لم يُدفع لهن إكراميات، ومثلهنّ أعوان محطات بيع الوقود وحراس أمن خاصين يحمل بعضهم أجهزة تحكّم يدوية لقراءة بطاقات الدفع الألكتروني لإقتطاع أموال رّشاوى!. هذه المطبات هي في نصّ مخرج "الدائرة" (2000) تبريرات دراميّة للإشارة الى استشراء خلل اجتماعيّ واستبداد عقيدة دينيّة وتوحّشها في بلاده، غافلاً بشكل غير مبرّر ثقل التّخريب الذي تمارسه عقوبات دوليّة ظالمة على قطاعات شعبيّة منذ أمد طويل، والمتسبِّبة في هتك نسيج اجتماعي عريق الأصول، وتفقير شامل ومقنن.

لا ريب أنَّ هدف بناهي الأول هو تجربة سجنه، وتعرّفه الى حكايات مغدورين مثله من عنف حكوميّ الذي تجد صدياته وأخباره وحكاياته وشيطانيه على لسان شخصياته الخمس، بيد أنَّ البطل الحقيقيّ في هذا الشريط ليس هؤلاء الذين لا تضمّ مجموعتهم قتلة، فـ"نحن لسنا مثلهم" كما تقول أحداهن، بل العدالة المغيبة وظنَّتها المرجومة. تلك القيمة الإنسانية التي تخترق مشاهد "مجرّد حادث"، وتفرض عليه بأسلوب غير مباشر وذكي وتحريضي الاقتراب من قانون قهريّ حول الرّحمة لن يتيح له الحياد، فالجميع "يحفر قبره بيديه"، كما يقول صديق فَهيد عن حقّ وإلزام.

سينماتك في ـ  26 مايو 2025

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004