"لا يتعلق الأمر بحرب وسّلام، بل بدائرة عنف. نحن
صانعو أفلام اجتماعيّة، وبصفتنا هذه، لا توجد لدينا ما
يُسمى بشخصيّة جيدة تماماً أو سيّئة تماماً. الجميع
جزء من النّظام، والكُلّ نتاج بنيّة نظام تفرض قواعدها
وقيمها على هؤلاء الناس. لذا، فالمسألة تتجاوز
المصالحة. أنّها مسألة فهم كيف، عندما ينهار هذا
النظام، يمكن للأشخاص الذين تعرّضوا لقصف دعاية العصور
الوسطى لما يقرب من نصف قرن أن يعيشوا معاً بسلام،
ويعبّروا عن احتياجاتهم ورغباتهم بطريقة صادقة". (جعفر
بناهي في حديث مع صحيفة فارايتي الأميركية، 20 مايو
2025)
يبدأ عَارِض الإيرانيّ جعفر بناهي بصوت لن ينتهي حتى
أخر مشهد صادم في جديده "مجرّد حادث" (105 د)، الفائز
بجائزة السّعفة الذهب في الدورة الـ78 (13 ـ 24 مايو
2025) لمهرجان كانّ السينمائي، متخذاً أشكالاً سمعيّة
متعدّدة ومتداخلة واستفزازيّة، ومثلها تشكيكية
واتّهامية، تضع الشخصيات الست تحت وقع سايكولوجي عصابي
وتهديديّ، يأسر كُلّ واحد منهم داخل ظنَّة مرجومة،
تسعى الى انتقام من شخص عابر يعتقدون، من دون إثبات
قاطع، أنّه ذلك الرجل/ العميل الحكومي الذي عذبهم،
وأحال حياتهم وكياناتهم وكراماتهم الى ما يُشبه سجن
ضميري داخلي راسخ لن يزول من ذاكرتهم.
ارتياب جماعي يكتسح بقوّة درامية غير معهودة حكاية
بناهي كون هؤلاء الضحايا لم يتمكّنوا من رؤية وجه
مضطهدهم ابداً، بيد أنَّ ما ترسَّخ في وعيهم، ولاحقا
عزمهم على ملاحقة مستبدهم ومقاضاته، ذلك الصّوت الغير
المألوف الشبيه بصرير مكتوم وقصير، تصدره ساق
اصطناعيّة كانوا يسمعونه اثناء جلسات التنكّيل مع
خطوات الرجل وهو يمشي داخل غرفة تعذيبهم. هل هذا دليل
كاف لرجم أي كائن عابر ومجهول الهويّة لكنه يملك طرفاً
اصطناعياً؟. من هذه الفكرة الجنونية، صاغ بناهي واحداً
من أفضل أفلامه الروائيّة التي عاد الى صناعتها منذ
"تسلل" (أوفسايت) في العام 2006، محققاً نصّاً صاخباً
ووحشياً يتوافر على أكبر كميّة من صريخ وتُرَّهات
منّاكفات وتهديدات وتعيير وتأثيم، ترميها شخصيّات
موتورة ومكلومة بعضها في وجه الأخر، ذلك أنَّ
المُرْيَة تقف حاجزاً اعتبارياً بين تعجيلهم بالقصاص
أو تصبُّرهم وصولاً الى توكيد جازم بحقيقة الرجل
المرمي داخل حفرة في عراء قاحل، هي قبره المنتظر، وكما
هم في أغلال ماض ممرور، فإنْ حمِيّتهم بإتمام الأمر
بأيّ ثمن، تفجّر بينهم قضية جارفة تخصّ مأزقهم
الأخلاقيّ إن ارتكبوا فعلاً جرمياً بحق إنسان بريء، لو
ذهبوا الى نهاية قرارهم بقتله، فهل يبرّر العنف الذي
تعرَّضوا له وحشيّة "الدم بالدم" اللاحقة؟
تنطلق بليَّة المجموعة البناهية مع صوت ارتطام كلب
بسيارة يقودها رجل يدعى إقبال (ابراهيم عزيزي) بمعية
زوجته الحامل بايامها الأخيرة وابنتهما الصغيرة وسط
ظلام الليل. تصر الأخيرة على تصحيح "الجريمة"، رغم
محاولات والديها تبرير ما حدث باعتباره حادثاً عابراً
وقع لحيوان سائب "وضعه الله في طريقنا لسبب ما"، تقول
السيدة المحجبة، لكن أمام حجّة الطفلة يخضع الأب وينقل
الجثة الى مكان جانبي، قبل أن ينتهي المطاف به في مرآب
لإصلاح أضرار الضربة، يملكه رجل وحيد وسجين سياسي سابق
يدعى فَهيد (فَهيد مُبشري) يتعرَّف، وهو مذعور، الى
الصوت اللعين للطرف الاصطناعي، قبل أنْ يقرر بسرعة
محموماً بالانتقام الى خطف الرجل ودفنه حيّاً. حين
نشاهد التّراب وهو ينهال على وجه وجسم مربوط بإحكام،
وهذيانات الأخر بما أصابه سابقاً على "يده"، نعرف أنّ
بناهي يرسم مساراً انقلابياً في سينماه التي لطالما
ظلت تجريبيّة وتقشفيّة وتأمليّة بسبب عقوبات حكوميّة
جائرة وحصاراتها عليه، ومنعه الصارم من حرّيّة التصوير
والأفلمة، ليعيده الى مجد "ذهب قرمزي" (2003) الذي
نعدّه المنجز الأكبر لبناهي، والاشتغال الأكثر تماسكاً
درامياً ووضوحاً سياسيّاً حيث يتشابه بطله حسين عامل
توصيل البيتزا مع ميكانيكي السيارات فَهيد كونهما
ضحيتين دمويتين لنظام سياسإجتماعي فاسد وغير عادل
وقمعي. يسعى الأول الى سدّ فجوة عوزه وعزلته والفروقات
الطبقيّة التي تحاصره عبر القيام بمحاولة فاشلة لسرقة
متجر مجوهرات، تنتهي بقتله صاحبه وانتحاره، فيما يأتي
القدر للثاني بمواطن "ناقص البدن" كي يحرّضه على
"اكمال" نيّته المبيّتة في الثأر من جلاد مفترض. لئن
عانى حسين الغليظ الجسد من انتكاسات نفسيّة ومرضية
لفشله في تحسين أوضاعه والتعجيل بعبور حاجز حرمانه،
فإنّ الثاني الذي يكابد من أوجاع كليتيه اللتين
يضغطهما بطريقة غريبة لتخفيف ألمهما، وهي إشارة فسلجية
على ما صنعه المعتقل والضرب المبرح بجسده، إنّما هو
تذكير بدني له بإغتنام فرصته يوماً ما لرّد الصاع. |