فيلم المخرج الكبير صلاح أبوسيف الأخير (المواطن مصري - 1991)، قام ببطولته
مجموعة من خيرة ممثلي مصر من بينهم.. عمر الشريف، عزت العلايلي، صفية
العمري، عبدالله محمود.
فعن رواية (الحرب في بر مصر - 1978) للروائي المصري يوسف القعيد، وسيناريو
وحوار محسن زايد، يقدم صلاح أبوسيف (المواطن مصري) بعد خمس سنوات من
التوقف، منذ فيلمه (البداية - 1986).
تتحدث الرواية عن الذين حاربوا واستشهدوا ودفعوا ثمن الانتصار في حرب
أكتوبر 1973 من دمائهم ولم يحصدوا سوى القهر، كما تكشف عن آخرين حصدوا ثمار
نصر لم يشاركوا في صنعه وسلبوه أصحابه وتدثروا برداء الشرف والمجد وكللوا
رؤوسهم بأكاليل الغار وسطروا أسمائهم في سجل الشهداء على الرغم من أنهم
مازالوا أحياء.
وهذا بالطبع ما تناوله فيلم أبوسيف هذا، إلا أنه من زاوية أخرى اختلف مع
الرواية عندما تخفف من الكثير من المواقف الدرامية والدلالات الرمزية التي
تتشبع بها الرواية، حتى أصبح وكأنه يدين، ليس الطبقة التي سرقت ثمار النصر
فقط، بل يدين حتى الذين فرطوا في حقوقهم بجهلهم وسلبيتهم وتخاذلهم وصمتهم
وعجزهم عن المواجهة.
هذا إضافة إلى أن الفيلم قد حرص على عقد مقارنة بين عهدين سياسيين، عهد
عبدالناصر وعهد السادات، بل وحاول تصفية الحساب مع فترة السبعينات التي
شهدت انتصار أكتوبر، ثم أهدرته في كامب ديفيد، ومن ثم أفرزت طبقة جديدة من
اللصوص والانتهازيين الذين حققوا في فترة وجيزة ثراء سريعاً غير مشروع،
ازدادت بسببه المسافة بين الغني والفقير.
تدور أحداث الفيلم عن الشاب "مصري" (عبدالله محمود) ابن الفلاح الفقير
"عبدالموجود" (عزت العلايلي)، والذي اضطر تحت ضغط الفقر أن يلتحق بالخدمة
العسكرية بديلاً عن الإقطاعي "توقيق" ابن عمدة قرية الشرشابية، ليستشهد
حاملاً اسمه، وحين يعود جثمانه إلى قريته يذهب التكريم والشرف إلى العمدة،
فابنه رسمياً هو الشهيد، وليدفع الأب الحقيقي الثمن مرة ثانية، فقد سرقوا
منه الأرض أولاً ومن ثم سرقوا ابنه حياً وميتاً.
الفيلم يعلن انحيازه الواضح لفترة الستينات ولثورة 23 يوليو 1952، وما
صاحبها من تحقيق للعدالة الاجتماعية من تكافؤ الفرص وتذويب الفوارق الطبقية
ورفع الظلم عن الفقراء. وكان من ضمن إنجازات الثورة قانون الإصلاح الزراعي
الذي أصدره الرئيس عبدالناصر في الستينات. والفيلم يقدم التحية لعبدالناصر
في أكثر من مشهد أو جملة حوار.
ولأن الفيلم ينساق وراء الشعارات السياسية والأيديولوجية لتأكيد وجهة نظر
محددة ورأي سياسي خاص، فهو بذلك قد تناسى بعض الحقائق التاريخية. فمثلاً،
نلاحظ ذلك الخطأ القانوني الذي اعتمدت عليه فكرة الفيلم، وهو الخلط بين
أراضي الإصلاح الزراعي التي وزعت على الفلاحين، والتي من المستحيل أن تمس
حسب القانون والدستور، وبين الأراضي التي فرضت عليها الحراسة، حتى يبدو كأن
قانون الإصلاح الزراعي قد عدل عنه في عهد الرئيس السادات، وهو شيء لم يحدث
على الإطلاق وبعيد عن الواقع تماماً.
كما أن الفيلم قد فسر رضوخ الفلاح "عبدالموجود" وخضوعه لتلك الصفقة بالحاجة
والفقر وحرصه على الأرض، لكنه لا يعطي تبريراً درامياً لذلك. فشخصية هذا
الفلاح تبدو منذ البداية أقرب إلى الاستسلام عاجزة عن الرفض، مفضلة قبول
هذه الصفقة المادية البحتة (الأرض مقابل الابن)، قامعة لبذور التمرد عند
الابن "مصري"، بل ويجبره والده على الإذعان لشروط العمدة بابتزازه عاطفياً
والتلويح له بأن رفضه يعني ضياع الأسرة كلها مع الأرض. وقد بدا هذا الصراع
خافتاً فاتراً بسبب ضعف بناء شخصية الفلاح عبدالموجود، فهو يعاني من الضعف
والانكسار، مهزوم، يبحث عن أمانه الشخصي وأمان أسرته، ومازال يؤمن بسلطات
العمدة وسطوته.
والفيلم بهذه الشخصية، ربما من دون قصد، يدين نظام الثورة الذي عجز، بعد
عقدين من الزمان، عن خلق مواطن قوي ذي كرامة، قادر على الدفاع عن حقوقه
ومكتسباته. حيث نلاحظ أن شخصيات قرية صلاح أبوسيف في فيلمه هذا، بضعفها
واستسلامها، تستحق ما حاق بها من ظلم. ولن يكون أبلغ دليل على هذا القول
سوى المشاهد التي تلت عودة جثمان الشهيد "مصري"، حيث تلجم الدهشة والخوف
أهالي القرية عن النطق بالحقيقة ومعهم عبدالموجود الذي ينخرط في بكاء مرير
ويعجز خوفاً من أن يجهر بأن الجثة هي لابنه الوحيد، خاصة وإن العمدة قد لوح
له بأنه سيتم الصفقة التي بدأها معه.
تصل هذه المأساة إلى أوجها في المشهد الأخير، مشهد عبدالموجود وهو جالس تحت
الشجرة، حيث يعصف الفيلم بهذه الشخصية ويفقد المتفرج أي قدر من التعاطف
معها، لا عقلياً ولا وجدانياً، عندما يضيع بخنوعه واستسلامه الابن والأرض
والشرف ومنح العمدة كل شيء.
في فيلم (المواطن مصري) لم تلمح أي لحظات متوهجة بالنسبة لإخراج صلاح
أبوسيف، بل كان الإخراج يتسم بالتقليدية، هذا إضافة إلى الترهل الواضح
للإيقاع العام في الفيلم، نتيجة لافتقاد الإيقاع الداخلي الخاص لكل مشهد،
كما نلاحظ غياب الحيوية والتدفق والإحكام الذي عودنا عليه أبوسيف في أفلامه
السابقة. ربما يمكن أن نشير إلى ذلك الأداء التمثيلي المتميز لكل من عمر
الشريف وعزت العلايلي وعبدالله محمود.
وأخيراً.. لا بد من الإشارة إلى أن فيلم (المواطن مصري) قد افتقد إلى الصدق
الفني، وعجز عن إقناع المتفرج بعدالة قضية الفلاح عبدالموجود، رغم وضوحها،
حيث بدا كمواطن بلا كرامة، تنازل عن حقه في الأرض ومن ثم حقه في الحرب.
وبرزت مشكلته في الفيلم وكأنها مشكلة شخصية لا تخص الجميع، خصوصاً عندما تم
تغييب دور جموع الفلاحين في القرية، مما جعل عبدالموجود يسعى لحل منفرد دفع
ثمنه غالياً. |