أحاسيس غامرة بالفرحة والغبطة.. تلك التي طوقعتنا أثناء تواجدنا ضمن
فعاليات مسابقة "أفلام من الإمارات".. فأي متتبع لكل هذه التجارب
السينمائية في منطقة دول الخليج، لابد له أن يشير إعجاباً بتلك الجهود
السينمائية الاستثنائية المبذولة في دولة الإمارات وخصوصاً المجمع
الثقافي بأبوظبي.. والتي يدخرها المهتمون للنهوض بهذا الفن الجميل..
ساعين بالطبع لتكوين تراثاً تراكمياً للصورة المتحركة في دول مجلس
التعاون الخليجي.
فحينما نكون أمام
تظاهرة هامة مثل مسابقة "أفلام من الإمارات"، فإننا لا نستطيع أن
نتجاوز حقيقة أن هذه المسابقة قد أرست دعائم قوية لقيام حركة ثقافية
سينمائية إماراتية، منذ انطلاقتها في عام 2001.. ونحن الآن نحتفي
بالدورة الخامسة، فإننا لا نبالغ إذا زعمنا بان مسابقة "أفلام من
الإمارات" قد أصبحت رافدا هاما وأساسيا من روافد انتعاش واقع الفن
والثقافة في منطقة الخليج العربي بأكمله.
كما
يحق لنا تصنيف هذه الاحتفالية السينمائية، بأنها مهرجان تخصصي يعنى
بالفيلم التسجيلي والقصير في المنطقة.. وهو بالتالي يضاهي في ذلك ابرز
المهرجانات في العالم، تلك المتخصصة بهذه النوعية من الأفلام.. فنحن
أمام تجمع سينمائي يفتح ذراعيه لكافة المشتغلين بمثل هذه النوعية من
الأفلام في دول الخليج العربي..!!
فبدأً
من دورتها الخامسة هذه، استحدثت هذه التظاهرة مسابقة جديدة تعني
بالأفلام الخليجية، وذلك لتتيح للمتسابقين من دول الخليج العربي
المشاركة في هذه التظاهرة الهامة.. وهي بالطبع فرصة هامة لهذه المواهب
لتقديم مجهوداتهم في مجال الصورة المتحركة.. ومن ثم جمع شملهم تحت لواء
واحد.. بدل تشتتهم وضياع إبداعاتهم.
وصل
عدد الأفلام المشاركة في هذه الدورة 1369 فيلماً، ومجموع الأفلام
الإماراتية والخليجية فقط كان 115 فيلماً، منها 26 فيلماً خارج
المسابقة.. وهو عدد ضخم يثير الكثير من الدهشة والفرحة في نفس الوقت..
وينبئ عن حماسة فنية طاغية، ويكشف عن فنانين متعطشين لهذا الفن
الجميل.. تجارب خاصة جداً، يمكنها أن تكون نواة أو حجرا صغيرا لفعل
سينمائي مستقبلي.. ولن أقول لسينما إماراتية أو خليجية، باعتبار أن
جميع هذه التجارب الفيلمية (التي قاربت الخمس مائة فيلم منذ عام 2001
وحتى الآن)، هي بمثابة تجارب شخصية في أغلبها نفذت بكاميرات فيديو،
وليس هناك عجلة إنتاج سينمائية ثابتة ذات كيان خاص، يمكن أن تشكل
استمرارية إنتاجية. وهذا ينطبق على مجمل الأفلام في الدول العربية
باستثناء مصر.
من
خلال متابعتي لمهرجان "أفلام من الإمارات" منذ ولادته.. يمكنني الجزم،
بأن السينما كصناعة في دولة الإمارات (كما في بقية دول الخليج)، لن
تكون لها قائمة إلا من خلال دعم القطاع العام.. أي الأجهزة والمؤسسات
الرسمية الحكومية، باعتبار أن الهم الفني والتثقيفي يتزامنان مع توجهات
هذه الدول لتربية جيل مثقف ومهتم بالأدب والفن بشكل عام، والإحساس من
جانب هذه الحكومات بالمسئولية تجاه المواطن، بغض النظر عن الربح
المادي.. هذا ما يتراءى لنا من خلال تصريحات المسئولين في هذه الدول.
أما
التعويل على القطاع الخاص في قيام سينما محلية، فهذا أمر لا يمكن
الرهان عليه مرحليا، باعتبار أن رأس المال الخاص، سينتظر كثيراً إلى أن
يطمئن بأن هناك جمهور سينمائي.. أو بالأحرى مستهلك جيد لهذه الصناعة
المنتظرة!!
دعونا
نكون أكثر تفاؤلا بالمستقبل السينمائي في هذه المنطقة الحساسة من
العالم.. منطقة المال والثروات الطبيعية الكبيرة.. ولابد أن يكون
للثروات الثقافية والحضارية الكامنة في إنسان هذه المنطقة، دوراً في
إبراز إنسان متحضر وواع لمستوى التفكير والثقافة على المستوى المؤسسي
والفردي.
مشاهدتي لهذا الكم الكبير من الأفلام في مهرجاننا هذا العام، أنتجت في
داخلي الكثير من التساؤلات والرؤى.. وكان لابد لي من تسجيل بعض
الملاحظات الضرورية العامة الأخرى، هذه الملاحظات تتجسد في العناصر
الرئيسية التالية:
الصورة السينمائية:
نحن
نعول على أن من يصنع هذه الأفلام عموماً، لابد له من التركيز أكثر في
التعبير بالصورة قدر الإمكان.. بل والذهاب بها إلى أبعد من هذا، وذلك
بابتعاده عن الحوار التقليدي المكرر لما قدمته الصورة مسبقاً، هذا
طبعاً بمساعدة العناصر الفنية والتقنية الأخرى.. ومن ثم الاهتمام بخلق
كادرات جمالية معبرة وزوايا تصوير لافتة تضيف كثيراُ للحدث وتؤثر فيه..
وهذا ما لم نلحظه في غالبية الأفلام.. اختيار حركة الكاميرا وزواياها
جاء عشوائياً وبشكل غير مدروس تماماً.. علماً بأن من يصنعون الصورة
هنا، يكونون بمعزل عن مؤثرات خارجية كثيرة أبرزها المؤثر التجاري
والترفيهي.. لذا كان عليهم التركيز والاختيار الدقيق والاهتمام بتكوين
الصورة وجمالياتها، وذلك للارتفاع بمستوى الفيلم الفني والتقني.
لاحظنا أيضاً.. بأن الأفلام القليلة التي أبدت اهتماماً واضحاً بالصورة
والكادر الجمالي، لم تنجح في استثمار ذلك لتجسيد فكرة خلاقة مبتكرة
لافتة.. فأي اختيار لحركة معينة للكاميرا، أو أي كادر سينمائي لابد له
أن يكون مدروساً ومبرراً لإضافة بعد جمالي وفكري للفيلم. صحيح بأن هناك
بعض الأفلام التي أكدت على التعبير بالصورة الخالصة.. أي أنها استبعدت
الحوار تماماً.. وهذا في حد ذاته إيجابية، إلا أن الملاحظة هنا هي..
اتجاه هذه الأفلام القليلة جداً نحو الميلودراما البكائية الكئيبة.
نواصل
حديثنا عن تلك الأفلام المشاركة في مسابقة أفلام من الإمارات.. وكان
الحديث قد وصل بنا عند الصورة السينمائية.. هذا الأسبوع نتحدث عن
الفكرة والسيناريو، وعنصر المونتاج الذي يعد عنصراً هاماً في إعطاء
الفيلم إيقاعه.
الفكرة والسيناريو:
كما
أسلفنا، لابد أن تكون الفكرة مركزة ولافتة في الفيلم القصير بالذات..
وفي نفس الوقت لابد أن تطرح فكراً مختلفاً عما تعودناه في الفيلم
الطويل وفي الدراما التليفزيونية التقليدية، إلا أن غالبية الأفلام هنا
ينقصها الفكر أساساً، وبالتالي نجدها تتوه في عوالم الغيب والنسيان..
إذن الفكر أولاً قبل الفن.. فلابد أن يطرح الفيلم فكراً مصاحباً للرمز
وبعيداً عن المباشرة.. فالمباشرة في الفن هي مقتل الإبداع.. أينما وجدت
المباشرة يختفي الإبداع، فالاثنان لا يلتقيان على الإطلاق.. هذا وإلا
سيكون مصير الفيلم الإهمال والنسيان.
هذا
إضافة إلى أن بعض الأفلام لم تنجح في تركيز الفكرة واختزالها قدر
الإمكان، ومن ثم الهروب بها من ذلك التطويل الممل. بل أن هناك أفلاماً
حاولت التطرق لأكثر من فكرة، وعدة مواضيع في آن واحد.. وهو الأمر الذي
ساهم في تشتت تركيز المتفرج.. وإخفاق الفيلم بالتالي في توصيل فكرة
معينة واحدة له.. كما أن الفيلم القصير بشكل عام يحتاج أن تكون فكرته
جديدة مبتكرة وغير تقليدية، ليكون تأثيره قوياً وينجح في شد الانتباه،
وحتى إن كانت هذه الفكرة مكررة، فلابد أن تكون المعالجة جديدة ومغايرة
عما هو سائد.. وهنا يأتي دور السيناريو في صياغة الفكرة بشكل غير مباشر
ولماح.
المونتاج:
كما
نعرف بأن للمونتاج دور كبير في نجاح أي عمل سينمائي، باعتباره يعطي
للفيلم تفرداً لابد منه عن بقية الفنون البصرية الأخرى كالمسرح والفن
التشكيلي.. هنا يبدأ الحديث عن إيقاع الفيلم ونجاحه في شد انتباه
المتفرج.. وإعطائه جرعات من الصور المتلاحقة والمؤثرة.
من
جهتنا.. لاحظنا بأن الغالبية ممن يشتغلون في الصورة المتحركة عندنا، لا
يدركون أهمية المونتاج في نجاح أي فيلم.. شاهدنا في الكثير من الأفلام
تلك الصورة الميتة الثابتة، التي تصيب المتفرج بالملل والنفور من
العمل.. ولاحظنا كيف أن مشاهد كثيرة تعتمد تلك اللقطات الطويلة المملة
التي تتابع حركة الممثل أينما ذهب، وكأننا أمام خشبة مسرح وليس كادراً
سينمائياً.. وإن حدث وكان المونتاج سريعاً.. نكتشف بأن هناك عدم فهم
واضح في استخدامه، لدرجة أن يجعل المتفرج يلهث وراء الحدث دون أي مبرر
منطقي.. فلا بد من صانع هذه الصورة أن يعطي للفيلم إيقاعاً متناسباً
والحدث الدرامي المتناول وذلك باستخدامه للمونتاج بشكل متناغم ومؤثر.
في
ختام حديثنا عن أفلام الدورة الخامسة لمسابقة أفلام من الإمارات، نصل
للتطرق لعنصرين هامين من عناصر تكوين الصورة السينمائية، ألا وهما
الموسيقى والأداء التمثيلي.
الموسيقى:
هذا
العنصر الفني لابد أن يكون له دوراً رئيسياً في الحدث.. بل لابد أن
يكون دور معبر ومشارك، وليس فقط خلفية للحدث.. وعلينا كمتفرجين أن
نلاحظ ذلك الذوبان من جانب الموسيقى في الفيلم لدرجة عدم الشعور بها..
وبالتالي تكون عوناً في توصيل صورة نظيفة لا ترهق العين والحواس
الأخرى.. ما شاهدناه من أفلام، اعتمدت غالباً على موسيقى مختارة من
أعمال سابقة، وهذا ليس عيباً في حد ذاته، إنما على صانع الفيلم أن يكون
دقيقاً في اختياره هذا.. شعرنا فعلاً بانزعاج المتفرج من موسيقى الكثير
من الأفلام، وخصوصاً تلك المعروفة من المتفرج.. شاهدنا مثلاً فيلماً
إنسانياً اجتماعيا بموسيقى رعب، موسيقى لا تمت للفكرة والحدث بصلة..
لذا فإن الانتباه للموسيقى التصويرية يعد أمراً ضرورياً.. إن للموسيقى
دوراً هاماً في الارتفاع بمستوى الفيلم أو النيل منه.. لذا أدعو من
يصنع الصورة المتحركة عندنا، بالاهتمام بها إذا أرادوا أن يحافظوا على
مستوى الفيلم وجاذبيته.
الأداء التمثيلي:
هنا
أحب أن أنوه بأن العنصر البشري في الفيلم، إن كان يمثل في الفيلم
الروائي أو يعلق في التسجيلي، لابد له أن يدرك ذلك الفرق بين الأداء
المسرحي والأداء السينمائي.. فالمتفرج هنا لابد أن يشعر بتلك الحميمية
التي يمكن أن تنشأ بينه وبين شخصيات الفيلم الذي أمامه.. فأقرب شيء على
الشاشة للمتفرج هو العنصر البشري.. لذلك على الممثل أن يحاول توصيل
فكرة الفيلم بشكل تلقائي سلس، وليس بشكل فج وقسري، مستعيناً بكل وسائله
لتجسيد ذلك.. لاحظنا بأن الأداء التمثيلي في كثير من الأفلام قد جاء
مبالغاً وغير مقبول لدرجة الإحساس بالتعب.. التمثيل أساس هام جداً في
تعاطف المتفرج مع شخصيات الفيلم.. لابد من إعطاء فرصة أكبر للتمرين
الأدائي قبل التصوير.
كل
هذه عوامل مساعدة للصورة التي تخيلها المخرج.. عوامل تحافظ على إيقاع
سينمائي متناسق يزيد من شد انتباه المتفرج وتحافظ على متابعته.. وإذا
نجح المخرج في الحفاظ على ذلك التناغم فيما بين هذه العناصر الرئيسية
في أي فيلم سينمائي.. تكون مهمته أسهل بكثير.. لتقتصر فقط على إضفاء
رؤيته الفكرية والفنية لفيلمه.
ختاماً.. لابد من الإشارة إلى أن هناك محاولات قليلة هامة جداً،
شاهدناها واستمتعنا بها ضمن هذا التجمع السينمائي الجميل، أبرزها حسب
الترتيب الأبجدي (الجساسية ـ القرم ـ أسرار سارة ـ أشياء ـ أفكار
انتحارية ـ تحت الشمس ـ حياة تخشبية ـ خوف ـ سراب ـ سماء صغيرة ـ نساء
بلا ظل ـ هبوب)، استطاعت هذه الأفلام أن تقول الكثير عن السينما
والصورة.. ولكن الأهم هو الاستمرارية والعمل على صنع تراث تراكمي
للصورة السينمائية في المنطقة بشكل عام.. فالسينما تاريخ.. السينما هي
الحلم بالواقع.
|