كلمة لابد
منها:
في البدء.. أحب أن أشكر اللجنة الثقافية
بمجلس الطلبة على هذه الدعوة للمشاركة في شيء أنا أعشقه.. فن السينما، أو
كما أحب أن أدعوه.. فن المستحيل.
وقبل أن أبدأ في الحديث.. أحب أن أوكد على
نقطة هامة وضرورية.. فربما يعتقد الكثيرون، بأن ما سأتناوله من موضوع،
سيكون بعيداً عن هدف لقائنا هذا، خاصة في ظل الغزو الذي تشنه الولايات
المتحدة وبريطانيا على العراق.. ولكني أختلف تماماً مع هذا القول، باعتبار
أن الفن عموماً والسينما خصوصاً، يجب أن تبتعد كثيراً عن السياسة.. والفن
الجميل موجود في أي مكان من العالم.. إن كان في فلسطين أو في أميركا. ولا
يمكننا أن نتغافل موقف الفنان الأميركي المعارض للحرب على العراق كمثال.
تقديم:
ننتخب
السينما لأن تكون
العامل الهام الذي يساهم
في تشكيل وصياغة الوجدان
الشعبي..
وأهمية
هذا الدور
ينبع دوماً
من واقع المجتمع الثقافي والاجتماعي نفسه، بمعنى فقدان التأثير المهم
للكلمة المكتوبة على الجماهير، التي تعاني من الأمية. لذلك تبقى الغلبة
للإذاعة المسموعة (الراديو) والمرئية (السينما والتليفزيون).
والسينما ليست
فكر وفن
فحسب، ولكنها بالدرجة الأولى صناعة وتجارة.. فالسينما، منذ بدايتها، لم
تأخذ على عاتقها مهمة القيام بتوعية الجماهير ورفع مستواها الفكري
والثقافي..
ولم يأخذ هذا الهدف حيزاً من أجندة المنتجين. والسينما كانت ولا تزال لدى
الغالبية منهم تجارة
تدر عليهم الكثير من الأرباح.
إذن،
فالإنتاج
هو الحجر الأساسي الذي تقوم عليه صناعة السينما..
والمسيطر
على عملية الإنتاج هو الذي يحدد هوية هذه السينما.
لكن يجب أن نعترف في كل هذه المعطيات بأن عملية
الإنتاج ليست عملية سهلة، بل هي محكومة بشبكة من العلاقات
لا تقتصر ـ كما في الإنتاج الأدبي على ورق وقلم وتكاليف طباعة، تبقى نسبياً
محدودة جداً ـ بل هي عملية تمر عبر آلات ومواد ومؤسسات ورساميل، هي التي
تكوِّن ما نقول عنه صناعة سينما.
مما لا شك فيه، بأن الذي يصنع السينما ليس
الفنان كما يعتقد الغالبية؛ بل هو التاجر صاحب رأس المال القادر على
توصيلها للمتفرج. وهذا بالضبط ما تيقن منه وآمن به رأس المال الأمريكي منذ
البداية، عندما جعل من السينما، صناعة تدر الأرباح الخيالية، وتمليء الجيوب
بمليارات الدولارات.
السينما الأمريكية:
الحديث عن السينما الأمريكية.. يعنى الحديث
عن السينما في كامل تألقها. فالسينما الأمريكية، بكل ما تحمله من أفكار
وتقنية وابتكارات، مهما اختلفنا حولها، هي من دون منازع، الأولى في
العالم.. هذا بالرغم من أن كل سينمات العالم، حاولت مجاراتها في أكثر من
مرحلة، إلا أن التفوق كان حليفاً للسينما الأميركية.
لماذا السينما الأمريكية؟ وما أسباب
انتشارها في العالم؟ أسئلة تراود الكثيرون.. ويمكن أن يجيب عليها الغالبية،
كل بوجهة نظره. ولكننا هنا، سنقوم سوياً، بمناقشة لبعض أهم العناصر الفنية
والمحطات التي جعلت من هذه السينما (الأمريكية)، هي السائدة في العالم.
ولكي نكون أكثر دقة في طرح قضية هامة مثل
هذه، علينا أولاً القيام برصد موجز وسريع يتناول نشوء السينما الأمريكية،
كيف بدأت وتطورت واستمرت إلى هذا اليوم. ونحن بهذا لن نقدم تاريخاً شاملاً
لهذه السينما، وإنما سنتحدث عن محطات هامة كونت ما يسمى بـ (السينما
الأمريكية).
بالرغم من أن السينما قد بدأت في فرنسا
وبريطانيا وألمانيا والنمسا وأمريكا، في نفس الفترة تقريباً (بين عامي 1895
ـ 1900). بل ربما جاءت السينما الأمريكية فيما بعد، إلا أن ذلك لم يمنع من
أن تكون أمريكا هي السباقة في مجال فني وشعبي كالسينما. فقد اهتم الأمريكان
كثيراً بصالات العرض السينمائي، معتقدين بشكل حازم أنها العنصر الأساسي
لإزدهار هذا الجانب الترفيهي والثقافي المهم للناس.
ففي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تملك مائتي
إلى ثلاثمائة صالة عرض في عام 1909، ولا يملك العالم بأسره سوى ألفين إلى
ثلاثة آلاف صالة، كان عدد صالات العرض في أمريكا في نفس الفترة قد تجاوز
عددها في العالم بأسره. ففي غضون ثلاث سنوات فقط، ارتفع عدد صالات العرض في
أمريكا بشكل خرافي، من عشر صالات فقط إلى عشرة آلاف صالة.
هذا الارتفاع المذهل في عدد صالات العرض،
جاء نتيجة لأسباب عديدة ومدروسة، أهمها ثمن تذكرة الدخول البسيط وهو خمس
سنتات (نيكل واحد فقط)، ولهذا سميت هذه الصالات بـ (منتديات النيكل). مما
خلق رواد السينما في تلك الفترة، فكانوا في مجملهم من المهاجرين الذين
بدأوا يتدافعون بشكل هائل إلى أمريكا، بمعدل مليون نسمة سنوياً، ونجاح ذلك
أدى باتجاه بناء المزيد من صالات العرض.
إن انتشار صالات العرض بهذا الشكل، قد ساهم
بشكل واضح في زيادة الإنتاج السينمائي، وذلك لتلبية حاجة المستهلك
(المتفرج)، ودخول الرأسمال الأمريكي هذا المجال بدون أي توجس أو خوف.
باعتبار أن إنتاج فيلم واحد بتكلفة مائتي دولار فقط، قادر على جني أرباح
تساوي عشرة أضعاف هذا المبلغ.
هوليوود والحرب:
جاءت الحرب العالمية الأولى عام 1914،
لتكون لصالح السينما الأمريكية، تلك السنوات التي شهدت انحساراً واضحاً
للسينما الأوروبية. فبينما كانت أوروبا مشغولة بالحرب وأعبائها، كانت
أمريكا تصنع تاريخها السينمائي. حيث بدأت استوديوهات هوليوود في إنتاج
الكثير من الأفلام التي حظيت بنجاحات متكررة، إن كان في أمريكا أو في بقية
دول العالم. إلى أن قام الأمريكي ديفيد جريفيت، بتقديم فيلمه الرائد (مولد
أمة).
إن فيلم (مولد أمة) الذي أخرجه جريفيت عام
1915، يعتبر بحق انطلاقة السينما الأمريكية التجارية الحقيقية، وتألق
صناعتها، هذا الفيلم الذي أثار ضجة صاخبة، بسبب الاتجاه العنصري والعرقي
الذي يتبناه موضوع الفيلم، فقد حدثت ردود فعل دموية لدى المتفرج راح ضحيتها
الكثيرون، مما جعل إيراداته تتزايد يوماً بعد يوم. لدرجة أن هذا الفيلم
الذي لم يتكلف إنتاجه سوى سبعمائة دولار، قد فاقت مداخيله التصور، بعد أن
شاهده ما يقارب المائة مليون نسمة في أمريكا وحدها. وبهذا فقد أحدث هذا
الفيلم ثورة في السينما الأمريكية من الناحية التجارية، خالقاً لهوليوود
فرصة الشروع فيما بعد بإنتاج أفلام أكثر أهمية وترفاُ.. حيث فتحت الأبواب
أمام الإنتاجات الضخمة والأجور الخيالية.
كانت السنوات العشر التي تبعت الحرب
العالمية الأولى، بالنسبة للسينما الأمريكية سنوات رخاء وازدهار، وليست
كذلك بالنسبة للسينما الأوروبية، لأسباب موضوعية أهمها حذف الأفلام
الأجنبية من برامج عروض عشرين ألف صالة في الولايات المتحدة، هذا إضافة إلى
أن الأفلام الأمريكية قد سيطرت في بقية أنحاء العالم على 60% إلى 90% من
برامج العروض، كما وخصص مائتا مليون دولار سنوياً لإنتاج سينمائي تجاوز الـ
800 فيلم، مما أدى طرح مليار ونصف من الدولارات للاستثمار إلى تحويل
السينما إلى مشروع يشبه، بهذه الرساميل المخصصة له، أكبر الصناعات
الأمريكية، كصناعة السيارات والفولاذ والبترول والسجائر. وسيطرت بعض
الشركات الكبرى على الإنتاج والاستثمار والتوزيع العالمي أمثال: بارامونت،
ولوي، وفوكس، ومترو، ويونيفيرسال، وربطتها علاقات قوية بالشركات المالية
الكبرى في حي وول ستريت. هذه الشركات التي لم تعد تعتمد على المخرجين، بعد
إخفاقات جريفيت في أفلامه الأخرى، ما بعد (مولد أمة)، بل على النجوم
السينمائيين، فأصبح المنتجون هم أسياد الفيلم منذ ذلك الوقت، إذ سيطروا على
الصلاحيات السينمائية كافة: كانتخاب موضوعات الأفلام، والنجوم، والتقنيين،
وتنمية فكرة النص والموضوع، إلى غيره من العناصر السينمائية.
مع نهاية العقد الثاني من القرن العشرين،
ظهر نظام النجوم في هوليوود، الذي استحوذ على نتاج هوليوود فيما بعد، بينما
بقى المنتج في الظل. وبذلك احتل النجم واجهة هوليوود، وصار نظام النجوم
أساس سيطرة هوليوود العالمية. هنا بدأت هوليوود تستقطب الكثير من
السينمائيين في أوروبا والعالم، من فرنسا وألمانيا، والنمسا، والسويد،
وغيرها من بلدان العالم، الذين عرفوا بأن العمل في هوليوود سيعطيهم الشهرة
التي يريدون.
بعد أن نطقت السينما:
ومع اكتشاف السينما الناطقة عام 1929، بدا
التردد الأمريكي والخوف واضحاً لدى المنتجين، من حرمان هوليوود من تواجدها
الخارجي، هذا التردد الذي كان اقتصاديا في الأساس وليس تقنياً. فاتجهت
هوليوود لإنتاج الأفلام الغنائية والاستعراضية، التي أخذت نصيباً من
النجاح، في محاولة يائسة لتجاوز هذه الأزمة، إلا أن أرقام الإنتاج بدأت في
التناقص. فبعد أن كانت السينما الأمريكية تنتج ما يقارب الألف فيلم في
العام الواحد، بدأ الرقم يتناقص إلى النصف بعد ظهور السينما الناطقة.
هذا النقص في الأفلام الأمريكية، قابله
نشاط إنتاجي في الدول الأوروبية التي احتكرت فيها أمريكا صالات العرض أيام
السينما الصامتة. حيث بدأت جماهير تلك الدول تطالب بأفلام تتكلم لغتها. وقد
نجحت هوليوود في تجاوز هذا الإشكال من خلال دبلجة الأفلام باللغات الأخرى،
وإيجاد حلول أخرى، حيث لم يكن من الصعب على صناع الفيلم الأمريكي، إيجاد
حلول لأية أزمة تعترض طريق تدفق ثرواتهم على مدى تاريخ هذه السينما العتيق،
لهذا نحن ما نزال نعيش في زمن السينما الأمريكية.
نتائج:
السينما الأميركية سينما عريقة بكل
المقاييس، لذا نتوقع أن يكون نقاشنا ساخناً بعد نقاط نوجزها في التالي:
·
يجب أن تكون للسينما عجلات إنتاج ومصانع وسوق، وعرض وطلب.
وهذا قبل أن نهتم بقضية الموضوع أو الأفكار، هذا إذا أردنا أن تكون هناك
سينما حقيقية. فالإنتاج أو رأس المال، في مجال السينما، لابد أن يأخذ على
عاتقه التعامل مع السينما كصناعة أولاً، قبل أن يتعامل معها كتجارة أو كفن.
·
إن وجود صالات العرض مسألة ضرورية لنجاح أي سينما، وأي عجلة
إنتاج، لابد لها من سوق للتوزيع والتسويق. وهذا ما عرفناه عن السينما
الأمريكية منذ بدأت، حيث أخذت على عاتقها، تكوين بنية أساسية، من معامل
وورش ومختبرات، مسخرة تطور التكنلوجيا لمصلحة السينما وخدمتها.. وقبل كل
هذا، كانت هناك صالات العرض السينمائي، التي ـ من كثرتها ـ تستطيع أن تغطي
مصاريف الفيلم، بل وتأتي بالأرباح الخيالية للمنتج في أمريكا فقط، فكيف
بتلك الأرباح الخيالية على مستوى العالم. وهو الأمر الذي جعل من السينما
الأمريكية سينما مستقلة بذاتها، بمعنى أنها لا تعتمد تماماً على عروض
الأفلام الخارجية.
·
إزدهار فن كتابة السيناريو.. فالسينما الأمريكية فتحت
المجال لتناول مواضيع جديدة ومبتكرة، وأعطت حرية كاملة لكاتب السيناريو في
تناول مواضيع متنوعة، مهما كانت الصعوبة في تنفيذها.. فقد اعتمدت على الورش
والمعامل التي تقدم الجديد دائما في مجال الابتكار التقني.
·
السينما كاستثمار تحقق أرباحاً خيالية إذا آمن بها المنتج،
فالمغامرون من المنتجين في السينما الأمريكية، لم ولن يبخلوا على أفلامهم
بشيء.. إذ رصدوا ميزانيات بأرقام فلكية.. لأنهم يعلمون جيداً بأن ثمة
أرباحاً طائلة ستجنيها أفلامهم.
·
السينما لديها ملكات الإنتشار بدون الإعتماد على اللغة
السائدة في العالم، فالإنتشار الذي صاحب مسيرة السينما الأميركية، كان
بمعزل عن اللغة، حيث كانت السينما صامتة.. فالفن الجيد مهما تكن لغته سيحضى
باهتمام العالم.
·
أرى بأن أي مقياس لأي تجربة أو تيار سينمائي في العالم، لا
يجب أن يكون عرضة للمقارنة بمثله في السينما الأمريكية.. فهكذا مقارنة ليست
في صالح الجميع، باعتبار أن أدوات التقييم أو المقارنة في كلا الطرفين غير
متوازية.
ولكم الشكر جميعاً |