تقديم:
مساء
الخير جميعاً..
معنا
الليلة نجمين من نجوم السينما العربية.. الأول هو فيلم "طيارة من ورق"
للمخرجة رندة الشهال.. والنجم الثاني هو الناقد السينمائي الراحل غسان عبدالخالق.
"طيارة
من ورق".. هو الفيلم العربي الأول الذي يفوز بجائزة الأسد الفضي في مهرجان
البندقية الدولي.. أعرق مهرجانات العالم أجمع.. كما أنه كان فيلم الإفتتاح
لمهرجان قرطاج الدولي عام 2004.
وغسان عبدالخالق.. المناضل في أروقة الصالات العربية والأجنبية.. وشهيد
اللامبالاة العربية تجاه الطاقات الإبداعية الخلاقة.
وهي
مناسبة لتقديم هذا الناقد العربي الذي خسرته الثقافة السينمائية العربية عند
رحيله عن عالمنا إثر سكتة قلبية مفاجأة.
غسان
عبدالخالق.. مذيع ومحلل أخباري في محطة مونتي كارلو.. وناقد سينمائي نشط..
ساهم مع بداية الثمانينات من القرن الماضي في تأسيس أول مهرجان للسينما
العربية في فرنسا.. وعقد منه عدة دورات.. ليصبح فيما بعد أشهر مهرجان عربي
في أوروبا، ومن ثم تبناه معهد العالم العربي في باريس، بعدما استبعد
عبدالخالق لأسباب غير معروفة.. ما ترك
لديه
مرارة, لم يهدئ منها إلا تأسيسه بعد ذلك بعقدين من الزمن
أول
لقاء سينمائي حقيقي في المغرب ضمن إطار موسم أصيلة الثقافي.. من خلال ندوات
ومحاضرات كبداية.. وتبعها في العام الذي سبق وفاته بملتقى أصيلة لسينما
الجنوب.. الذي استقبل أفلام من كافة بلاد العالم الثالث.. من الصين
واليابان إلى أمريكا الجنوبية وأفريقيا.
هذه
الليلة.. سنكون أمام أحد كتابات غسان عبدالخالق النادرة.. حيث أنه كان قليل
الكتابة إلى درجة أنه حينما طلب منه الناقد سمير فريد أن يجمع مقالاته
ليصدرها له في كتاب، تنبه إلى أن كل ما كتبه عن السينما كان مقالات شفوية
بثت عبر موجات "مونتي كارلو"، وتبخرت في الهواء.. بالرغم من أنه كان الأنشط
من بين النقاد العرب إهتماماً بالسينما.
حسن
حداد
في
18.07.2006
"طيارة من ورق"...
روح
البراءة تقمصت الحب
في عالم الاحتلال والأسلاك الشائكة
غسان عبدالخالق
"الأسد
الفضي" الجائزة الكبرى للجنة التحكيم هو المكافأة التي نالها الفيلم
اللبناني "طيارة من ورق" للمخرجة رندة الشهال صباغ في الدورة الستين
لمهرجان البندقية السينمائي الدولي. هذه النتيجة تستحق التوقف عندها لأنها
المرة الأولى التي يفوز فيها فيلم عربي بجائزة بهذا الحجم في مهرجان
البندقية، أقدم المهرجانات السينمائية في العالم.
كذلك لأن فيلم "طيارة من ورق" هو في العمق فيلم سياسي يتناول
موضوع الاحتلال الاسرائيلي لأرض عربية والتأثير الذي يتركه الاحتلال في
السكان على جانبي الحدود. وبقدر ما أن الفيلم سياسي في إطاره العام بقدر ما
هو إنساني في تناوله للعلاقات القائمة بين الناس، وبالتالي فإن فوزه في
الظروف الحالية التي تعيشها المنطقة يعني في ما يعنيه، أن النظرة الانسانية
العميقة لمعنى الاحتلال أخذت تطغى على النظرة السابقة للتوازنات السياسية
التي كان يتم التعاطي من خلالها مع موضوع العلاقات العربية - الاسرائيلية.
الحب خارج
الشعارات
يبقى أن السينما في أسلوبها الشاعري وبساطة تعبيرها عن الحب
خارج كل الشعارات وخارج أساليب التعبير المعقدة بدت أكثر سهولة في الدخول
الى قلوب المشاهدين وعقولهم سواء أكانوا من الجمهور أم من النقاد أم من
لجنة التحكيم الدولية المتعددة المشارب والتيارات.
كل هذه المؤشرات قد تبدو وكأنها دوران حول الموضوع قبل الدخول
الى تلابيب الفيلم ، وهذا صحيح، لكن هذه الانطباعات الأولى ربما تكون هي
الانطباعات التي وصلت الى الجمهور الأوروبي قبل أن يتعرف الى تفاصيل الفيلم
الذي قدمته المخرجة اللبنانية.
ذلك أن الجمهور الأوروبي لا يعرف في الحقيقة الشيء الكثير عن
طائفة الموحدين الدروز التي تناولتها المخرجة في فيلمها، وربما اختلط عليه
الأمر بين ما قد يكون قد شاهده، ربما، على الشاشات الصغيرة - من حوارات
بمكبرات الصوت بين أهالي الجولان السوري المحتل وبين الأهالي في المنطقة
التي يتناولها الفيلم. فانتقال الحيز الجغرافي لم يغير في الحقيقة الشيء
الكثير في ما تلقاه المشاهد، لأن لب الموضوع لا يزال هو نفسه، أي الاحتلال.
أما في ما يتعلق بموضوع الموحدين الدروز فالنقطة المهمة التي
وصلت للمشاهد كانت أن أبناء هذه الطائفة يخضعون للخدمة العسكرية الاجبارية
من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وأن هذه السلطات تريد أن تجعل منهم مواطنين
في دولتها في مواجهة أهلهم وأخوتهم وأبناء عمومتهم في الجهة الأخرى الذين
يقول عنهم الضابط الاسرائيلي في الفيلم أنهم "الأعداء"، غير أن هذه السلطة
المحتلة تقف عاجزة أمام الحال الاجتماعية النابعة من التقاليد ومن الأعراف
المتأصلة التي تفرض زواج القربى ومن داخل الطائفة لأن العكس يعني الخروج من
الطائفة وخصوصاً بالنسبة الى الفتيات.
واجب
عسكري
من خلال هذه الحال السوسيولوجية المترافقة مع الحال السياسية
المتمثلة بالاحتلال، وضعت رندة الشهال صباغ يدها على الحال الانسانية التي
ربطتها بقضية رفض الزواج الاجباري والحب الذي يتجاوز الحدود والمعوقات خارج
الأطر المرسومة للفتاة، فكيف إذا كان المحبوب مجنداً اسرائيلياً ولو أنه من
الطائفة نفسها. وهو المجند الواقف على برج المراقبة الحدودي يراقب ويسجل كل
شاردة وواردة، وبالتالي فهو يعرف كل شيء عن أهل المنطقة رجالاً ونساء
وأطفالاً، ليس لأنه منهم فحسب، بل لأن من واجبه العسكري أن يسجل كل
الأحاديث المتبادلة بمكبرات الصوت بين أهالي البلدات التي تفصلها الحدود
المحتلة.
وهكذا تعرف المجند الشاب الى لميا الشابة بنت السادسة عشرة
التي لا تزال تتابع دروسها ولا تعرف عن الزواج الشيء الكثير غير ما تخبرها
بها صديقتها في المدرسة. ولميا التي لا تزال أيضاً مغرمة باللعب مع شقيقها
الصغير بالطيارات الورقية تخاطر في المشهد الأول من الفيلم بالدخول الى
المنطقة الملغومة والمحظورة لإنقاذ طائرتها الورقية التي رمتها الريح فوق
الأسلاك الشائكة وكل ذلك تحت أنظار المجند الشاب الذي يصرخ لإنقاذها من
الألغام ومن الرصاص بعد عبورها المنطقة المحرمة.
وهكذا تضع المخرجة منذ المشاهد الأولى الشخصيات الرئيسة
لفيلمها وطبيعة تصرف هذه الشخصيات سواء من خلال حرص المجند الإسرائيلي
العربي على الفتاة العربية من الطرف الآخر وأيضاً من خلال شجاعة لميا
وركوبها المخاطر غير عابئة بالنتائج، وأخيراً طبيعة العلاقة التي تربطها
بشقيقها الصغير وهي علاقة تحمل الكثير من المشاعر الأخوية العميقة مثلما
تحمل الدلالة على أن لميا على رغم نضوجها الجسدي لا تزال تقاوم طفولة طاغية
في سلوكها. وقد ساعدت المشاهد التي قدمتها المخرجة عن هذه العلاقة الأخوية
سواء من خلال موقف الأخ الصغير من زواج الأخت وما يعنيه ذلك من رحيلها
النهائي الى المنطقة التي لا يمكن للأخ الوصول اليها لاحقاً، أم من خلال
المشاهد المليئة بالشاعرية لتمشيط الأخ الصغير لشعر أخته وكيف بقي يحتفظ
بالفرشاة قرب فراشه بعد رحيلها، وهي مشاهد أسهمت بإعطاء الفيلم شحنة كبيرة
من الأحاسيس التي تمس المشاهدين لعمق براءتها وطفولتها.
هذه الطفولة هي لسان حال البراءة في الفيلم من خلال حوارات
الأطفال سواء في المنطقة المحتلة أم خارجها، وكأن هذا الحضور يشكل
استمراراً أو تأكيداً للبراءة التي تحملها لميا، وبالتالي يعطيها هذه الصفة
التي تبعدها عن عالم الكبار وعن كل خلفية قد تحيط بشخصيتها غير خلفية
المشاعر الصادقة المفتوحة على الحياة كصفحة بيضاء.
وللرجال
قرارهم
غير ان
مرحلة النضج أو على الأقل بداية التفكير باللحاق بركب الكبار تبدأ مع
القرار العائــلي - وهـو قرار الرجال في الفيلم - بأن تتزوج لميا من أحد
أقربائها في المنطقة الواقعة تحت الاحتلال الاسرائيلي، وهنا تترافق مرحلة
التحضيرات والترتيبات لهذا الزواج بالصورة التي تركها الاحتــلال عــلى
علاقــات الأفـراد على جانبي الحدود وكيف تتحول القرارات المغلقـة والتي من
المفترض أن تبقى قرارات عائلية خاصة، إلى أخبار عامة من خلال تناقلها عبر
مكبرات الصوت - وهـي الوسيلة الوحيدة للتواصل - في ظل الاحتلال وتصبح
الخصوصيات العائلية مشاعاً لكل السامعين بمن فيهم جنود الاحتلال الذين
يسجلون كل كلمة متبادلة.
هذه المرحلة تقلق الفتاة الشابة بسبب العالمين الجديدين اللذين
ستدخل اليهما: عالم الزواج من جهة وعالم الاحتلال من جهة ثانية. وتقلق
المجند الاسرائيلي العربي لأن الفتاة التي سلبت عقله ستأتي الى منطقته ولكن
لتكون زوجة لشاب آخر.
هذا الحب عن بعد لدى المجند الشاب يساويه حب آخر يعبر عنه مجند
قديم من الطائفة نفسها لا يزال يعيش حال حب قديمة متجددة مع جميلة التي
بقيت في الناحية الأخرى من الحدود، هذا الجندي الفيلسوف يقوم بدوره باقتدار
زياد الرحباني الذي يعود اليه الفضل في إضفاء ايقاع رائع من الموسيقى
التصويرية للفيلم مثلما يعود اليه الفضل في اعطاء الحوارات الخاصة به بعداً
عميقاً للأحداث التي تجرى أمام عينيه ويعلق عليها بسخريته المرة والسوداء.
في خضم هذا كله يكتسب معنى العبور من أجل الزواج من منطقة حرة
الى أخرى محتلة، معنى الاغتراب داخل الأرض وبين العائلة نفسها ما يضفي
عليها صفة المأسوية التي وإن غطت عليها "مناديل" الوجوه عند النساء ووثوق
النظرة والمشية عند الرجال فانها كانت شيئاً آخر لدى الشقيق الصغير الذي
تشبث بفستان العرس لأخته لأنه يعلم أن الذهاب يعني اللاعودة.
هذا العبور استثنائي لأن الأسلاك الشائكة على الحدود تمنع مرور
وعبور كل شيء بما في ذلك الطيارة الورقية، لكن مرور الفتاة للزواج مسموح به
مثله مثل مرور الجثامين لدفن أصحابها في مدافنهم التي فصلها احتلال الأرض.
وقد استخدمت المخرجة التصوير البطيء وتعرية ألوان الصورة لأعطاء هذه
المشاهد بعداً درامياً كان يحمل في طياته الايحاء بأن الآتي ليس وردياً وأن
هذا العبور في الفرح يخفي عبوراً آخر لا يحمل غير الحزن والمأساة.
الجواب
الصامت
وبالفعل ما أن وصلت الفتاة الى المنطقة المحتلة حتى تمنعت عن
زوجها والتزمت الصمت عدا عن تعبيرها الواضح له بأنها لا تريده ولا تحبه ولا
تنوي العيش معه، لكنها في الوقت نفسه لا تنوي العودة الى منطقتها لأن قلبها
بات متعلقاً بالشاب المجند الواقف على برج المراقبة يشاهدها تسرح في الحقول
عارضة جمالها وفتنتها، غير عابئة بالحياة الجديدة التي تكتشفها في الناحية
الأخرى وهي حياة بدا أن كل ما يهمها منها هي تلك النظرات الحالمة التي
تسرقها من المجند الشاب الذي باتت تفكر من أجل البقاء الى جانبه برفض
العودة الى قريتها. عدم العودة الذي يمكن البعض أن يفسره خطأ بشكل سلبي لم
يكن بسبب قبول الاحتلال أو شكل الحياة الجديدة تحت الاحتلال بقدر ما هو
تعبير عن قوة العاطفة البريئة التي ربطتها بالشاب المجند الذي أحبته عن بعد
متمردة بذلك على سلطة الأهل وعلى سلطة الاحتلال التي كانت السبب في هذا
الفصل بين الطرفين.
انها هي السلطة التي نراها في الفيلم تحاول قضم أراض جديدة ما
أعطى بعض الأمل لأهل القرية بإمكان رؤيتهم للميا من جديد، غير أن انتهاء
محاولة الضم يعيد الأمور الى حالها السابقة.
لكن العودة الى القرية ليست سهلة فالعائد يمثل القبول
بالاحتلال وهو ما يرفضه أهل القرية الذين يتخذ بعضهم موقفاً من الفتاة
وأهلها لا يمر من دون صعوبات تُحل على الطريقة المحلية.
الفيلم الذي يسير على ايقاع يحمل الكثير من الشاعرية ومن
التغلغل الى شغاف القلب، يتناول من دون شعارات موضوع الاحتلال ومساوئه ويضع
الأصبع على جرح الحدود التي تجرح الأرض والبشر أسلاكها الشائكة. لذلك جاءت
صورة الطيارة الورقية التي أخذت تحوم فوق برج مراقبة المجند في اللحظة التي
عبرت فيها لميا هذه الأسلاك مارة فوق الأرض المزروعة بالألغام وكأنها روح
الفتاة تحوم حول الشاب الذي أحبته والذي يمكنها أن تضع حياتها على شفا
الموت من أجله مثلما يمكن له أن يفعل الشيء نفسه مخاطراً بترك موقعه
والتعرض لرصاص الجنود الآخرين من جيش الاحتلال.
"طيارة من ورق" لرندة الشهال صباغ، فيلم يستحق التقدير الذي
حاز عليه في مهرجان البندقية ليس فقط بسبب موضوعه الذي يدعو من دون تنازلات
الى السلام - وهي دعوة لم يكن الجمهور الغربي متعوداً على رؤيتها في
أفلامنا العربية - وانما لأنه أيضاً يحمل نضجاً سينمائياً بإيقاعه وتصويره
ومونتاجه وأداء ممثليه الرائع.
|