حسن حداد عاشق حقيقي للسينما.
مخلص ووفيّ، منذ أن عرفته صغيراً، لا شروط لديه في حب السينما. من يحب لا يشترط،
ولا ينتقي، ولا يفرز، ولا يقارن، ولا يستبعد. قد يحدث هذا في مرحلة التقييم
والتفضيل، أو عند التحليل والنقد، أو عند التحكيم، أي في مرحلة ما بعد المشاهدة.
هو مدمن على مشاهدة الأفلام، بكل أنواعها وجنسياتها، القديمة والجديدة، العظيمة
والعادية. مغرم بها. وقد ترجم ولعه بالأفلام إلى محاولة الكتابة عنها، في وقت
مبكّر. كل من يحب السينما، تستبدّ به فكرة الكتابة عنها.. تماماً مثل العاشق الذي
يهيم بفكرة الكتابة إلى، وعن، معشوقته.
كل كتابة عن فيلم هي رسالة حب موجّهة إلى الفيلم وإلى صانعيه.. أو هكذا ينبغي أن
تكون الكتابة.
وحسن حداد لم يكتفِ بالمشاهدة فحسب، بل كتب عن الأفلام، وانغمس في ذلك حتى صار
مدراء تحرير الصحف والمجلات يستعينون به في تحرير الصفحات السينمائية.
ولم يكتفِ بالمشاهدة والكتابة فحسب، بل أراد أن يحتفظ بكل ما يُكتب عن الأفلام
والمخرجين والممثلين، وبقية العناصر الفنية المشاركة في صنع الأفلام، إضافة إلى
الدراسات النقدية والتحليلية، والمقالات الانطباعية، والمقابلات والشهادات
والأخبار.
بدأب وصبر ومثابرة، كان يجمع الأوراق والقصاصات، ويحتفظ بها في ملفات كبيرة، مصنّفة
بدقة ووضوح، لتتراكم مع الوقت، وتصبح أعداداً هائلة.
هكذا كان دأبه لسنوات طويلة. كرّس نفسه ووقته وجهوده في إنشاء وتكوين هذا الأرشيف
الخاص، الضخم، المتعدّد والمتنوّع، والذي لم يبخل به على أي شخص يرغب في الاستفادة
منه.
كلما احتجنا إلى معلومة أو مادة سينمائية، تكون مصدراً ومرجعاً وعوناً لنا، في
بحوثنا ودراساتنا وتحقيقاتنا، طرقنا بابه الذي ينفتح مرحّباً، ليسعفنا أرشيفه
فيزوّدنا، بكل سخاء وودّ، بما ينقصنا، وبما نحتاجه. وأنت تتصفّح، ستجد معظم الصفحات
الثقافية والفنية، التابعة للجرائد والمجلات العربية والمحلية، محفوظة ومرتّبة هنا
بعناية وحرص.
عندما دخل حسن حداد عالم الكومبيوتر، وجد ما لا يُحصى من إمكانيات وخيارات، ودقة لا
متناهية في الحفظ والتخزين. صار بوسعه، وفي أوقات وجيزة وسريعة، أن يطوّر أرشيفه..
ليس كمياً ونوعياً فحسب، بل أيضاً جمالياً. المئات من الملفات الضخمة يمكن
اختزالها، بضغطة من طرف اصبعه على المفتاح، إلى ملف إليكتروني قابل لأن يختزن ما
لا يُعد من وثائق ومخطوطات ومعلومات ثريّة ومتنوعة.
هكذا تحوّل الأرشيف إلى موقع إليكتروني خاص سمّاه "سينماتك"، فيه يجد المتصفح معظم
ما يُنشر في المطبوعات السينمائية، والثقافية الأخرى، من دراسات وبحوث ولقاءات
وأخبار وغير ذلك من المواد السينمائية المهمة والمفيدة.
هذا الموقع يحرّره ويديره وينظمه ويشرف عليه حسن حداد وحده، لكن من يطالع الموقع
يحسب أن هناك فريقاً كاملاً من المحررين والفنيين يتولون مهمة الاعتناء بالموقع
وتفعيله وإخراجه بالشكل اللائق والمريح. وقد لا يصدّق أن فرداً واحداً لديه كل هذا
الاستعداد لتكريس جلّ وقته، وبذل كل طاقاته وجهوده، من أجل استمرار الموقع في
العطاء والتأثير، من دون أن ينتظر تكريماً أو دعماً من أية جهة. تكفيه إشادات
ومدائح المتابعين له، والذين يدركون مدى قيمة وأهمية ما يفعل.
ومثلما لم يخذلنا وقتما كان الأرشيف في شكله البدئي، كذلك لم يوصد أبوابه في وجوهنا
وقتما نما موقعه واشتدّ عوده واكتسب حضوره الفاتن بين المواقع السينمائية المنتشرة
والمتعدّدة. لقد وجّه الدعوة لعدد من كتّاب السينما كي يحلّوا ضيوفاً على الموقع،
وخصّص لكل منهم حيّزاً خاصاً ينشر فيه كل مواده السينمائية، بلا قيد ولا شرط. صار
الأرشيف يتناسل ويتعدّد في هذا الفضاء الشاسع.
الأرشيف حفظ للماضي، وصون للذاكرة.
ولع حسن حداد بالأرشفة والحفظ، ومحاولته المستمرة لشحذ الذاكرة، حتى لا يغلب
النسيان شظيةً من هذه الذاكرة، جعلته يلجأ إلى حفظ الأفلام التي شاهدها، وأعجب بها
وتفاعل معها، في هيئة كتاب، أو بالأحرى كتاب في ثلاثة أجزاء، نظراً لضخامة عدد
الأفلام التي تناولها بالتحليل والنقد، ووضع للكتاب عنواناً ذا مغزى يتصل بالحفظ
والصون، هو "أفلام لا تغادر الذاكرة".
من العنوان ندرك رغبة المؤلف في أن تبقى الأفلام، المقدّمة بين طيّات الكتاب، ضمن
تخوم الذاكرة والتذكّر والتداول، مثلما كان يرغب في حفظ المعلومات والمواد داخل
حدود الأرشيف لئلا ينال منها غبار النسيان والعدم.
من هنا جاء تركيزي، في هذا التقديم، على الأرشيف، وعلى تغليب حسن حداد مظهر
التذكّر على النسيان، الحفظ على التشتت، ما هو ظاهر على ما هو كامن. |