نجيب
محفوظ والسينما.. عنوان لابد أن يطرح في مثل هذا الوقت.. وقت رحيل هذا
العملاق عن عالمنا تاركاً وراءه كماً زاخراً من الأدب والسينما.. قصص
وروايات وأفلام، وملأ دنيانا العربية بحالات من الفرح والحزن والجدل، إن
كان هذا من خلال أعماله الأدبية والسينمائية الزاخرة بالشخصيات المتنوعة..
أو من خلال حياته الخاصة.. فرحاً عندما حصل على نوبل للآداب، وحزناً عند
محاولة اغتياله.
ونحن هنا في هذا الحيز البسيط.. لابد
لنا من التحدث عن محفوظ في السينما.. فإسهامات هذا العملاق في السينما،
لا يجاريه فيها أحد.. فبالإضافة إلى قيامه بالكتابة مباشرة للسينما، في
بداية رحلته مع السينما، وكتابته للسيناريو عن أعمال أدبية لآخرين..
كانت رواياته قد ملئت الشاشة العربية، وتحولت أهما إلى السينما بواسطة
مخرجين كثر، عرب وأجانب، نجح العدد القليل منها في تقديم فكر وأدب نجيب
محفوظ للمتفرج العربي والعالمي بشكل واضح.
هنا يمكننا تقسيم تجربة محفوظ في
السينما إلى مرحلتين.. الأولى عندما بدأت مساهماته مع الراحل صلاح
أبوسيف، رائد الواقعية في السينما المصرية، الذي نجح في تحفيز محفوظ
على الدخول في تجربة كتابة السيناريو من خلال كتابته لسيناريو لفيلم
(المنتقم) عام 1948.. وبعدها مع أبوسيف وغيره من المخرجين في أفلام مثل
(لك يوم يا ظالم، ريا وسكينة، الوحش، شباب امرأة، الفتوة، أنا حرة، بين
السماء والأرض، جعلوني مجرماً، فتوات الحسينية، درب المهابيل، الطريق
المسدود، إحنا التلامذة).. وهي مرحلة سينمائية نجح فيها محفوظ مع مخرجي
هذه الأفلام في تغيير خارطة السينما، وإعطائها منحى واقعي شعبي.. اتسم
بالصدق في التعامل مع الأحداث والشخصيات المطروحة.. وكانت أفلام أبوسيف
مثالاً خالصاً لإثبات ذلك.. ليكون محفوظ مكسباً حقيقياً للسينما
المصرية.
عندما يتحدث صلاح أبوسيف عن تجربته مع
محفوظ، يستطرد ويصفها بأنها متعة خاصة، حين يقول: (...ذلك إن علاقتي مع
محفوظ بدأت مع بدايات محفوظ نفسه ككاتب واقعي بعد خروجه من مرحلة
الرواية التاريخية. التقيت محفوظ للمرة الأولى في العام 1945 بعدما كنت
سمعت باسمه كثيراً من أصدقاء كثر لم يكن الواحد منهم يخفي إعجابه به
وبكتاباته. ولقد انضممت بدوري إلى نادي المعجبين به حين حصلت على
رواياته الأولى وقرأتها. ومنذ لقائنا الأول الذي كان ودياً في شكل مدهش
أبلغته إعجابي بأدبه، وقلت له – في طريقي – إنني أعتبره فناناً
سينمائياً بالسليقة، ذلك لأن كتابته كتابة بصرية بالصور. وسألته فجأة:
لماذا لا تكتب للسينما أستاذ نجيب؟ فوجئ الرجل بسؤالي وبدا عليه أن
الأمر كله يقف خارج اهتمامه وسألني مستنكراً: كيف أكتب للسينما وأنا لا
أفهم شيئاً بالنسبة إلى هذه الكتابة؟ قلت له إن مخيلته تبدو وكأنها
خلقت للعمل السينمائي. فابتسم وقد اعتقد – كما سيخبرني لاحقاً – بأن
الأمر لا يعدو أن يكون حديثاً عابراً. أما أنا فكنت عند كلامي. إذ قررت
ألا أترك تلك الإمكانية المتاحة للعثور على كاتب سيناريو حقيقي، تفلت
من يدي. وهكذا ما إن التقيت به في المرة الثانية، حتى أعطيته مجموعة من
الكتب الأجنبية المتحدثة عن فن كتابة السيناريو...).
أما المرحلة الثانية في تجربة محفوظ،
فهي التي شملت الأفلام المأخوذة عن رواياته المنشورة.. فعندما بدأ
المخرجين بالتصدي لرواياته، رفض رفضاً قاطعاً كتابة السيناريو لها، حتى
مع صلاح أبوسيف نفسه.. وذلك عندما طلب منه أن يكتب السيناريو لرواية
(بداية ونهاية).. بعدها بدأت روايات محفوظ تغزو السينما وتفتح أبواباً
رحبة كانت موصدة بالتعامل مع الأدب الروائي.. فجاءت أفلام (اللص
والكلاب، زقاق المدق، بين القصرين، الطريق، خان الخليلي، القاهرة 30،
قصر الشوق، السمان والخريف، ميرامار، السراب، ثرثرة فوق النيل،
السكرية) وانتهاء بـ (الشحات، الحب تحت المطر، الكرنك، الجوع، أهل
القمة، الحب فوق هضبة الهرم، قلب الليل).. وما ذكرناه هنا يمثل فقط
أفضل ما قدم عن أدب نجيب محفوظ.. حيث أن هناك الكثير من الأفلام التي
شوهت العمل الروائي الأصلي، بل وقدمت فكراً، ربما يتناقض وما رآه محفوظ
نفسه.
ما قدم في السينما المصرية على وجه
الخصوص، من أدب نجيب محفوظ، يشكل زخماً ضخماً، يفوق ما قدم عن أدب
الآخرين مجتمعين، وهذا بالطبع قد ساهم بشكل كبير في تغيير خريطة هذه
السينما وإعطائها تلك الصبغة الأدبية. فكان هناك نحو عشرين رواية من
روايات محفوظ اقتبست في قرابة سبعة وعشرين فيلماً سينمائياً (من بينها
سبعة أفلام اقتبست عن "الحرافيش" واثنان عن "الطريق") إلى نحو تسعة
أفلام مأخوذة عن قصصه الصغيرة. وإذا أضفنا إليها ما يزيد على خمسة
وعشرين فيلماً كتب ـ أو شارك في كتابته ـ للسيناريو أو القصة
السينمائية.. فإننا نكتشف المساهمة الفعالة لمحفوظ الأديب والسينمائي
الحرفي في تاريخ صناعة السينما المصرية.
هنا.. يأتي التساؤل.. لماذا هذا
الإقبال على تحويل أدب محفوظ بالذات إلى الشاشة..؟! وهكذا سؤال يجعلنا
نبحث في أسباب هذا الإقبال الاستثنائي.. وهي بالطبع أسباب كثيرة
ومتعددة الأوجه.. أهمها ذلك الاهتمام من نجيب محفوظ نفسه لتصوير البيئة
الشعبية وتقديم شخصيات واقعية والطرح الاجتماعي النقدي ودقة السرد
وتفصيل الأحداث.
ومما لاشك فيه بأن هذا التوجه الملحوظ
من السينما لأدب محفوظ قد تزامن مع صعود تيار الواقعية في السينما
المصرية.. حيث وجد صناع هذه الأفلام عالماً مليئاً بالأحداث والشخصيات
الواقعية في معالجات محفوظ، إن كان من خلال موضوعاته التي تمحورت حول
الظلم الاجتماعي والتمرد الفردي وعلاقة الحاكم بالمحكوم وصراع الأجيال،
أو من خلال موضوعات نابعة من الحياة اليومية للمجتمع والفرد.. إلا أن
الأهم في أدب محفوظ بالنسبة لهؤلاء هو ذلك العنصر المرئي وذلك التوصيف
والتصوير البصري التفصيلي والدقيق للمكان والشخصيات. فمحفوظ في سرده
الروائي لم يترك تفصيلا من دون تصويره، مقدماً كماً هائلاً من
الانفعالات والملامح النفسية للشخصية، هذا إضافة إلى قدرته الكتابية
على الإيحاء بالأحداث وفقاً لصور ومشاهد متسلسلة ثرية بالتفاصيل
الداخلية، لدرجة تحديده لزاوية النظر حين السرد.. وهذا بالطبع ما يحتاج
إليه السينمائي لملء حيز الشاشة وتفاصيل الكادر.
الملاحظة الأخيرة التي سيصل إليها أي
متابع لمشوار محفوظ مع السينما، هي أنه بالرغم من كتابته للسيناريو
مباشرة للسينما، إلا أنه لم يكتبه لأي من رواياته.. ولم يقم باقتباس أي
منها للسينما، فما كتبه للأدب ظل للأدب، وما كتبه للسينما لم ينشره في
كتب.. هذا بالرغم من محاولات الكثيرين في ترغيبه لأن يفعل ذلك.
هامش:
ارتباط اسم نجيب محفوظ بمعظم أفلام صلاح أبو سيف، ليعتبر تجانساً
أدبياً وفنياً واقعياً، أثمر أفلاماً سينمائية متميزة وقوية في
المضمون الدرامي والتكنيك الفني. فالاثنان رائدان كبيران للواقعية،
كل في مجاله. وقد عمل الإثنين في أفلام كثيرة ليكونا ثنائياً فنياً
ناجحاً. فقدما مع بعض: المنتقم (سيناريو)، مغامرات عنتر وعبلة
(سيناريو)، لك يوم يا ظالم (سيناريو)، ريا وسكينة (سيناريو)، الوحش
(سيناريو)، شباب امرأة (سيناريو)، الفتوة (سيناريو)، الطريق
المسدود (سيناريو)، أنا حرة (سيناريو)، بين السماء والأرض (قصة)،
بداية ونهاية (رواية منشورة)، القاهرة 30 (رواية منشورة)، شيء من
العذاب (قصة)، المجرم (سيناريو).
|