بدأ المخرج أتنبرو في الإعداد لفيلمه (صرخة الحرية)، مباشرة بعد
إنتهائه من فيلمه (غاندي). وذلك بعد
أن بدأ هاجس التفكير يجنح به الى محاولة العودة لموضوعه المؤجل،
والذي كان يشغل
باله دائماً. موضوعه هو قضية »الصرخة« والصراع من أجلها، وهل
يذهب به التفكير الى
أمريكا الجنوبية أم أفريقيا الجنوبية. ففي أثناء إنشغاله بفيلم (خط
الكورس)، الذي
قدم فيه معالجة سينمائية لمسرحية موسيقية، يصله كتاب الصحفي وودز
عن ستيف بيكو، وكان قد سمع عن وودز وعن سمعته الطيبة التي طارت
قبله الى أوربا وكل العالم. وبعد قرائته للكتاب، حرص على قراءة
كتابه الآخر »البحث عن المتاعب«، ومن ثم إلتقى
بهذا الصحفي وإقترح عليه أن يقدم فيلماً عن الصراع من أجل
الحرية، عبر محتويات
الكتابين اللذين يتعرضان لملحمة نضال بيكو وشعبه في جنوب أفريقيا.
وقد كان لدى
أتنبرو إقتناع بضرورة تبنيه لهذا النبض الراهن للحياة هناك، ولكي
يلتقي بنفسه مع
القيادات التي تحارب العنصرية
.
تبدأ زيارة المخرج الى جنوب أفريقيا في يناير
1984
حيث حاول قدر الإمكان أن يبعد رحلته عن الأضواء وعن إهتمام الصحافة.
فبدأ
بزيارة بعض الأصدقاء هناك لعدة أيام، بعدها سافر الى سويتو، ومنها
الى كيب تون،
حيث نزل في فندق إلتزم في الحذر الذي يبعده عن أية مواجهة مع
السلطات العنصرية .
لقد كان أتنبرو حريصاً، في رحلته هذه، على لقاء صديق الصحفي وودز
ومع زعيم
الحزب الفيدرالي التقدمي الذي كان يكافح العنصرية ويتصدى لأتباعها
داخل البرلمان
وخارجه. وعندما إنتشر خبر وجود المخرج هناك، جاءت الصحافة
تسأله عن سبب الزيارة،
فأجابها دون أن يشير الى حقيقة مقصده، مصرحاً بأن زيارته هذه خاصة
وليس لها دوافع
فنية. بعدها واصل لقاءاته مع معارف وأنصار الصحفي. هذا بالرغم من
أن الصحافة لم
تتركه وشأنه، وإتهمته بعض الصحف الموالية للحكومة العنصرية، بأنه
يقدم عملاً
تليفزيونياً عن الزعيم نيلسون مانديلا. بعدها، يتحرك ركب
المخرج بعيداً الى شمال
جنوب أفريقيا، فيلتقي مع بعض أصدقاء بيكو
.
ومن الطبيعي، من أن المخرج أتنبرو
لم يسلم هو وعائلته من مضايقات بعض العنصريين البيض ومطاردتهم
لسيارته. ولم يطمئن
تماماً إلا بعد وصوله الى المطار ليستقل طائرة الى لندن. وفي أثناء
عودته بالطائرة
وهي تحلق فوق زيمبابوي المجاورة يقرر أن يستفيد من ذلك التشابه
بين الدولتين في تصوير أحداث فيلمه. وفعلاً يتحقق ما أراد وينجح
الفيلم وتصبح صرخته بمثابة نداء
الى ضمير الإنسانية في كل مكان .
وكانت الشركة المنتجة والموزعة للفيلم عالمياً
قد إتفقت على عرضه في مدن جنوب أفريقيا، وذلك من خلال المتاح من
تلك الحرية
الهامشية التي تتشدق بها مثل هذه الأنظمة العنصرية. إلا أنه قبل
حفل الإفتتاح في
جوهانسبرغ، وخشية إنتقال صرخة الفيلم الى الجماهير تقرر سلطات
النظام مصادرة
الفيلم ومنع عرضه. ليكون هذا الحدث خبراً مصوراً هو أول أخبار نشرة
السابعة في
التليفزيون الفرنسي، ومن ثم في إذاعات العالم المسموعة والمرئية،
ولتصل عبر هذا
النبأ صرخة الحرية لتدين ذلك السلوك الهمجي لتلك الأنظمة
العنصرية .
كانت هذه
رحلة المخرج أتنبرو مع صنع فيلمه (صرخة الحرية)، ويبقى لنا بعض
الملاحظات التي
لابد من طرحها، ومناقشة الفيلم فيما قدمه من مضمون وفكر إضافة
الى العناصر الفنية الأخرى.
إن فيلم (صرخة الحرية) ينقسم الى جزئين.. الأول منه يتناول قضايا
التحرر والعنصرية، أما الجزء الثاني فهو مغامرة الصحفي للهروب
من جنوب أفريقيا. وإذا كان الجزء الأول يعتمد على الحوار الذكي
والمشاهد المستوحاة من البيئة
الأفريقية، فإن الجزء الثاني يعتمد على حركة الكاميرا وتوتر
الأحداث. هذا إضافة
الى أننا نكتشف ـ بعد الساعة الأولى من الفيلم ـ بأنه ليس عن
المناضل الأسود ستيف
بيكو، وإنما يعطي الدور الأكبر للصحفي، بل إن أزمته مع النظام
العنصري تصبح هي
الأهم. أي إنه بدلاً من مشاهدة فيلم عن بيكو وقضية شعبه وجدنا قصة
أخرى عن شجاعة
رجل أبيض يتعرض لنفس المضايقات والعقوبات، بل يصبح في نظر السلطة
مناضلاً لا يقل
خطورة عن بيكو. وبمعنى آخر أن الفيلم يتحدث عن الشعب الأفريقي
الأسود من خلال بطل
أبيض، وهذا بالطبع ما يلبي حاجة الجمهور الغربي الذي تعود النظر
الى قضايا شعوب
العالم الثالث من خلال أبطاله هو. وهذا أمر يثير الكثير من
الإشكالات من حيث التشكيك في مصداقية الفيلم. فمن المعروف أن بيكو
نفسه قد بدأ حركته السياسية
بالإنفصال عن الطلبة الليبراليين البيض، وكان يدعو مواطنيه
السود الى عدم الإعتماد
على البيض في معركتهم المصيرية. وللعلم فإن الفيلم قد واجه رفضاً
من فبل أرملة
بيكو ورفاقه، وذلك لإفتقاره الى الأمانة التاريخية، ولعدم إهتمامه
بالقضية
الجوهرية
.
وبالرغم من كل هذا، فإنه لا يمكن نكران ذلك الجهد المبذول في تنفيذ
الفيلم، حيث تبدو مهارة المخرج في تحريك المجاميع، خصوصاً في
مشهد وداع المناضل
بيكو، والذي يعد من أجمل مشاهد الفيلم سواء في تحريك المجاميع أو
في حركة الكاميرا
البانورامية.
وختاماً، لابد من الإشارة الى أن فيلم (صرخة الحرية) يعتبر
إدانة حقيقية وجريئة للوحشية التي كان يمارسها نظام جنوب
أفريقيا العنصري .
|