يبقى أن نقف وقفة تأملية
لما قدمه المخرج علي بدرخان من لمحات إبداعية ومميزات فنية، جعلت
من الفيلم علامة بارزة ومهمة، بغض النظر عن موضوعه الجريء والصريح.
ففي (الكرنك) يوفق بدرخان
في اختيار ممثليه إلى حد كبير، فسعاد حسني ونور الشريف وكمال
الشناوي كانوا في قمة أدائهم، بل وتعتبر أدوارهم في هذا الفيلم من
بين أهم أدوارهم على مدى تاريخهم الفني بأكمله. أما بقية العناصر
الفنية الأخرى، من تصوير ومونتاج وموسيقى وغيرها، فهي لم تتجاوز
الدور الوظيفي إلى الدور التعبيري، إلا في مشاهد قليلة. وذلك
لاعتماد الفيلم ـ بشكل واضح ـ على الحوار الكثيف والساخن والمتدفق،
والذي ساهم إلى حد كبير في الإضعاف من لغة الصورة السينمائية
ووظيفتها التعبيرية. فمثلاً نجد بدرخان ينجح في استخدام الإضاءة
والمونتاج في مشاهد، مثل مشهد الاعتقال الأول للثلاثة، وكان
للإضاءة دوراً هاماً في خلق الجو المناسب لزوار الفجر في البيوت
والحارة. كما أنه يثبت مقدرته في شحن المتفرج بالغضب وإدانة القهر
والإرهاب، وذلك من خلال مشهد قوي وغير مباشر لإسماعيل وزينب وهما
يتمشيان في الشوارع ليلاً، وقد تحتم عليهما التبليغ عن صديقهما
حلمي وعن الاجتماع السري الذي عقد في منزله. ثم المشهد الذي يليه
في بيت زميلهما الفنان، ذلك المشهد الذي تستسلم فيه زينب لحبيبها
في الفراش، ليكتشف المأساة في تضحيته داخل المعتقل، ويصدم بتلك
الخدعة الكبرى. هنا ينجح بدرخان في تجسيد كل تلك الأحاسيس
والمشاعر، بمساعدة الإضاءة الدرامية المعبرة والمونتاج الخلاق،
بالإضافة لإستغلاله لإمكانيات الديكور. أما المونتير سعيد الشيخ،
فيوفق إلى حد كبير في ضبط التصاعد الدرامي في اللقطات بين وجه زينب
وبين ورقة ملقاة في الشارع تتقاذفها السيارات المسرعة عند محاولة
انتحارها. وفي نفس الوقت لم يحقق الشيخ نفس المستوى الفني في مشهد
مقتل حلمي، حيث فشل في تحقيق التقطيع المناسب واستخدام الأحجام
المناسبة للقطات، مما أدى إلى هبوط مستوى هذا المشهد.
أما من ناحية الكتابة
الدرامية (السيناريو) فنلاحظ مدى إلحاح النظرة التجارية لدى ممدوح
الليثي وعلي بدرخان، أو حتى نية التخفيف من مأساوية الأحداث، والتي
دفعتهما لحشر مواقف وأحداث بقصد الإضحاك والتقليل من صدمة المتفرج،
متجاهلين بأن ذلك قد يهدد باختلال البناء الدرامي في فيلم يناقش
الثورة والإرهاب. وهذا بالطبع لا ينفي من أن السيناريو قد اهتم
بشكل خاص على استعراض التفاصيل الدقيقة في تجسيد أدوات وطرق
التعذيب، من جلد وصلب وتعذيب بالكهرباء، حتى يصل الامتهان الإنساني
ذروته في مشهد اغتصاب زينب، وهو مشهد قوي ومؤثر ومتقن، يحقق فيه
بدرخان مستوى جيد في الإخراج.
وبالرغم من بعض السلبيات
التي سجلناها عن هذا الفيلم، إلا أنه يظل واحداً من بين الأفلام
الهامة والجادة، وذلك لتبنيه قضية حساسة في الواقع الاجتماعي
والسياسي، ونجاحه في كسب تعاطف المتفرج مع قضيته هذه. |