نتعرف على الشيخ حسني منذ
أول مشهد، وهو في إحدى جلسات الانبساط. نسمعه ثم نراه يغني بصوت
جهوري وسط صحبة الليل والحشيش، محتضناً عوده، ويحاول بصوته المدوي
أن يعبر عن وحدته الداخلية، حيث يجد من يسمعه وسط تلك الصحبة. إنه
يتحلى ـ أيضاً ـ بخيال جامح وخصب، وذكاء فطري حاد، حيث نراه ـ فيما
بعد ـ يوهم الشيخ عبيد الأعمى بأنه مبصر ويصر أن يقوده في الشوارع،
بل ويحذره من الحُفَر أيضاً، لدرجة أنه يذهب به إلى السينما ويبدأ
في سرد حكاية فيلم من خياله، ثم يقنعه بأنهما في عرض النيل في
زورق، بينما الحقيقة بأنهما لم يغادرا الشاطئ. كما أنه يغريه
بالنساء ويثير غريزته عندما يصفهن له بكلمات الغزل.
وعشرات التفاصيل صاغها عبد
السيد بذكاء شديد ووعي بطبيعة الشخصية، وجسدها باقتدار الفنان
محمود عبد العزيز. حيث يصل هذا الفنان بالشخصية وتصل به إلى أعلى
وأفضل مستويات الأداء التمثيلي، فهو عندما يرتدي الجلباب ويلغي
التعبير بعينيه يصبح لزاماً عليه البحث عن وسائل أخرى للتعبير،
فنراه يطوِّع حركة يديه ورجليه وطريقة سيره، كما يعتمد على تلوين
صوته للتعبير عن انفعالاته الداخلية. إنه يتحرك في ثقة وحذر
شديدين، يصيخ السمع وتتحول شعيرات جسده بالكامل قرون استشعار. إنها
حقاً شخصية متميزة، جسدها هذا الفنان المبدع بتميز، وتمثل دور عمره
على أقل تعبير.
ثم أن نجاح هذه الشخصية
بهذا الشكل المذهل ليس سببه ذلك الأداء المتميز فحسب، وإنما هناك
عناصر فنية أخرى ساهمت في ذلك النجاح. حيث أنه من الواضح بأن عبد
السيد ومدير تصويره الموهوب (محسن أحمد) قد اختارا أفضل الزوايا
الملائمة للتصوير والمدروسة بعناية فائقة، وذلك لكي تتناسب
والمواقف التي يؤديها الممثل. ففي المنولوجات الداخلية مثلاً تصور
الكاميرا وجه محمود عبد العزيز منفرداً في لقطات قريبة، حتى يبدو
على خلفية السماء البالغة الاتساع، كما لو أنه في جزيرة معزولة عن
الجميع. كما أن الكاميرا تصوره في العديد من المشاهد من أسفل فيظهر
أطول قامة من البيوت. هذا إضافة إلى التركيز بلقطات قريبة وكبيرة
على أصابع يديه المرهفة وقدميه وهو يتحسس جدران البيوت خارج شقته،
أما عندما يكون في داخل الشقة فنراه يتحرك بحرية وسهولة مطلقة، ذلك
لأنه يعرف الشقة ويألفها تماماً.
وعلى العكس من شخصية الشيخ
حسني، تأتي شخصية ابنه يوسف (منير شريف) المصاب بالإحباط والإحساس
بالعجز. فيوسف شاب عاطل يبحث عن عمل وأمله كبير في الخروج من أزمته
هذه، والتي تكاد تخنقه، بالسفر للخارج هرباً من واقع محبط. ثم
علاقته المجهضة مع فاطمة (عايدة رياض) وعجزه عن التواصل معها
جسدياً. نراه في البداية يفشل في علاقته هذه لأنه مشدود إلى عالم
بعيد غير محدد الرؤى، ولا تتحقق علاقته بها إلا عندما يدرك بأنه
جزء من هذا الواقع ويبدأ في صياغة علاقته بهذا الواقع. ثم أن
استيعابه لشخصية أبيه بكل تناقضاتها وهو يراه مصراً على تجاوز عجزه
مدفوعاً بحبه للحياة، جعل يوسف يستوعب الدرس من أبيه. وقد برز ذلك
من خلال المشهدين الأخيرين من الفيلم، حينما يغني معه ثم يصحبه في
نزهة على الدراجة ليشاركه ويساعده على تحقيق رغبته الأبدية، في شكل
من التوحد بين الأب وابنه ولحظة انطلاق جديدة لهما. |