تمثل الدورة الأولى من «أيام البحرين السينمائية» مناسبة فريدة
لمشاهدة مجموعة من الأفلام البحرينية القصيرة التي قام شباب من
صناع الأفلام بتحقيقها خلال فترة وجيزة، ما يعني أنهم كانوا
محكومين بعاملي الوقت القصير، والتيمة المحددة، وهي «سينما البحر»
توافقاً مع العنوان الذي اختارته «الأيام» لنفسها، في دورتها هذا
العام.
ومن المعروف أن فكرة صناعة مجموعة أفلام قصيرة، وفق «تيمة» معينة،
وخلال فترة محددة أو محدودة، أمر وارد في تاريخ السينما العربية
والعالمية، وسبق مشاهدة العديد من هذا الطراز، كما في تجارب سبق أن
تولاها مهرجان كان، ومهرجان فينيسيا، وغيرهما... وأفلام ذات علاقة
بموضوع معيّن، ربما من أشهرها أفلام صنعها سينمائيون كبار عن 11
سبتمبر، أو عن الحب، أو عن الوحدة، أو عن مدينة ما. اسطنبول مثلاً.
وتمتد هذه الأفلام بدءاً من ورشات العمل السينمائية (كياروستامي في
الخليج مثلاً)، وصولاً إلى كبرى المهرجانات العالمية.
إذاً ليس هو أمر جديد، لا عربياً ولا عالمياً، أن يتم توجيه مجموعة
من المخرجين لاجتراح أفكار، وبناء سيناريوهات، وصناعة أفلام محددة
الموضوع في شكل مسبق. لكن قد يكون هذا جديداً في البحرين الذي نميل
إلى أنها الأكثر تطوراً على مستوى صناعة الفيلم القصير بين بلدان
الخليج جميعها.
مشاهدة 8 أفلام بحرينية قصيرة، مشاركة في مسابقة «أفلام البحر»،
يقودنا إلى تأكيد هذا الاستنتاج من ناحية، وإلى تبصر مجموعة من
الملاحظات التي بمقدار ما تنطبق على الأفلام البحرينية، تكاد تنطبق
أولاً على الأفلام الخليجية، وربما العربية عموماً.
يمكن البدء مع فيلم «حبيبتي عذراء» للمخرج محمود الشيخ، وهو مخرج
له أفلام قصيرة عدة، لعل أبرزها فيلم «قوس قزح» المُشارك في مسابقة
«أفلام من الإمارات» في الدورة الأخيرة «مهرجان أبوظبي السينمائي»،
ونال إحدى الجوائز، ولفت الأنظار إليه، باعتباره فيلماً جيداً على
مستوى كتابة السيناريو (فريد رمضان)، وعلى مستوى التنفيذ والإخراج،
وأولاً وتالياً جرأة موضوعه وتناوله.
في جديده «حبيبتي عذراء»، يريد محمود الشيخ توجيه تحية وإبداء وقفة
تقدير واستعادة ذكرى 145 شخصاً ذهبوا في حادث تحطّم وسقوط وغرق
طائرة «طيران الخليج»، القادمة من القاهرة، قرب شواطئ البحرين، في
23 آب (أغسطس) عام 2000. لكن الفيلم هنا شابه العديد من الهنات
التي تبدأ من العنوان غير الموفق «حبيبتي عذراء»، وقوفاً عند
إشكالية بناء السيناريو، الذي بدا على خلاف «قوس قزح» أقرب إلى
الهواة والارتجال.
في «حبيبتي عذراء» تتجسد إشكالية فهم الفيلم القصير وبنائه، لنجد
استرخاء غير مبرر وغير مقبول، قبل أن ينتقل الفيلم في لحظاته
الأخيرة إلى ما يريد قوله. المشاغلات التي أخذت القسط الأوفر من
الفيلم بدت خارجة عن سياقه، ولا لزوم لها. ولعل في فيلم «قطر
الساعة السادسة» للمخرجة كاملة أبوذكري نموذجاً يمكن الاقتداء به،
خاصة وأن الموضوع يكاد يتماثل لناحية انتظار الغائب، في الموعد
السنوي ذاته، دون أن يأتي المنتظر، فالغائبون لا يعودون، ونحن لن
ننساهم. وسنبقى في انتظارهم.
أما في فيلم «ذاكرة مفقودة» لمحمد إبراهيم، فنحن نشهد حالة اغتراب
فظيعة، بات يشعر بها رجل متقدّم في السنّ، إلى درجة رغبته
بالانقطاع عمّا حوله كله، في انتماء شديد ومشدود إلى الماضي،
والنفور من الحاضر. يتورط الفيلم في أمرين يجدر بالشباب الانتباه
إليها. أولهما رجم الحاضر والانشداد إلى الماضي، دون أي تبريرات
درامية. وثانيهما خلق هذه الحالة من عدم. فنحن لم نعرف لماذا وكيف
بات هذا المسنّ على هذا النحو، وهل اكتشفه اليوم فجأة، أم قادته
إليه مقادير؟.
صحيح أن «ذاكرة مفقودة» مشغول في درجة حسنة على أكثر من صعيد
إخراجي، ولكن دراسة الحالة الدرامية، ومبرراتها، ودرجة إقناعها،
بقيت معلقة قيد السؤال.
سيبدو فيلم «أثر الملح» لمحمد وميثم مجيد آل مبارك، أكثر جودة من
هذه النواحي، ويبدي تعبيرت بصرية وصوتية أكثر ذكاء وحصافة. إنه
يحاول قول إن البحر يمكن أن يكون الصلة العميقة إنسانياً بين البشر
على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ومنابتهم. تحضر خادمة آسيوية إلى أحد
البيوت البحرينية. دعك من تأفّف ربّة المنزل وإعلانها عدم حاجتها
لوجود خادمة في البيت. الفكرة الذكية أن غربة هذه الخادمة، وإعادة
تواصلها مع العالم سيكون من خلال البحر.
لا أدري لم شعرت أن هذه الخادمة أندونيسية؟ هل لأن أندونيسيا
مجموعة من الجُزر كما هي حال البحرين؟ ربما... المهم أن «أثر
الملح» يبني بذكاء ونباهة فكرة أن البحر بمائه وأصوات أمواجه
وألوان أسماكه واتساعه... يمكن أن يسعنا جميعاً، وأن يكون خطّ
التواصل الذي يمحو غربتنا. ربما لأننا يمكن أن نصطاد سمكة قادمة من
أندونيسيا في شواطئ البحرين.
أما فيلم «نوستالجيا» لأحمد فردان، فهو يحاول أن يستذكر ويرثي زمن
الغواصين والبحارة، بصورهم الشهيرة وأغانيهم المأثورة ومراكبهم
الخشبية، وشواطئهم المفتوحة على المدى، ليضعها على التضاد والتناقض
مع مستلزمات الحداثة التي دفعت بجرافاتها وبلدوزراتها لتأكل
بأسنانها الحديدية القاسية التراب والماء، وتغيّر معالم الطبيعة
الفطرية والبريئة، مصعداً الفكرة إلى حالة انتحار قاسية.
رجل مسنّ آخر يعيش في «نوستالجيا» (الحنين) حالة انفصال عن الراهن،
والانتماء إلى الماضي. كهل لا تسعه البيوت، ولا تلمّه الطرقات،
يمضي في دروان لا ينتهي إلا عندما يمدّد جسده المتهالك، تماماً في
مكان سترمي إحدى الشاحنات العملاقة أحمالها من تراب وأحجار، ليندفن
تحتها كما تندفن الشواطئ التي باتت ممنوعة على الناس (شاخصة على
حافة البحر تقول: ممنوع السباحة).
ويذهب فيلم «الحضرة» لسلمان يوسف، إلى شأن اجتماعي ملتبس. ثمة
امرأة يُتوفّى عنها زوجها، وسيكون عليها أن تمضي مدة العدّة
(الشرعية) قبل تمكّنها من الخروج من بيتها. فيزداد الالتباس
تعقيداً عندما لا يتبيّن الفيلم الحدود الفاصلة بين مأساتها
الفردية في موت زوجها، وحضور الرجل خلف الباب، ودخولها البحر، بغية
التظهر أم الانتحار، تاركاً الكثير مما ينبغي للمشاهد.
ولكن فيلم «سبر» لوسن مدن، كان واضحاً في نزعته الانتحارية، إذ أن
الفتاة الشابة التي يثقلها واقعها الاجتماعي والنفسي وربما الجسدي،
تقرّر في النهاية الانتحار. سنراها تمضي إلى الأمام نحو المياه
العميقة في البحر، بينما والدها منشغل عنها في مكالمات هاتفية لا
تنتهي، وهي ترنو إلى عاشقين متخاصرين، أين هي من هذه الحالة، في
وقت لا تجد شقيقتها الصغيرة إلا لعنهما (ما يستحون). البحر مأوى
الجثث والأحلام المنكسرة.
وسيبدو فيلم «ترنيمة على الضفاف» لحسين الجمري، على هيئة مشروع
فيلم روائي طويل، تمّ تكثيفه في فيلم روائي قصير. هنا ثمة حكاية
لرجل جريح وابنه الضرير. أُصيب الرجل بجرح في باطن قدمه، فأهمله،
واستمر في عمله المضني على حافة البحر في استخراج الأحجار، وما كان
من الجرح إلا أن أوغل في العناد على التدواي، وفق منطق الأشكال
التقليدية العهودة، وترفّعاً عن ملح ماء البحر، إلى أن يجد الرجل
نفسه أمام ضرورة بتر ساقه. |