هناك من يرى أن العنف في الفلم ، الأميركي خاصة ، كف عن أن
يكون ظاهرة فظيعة ومكدرة أو ساحرة ، بل أصبح لعبة مضحكة للقتل. فهنا تعلو
قيم أخرى - على سبيل المثال : البعد الفيزيولوجي للموت ، عامل المصادفة :
يقتل المجرم إنسانا آخر غير المقصود. وهذا يوميء الى أن الموت كفّ عن أن
يكون من التابوات. مثلا : أصبح فلم التسعينات تشهيرا بالآليات السينمائية
التقليدية التي هدفت ترويج عملة ( الإثارة للإثارة ). وكوينتين تيرنتينو
Quentin
Tarantino
كان أحد أوائل الذين لجأوا الى إستخدام البعد الكوميدي للموت ، وليس العنف
أو القهر وحده بل قبل كل شيء فينومينولوجيا الموت بشتى مراحله . ولدى هذا
المخرج و السينارست والممثل الأميركي فقد الموت وظيفته التقليدية في
السينما الكلاسية : وظيفة التتويج المنطقي و المثير لنسق من الأعمال ذات
الطبيعة العدوانية. فالموت عند تيرنتينو يظهر في مواقف غير متوقعة وغير
خطرة ، ظاهريا ، على بطل الفلم. ففي فلمه ( قصة مبتذلة
Pulp fiction
) من عام 1994 يتحاور بطلا الفلم فنسنت ( جون ترافولتا
J.Travolta)
و جولز ( صاموئيل جاكسن
S. Jackson
) مرحين في السيارة بعد قيامهما بمجزرة حقيقية . في المقعد الخلفي للسيارة
يجلس مارفن ( فل لامار
V. Lamar
)من العصابة المناوئة. للحوار هنا مهمة وقفة كوميدية – شاعرية تبدد التوتر
الذي جاء به مشهد تلك المجزرة. في واقع الحال هي وقفة و إستراحة للمتفرج
أيضا وقبل أن يشهد أعمال عنف و قتل تالية.
إلا أن تيرنتينو يختصر الإستراحة كي يقدم المشهد الأكثر فظاعة
في فلمه : فنسنت يقتل سهوا مارفن الذي ينفجر رأسه بالدماء و نثار المخ على
الإثنين. تيرنتينو ينزع هنا عن الموت أحد التقاليد السارية وهي أن العنف
لايمكن حدوثه إلا في زمنه المحدد الذي يسهل معرفته. ففي السينما التقليدية
يبنى الموت وفق طقوس معينة تسهّل تلقي المخطط الدراماتورغي. أما موت (
مارفن ) فحدث على خلاف كل التقاليد الفلمية ، بعبارة أخرى :الموت هنا أكثر
فعلية وحقيقية. لكن ليس كل شيء على ما يرام . فرد فعل الجمهور هو إنفجار
الضحك. وهذا الإنفجار يستر الصدمة والقلق الأخلاقي أيضا. إلا أن المشهد
التالي : شجار القاتل و رفيقه يبدد التوتر بل يأتي بقدر من العزاء حين
يتحول المشهد الدامي الى كوميديا سوداء. أن هذا القتل / الموت بالصدفة
المصدمة للغاية يصبح مقدمة لعواقب هي كوميدية أيضا : إخفاء الجثة وبقية
الأفعال لإزالة آثار القتل.
في الحقيقة يكون سام بيكنباه
Sam Pikinpah
هو من ثوّر ريبرتوار العنف الفلمي حين أدخل الفوضى و الإضطراب على مشاهد
إطلاق النار حيث لايعرف المتفرج من أطلق النار على من . ( فلم "العصابة
الوحشية
The Wild
Bunch
" من عام 1968 ) . فالغرض من فوضى مشاهد القسوة منح واقعية الأحداث قوة
إضافية لاتأتي في الحقيقة إلا من الواقع نفسه لكن وفق هرونوب آخر. والشيء
نفسه يحصل عند تيرنتينو : التوجه صوب اللعب في السينما ، صوب تسلية قوامها
إفشال توقعات المتلقي ،باللجوء الى الأخذ بطريقة هزّه و صدمه . فعشوائية و
حقيقية الموت تلقيان جانبا و بذا يُحرم المتلقي من تلك القناعة الداخلية
بأنه من يسيطر على الواقع المقدَّم. بإختصار : يجرّد تيرنتينو و بينكباه
الفن من مظاهر الوهم الكاذبة آخذين بنهج قاس : حرمان التقليد
convension
، أو التقاليد – سواء في الفن أو الحياة - من ثباتها ، وتحويلها الى محض
تجريديات لا لبوس لها في الواقع الفعلي ...
يبدو أبطال تيرنتينو الذين يمكن نعتهم بحاملي هويتهم
الباثولوجية ، وكأنهم جاهلون بأنهم يتحركون في غابات شبحية لا تعلّمها أي
إشارات طريق.بل هم يبدون أناسا عاجزين تماما عن تغيير أي مصير ينتظرهم.
فهاهم مقيّدون ينتظرون أفعال تعذيب ومحرومون من أي فرصة للهرب. ففي فلم (
كلاب الصهاريج
Resvoir Dogs
) يبدو " البرتقالي
Orange
" ( الممثل الإنكليزي المعروف تيم روث
Tim
Roth
) مشلولا تماما وفقد أيّ فرصة للحركة عند رؤيته لما يحدث أمامه. الشيء نفسه
في ( قصة مبتذلة ) مع بتش ( بروس ويليز
Bruce willis
) و مارسيليوس ( فينغ راميز
Ving
Rhames
) . هناك أيضا فلم توني سكوت
Toni Scott
( قصة حقيقية
True Romance ) من عام 1993 و المعتمد على سيناريو تيرنتينو ، يكون المشهد
الأكثر فظاعة منظر كليفورد ( دينيس هوبير
Dennis
Hopper
) المقيّد في الكرسي و الخاضع للتعذيب. و لأكثر من مرة يتبادل الجلاد و
الضحية الأدوار . فمارسيليوس الذي كان يطارد بتش يصبحان في لحظة معينة
رهينتين لزوج من اللواطيين الساديين لكن سرعان ما يقلب تيرنتينو الوضع رأسا
على عقب ويصبح اللواطيان ضحيتين...
برأي تيرنتينو أن ُمشاهد الأفلام التي ُتسحِر بالعنف يوجد في
وضع مشابه وحتى إذا لم يرد أن يكون شاهدا على القسوة فهو مجبر على ذلك.
بعبارة أخرى يوحي كل شيء بأن هذا المخرج العصامي ينصب بتلك المشاهد المثيرة
فخا للمُشاهد أيضا ، بشكل أفعال سادية. واضح ايضا أن تيرنتينو ينفي تماما
مشاعر التضامن مع الضحية التي سرعان ما تتبادل الدور مع جلادها. المغزى
واضح هنا : لعالم القتل قوانينه الخاصة التي لاتكون ، بالضرورة ، ُمستلة من
قوانين العالم الآخر – ( الطبيعي ). في ذلك العالم يكون القتل من دون أيّ
تحضيرات يصاحبها التوتر والإنفعال ولا أيّ جو من القلق . فالأمر يخص فعلا
آليا باردا بل يبدو شبيها بما نفعله حين نرمي كتابا مضجرا...
في الواقع لا تمجد أفلام تيرنتينو العنف إلا أنها تريد توعية
المتفرج بآليات خلق أعمال العنف وكيف تتحول الظواهر و الأحداث المُنفرة
والمهوّلة الى أخرى مسليّة و ساحرة في الوقت نفسه. فهنا ليس تيرنتينو من
يحرّض على العنف بل من قام بتصويره بأدوات فنية. مثلا في فلم ( كلاب
الصهاريج ) لا يرينا تيرنتينو كيف يقطع ( الأشقر
Blond)
أذن رجل البوليس. فهو يعرف جيدا ماذا بمقدور المخيلة أن تفعله هنا. وكما
ذكرتُ يدرج تيرنتينو الموت في مرتبة الغروتسك و الكوميديا السوداء ومن دون
الإبتعاد عن الواقع الفعلي . من ناحية أخرى نجده يتعامل مع القسوة الفلمية
من خلال خلق بون يفصلنا عن الواقع المقدَّم ، و بهذه الصوره يظهِر لنا
العنف الفلمي ، و ليس الآخر الفعلي ، كظاهرة مصطنعة : مخلوقة تماما. كما
يكون واضحا سعي تيرنتينو الى التأكيد على أمرين بالغي الأهمية : كلبية
المتفرج ، و القدرة على معاملة الموت من دون أي إحترام وحرمة. فالجريمة هنا
لاتسبب أيّ تأنيب للضمير.
يقوم تيرنتينور في أفلامه وسيناريوهاته بتحليل تشاؤمي للثقافة المعاصرة
التي هي المسؤولة عن لامبالاة المجتمع إزاء العنف. فالتلفزيون و سينما
أصناف الإثارات الرخيصة ُتنزل كلها من مكانة الموت و تسهل مسألة تلقي
ظاهرته كمشهد معد للفرجة أو فيديوكليب أو دعاية تجارية. فالعنف ليس شيئا
طبيعيا فقط بل أضيفت له الزينة كي يصبح ذا مظهر مسلّ. فمُشاهِد أفلام
بيكنباه يصيبه الخجل حين يدرك إنسحار ه الباثولوجي . وكانت هذه مهمة فلمه (
الكلاب المسعورة
Straw Dogs
) من عام 1971 . أما لدى تيرنتينو فالمشاهد يخجل لكونه يتسلى بالمشاهد
والمواقف العنيفة. وعلينا الإعتراف بأن الإنسحار والسرور متأتيان من تحويل
العدوان الفلمي الى إستعراض هو ،و إلى حد كبير ، محض عملية تجميل للعنف.
لكن من أين كل هذا ؟ ليس من مكان آخر غير هذا العالم الذي يزوّد السينما
بالمواضيع و الأحداث ومن ثم يحوّلها الفلم الى إيقونة من إيقونات الثقافة
الجماعية بمعونة تقنيات صارت معقدة أكثر فأكثر ، و مسكات أسلوبية وأفكار
مبتكرة لخلق المشهد الفلمي. ومن دون مبالغة أصبح فلميا كل شكل للعنف في
عيون جزء كبير من المجتمع ، كل مجتمع تقريبا .
إن تيرنتينو لا يختلق واقعا آخر غير هذا الملموس ( هناك أكثر
من مخرج يبعدنا عن الواقع كي يخلق آخر مغايرا تماما ) كما أنه لايزيد من
حدة هذا الملموس و لا يقوده صوب آخر كاريكاتوري مفتعل. ومعروف أن هذا
المخرج لايكرر نفسه. فبعد فلمه ( أربع غرف
Four Rooms
) الذي لايخلو من النزعة الغروتيسكية جاء فلم ( جاكي براون
Jackie Brown
) الذي يميل الى قدر واضح من الإعتدال بل هو محروم ، عمليا ، من أعمال
العنف رغم أن القصة تمركزت حول عقد الإثارة و عرضت وسط رجال العصابات و
تجار السلاح ، لكن لم يحدث هناك سوى ثلاث جرائم قتل! وعرضها تيرنتينو بصورة
بالغة التواضع. إلا أنه قارب الكمال في نهجه القائم على كشف ( عادية )
الموت وفجائية القتل المصدمة للمتفرج الذي لم يشاهد خلال ساعتين أية صورة
للعنف .
إن عالم العنف و الجريمة و القتل ، والذي يقدمه تيرنتينو هو في
الأساس عالم مغلق وراء ستاره الحديدي ، لكن هناك ثغرات في هذا الستار ينفذ
منها بشره الى عالم الآخرين ( الطبيعي ) ، و ليس لغرض التأقلم بل بحكم
الضرورة. ولو ُخيّروا لمكثوا في وسطهم الطبيعي وراء الستار الحديدي...
القصة العراقية في 3
فبراير 2008
|