احتفل المركز الثقافي الفرنسي بعيد ميلاد المخرج الكبير يوسف
شاهين. الذي بلغ الثانية والثمانين من العمر ومازال قادراً علي العطاء
بطاقة الشباب فقدم هذا الموسم أحدث أفلامه "هي فوضي" الذي حقق نجاحاً
جماهيرياً ونقدياً لم يحققه من قبل..يوسف شاهين المولود بالاسكندرية في 26
يناير عام 1926 درس في كلية فيكتوريا وشجعته أمه علي دراسة السينما في معهد
باسادينا بالولايات المتحدة. ارتبطت حياته بالسينما منذ عام 1950 عندما
أخرج فيلم "بابا أمين". وامتدت ما يقرب من ستين عاماً قدم خلالها 36 فيلماً
روائياً طويلاً وخمسة أفلام تسجيلية ومسرحية واحدة "كاليجولا" لفرقة
الكوميدي فرانسيز بباريس.
قبل 3 سنوات جاءت إلي القاهرة المخرجة اللبنانية مني غندور.
بهدف إخراج فيلم وثائقي عن يوسف شاهين. لكنها سرعان ما اكتشفت صعوبة المهمة
لأن شاهين قدم سيرته الذاتية في أربعة أفلام "اسكندرية ليه" 1979 و"حدوتة
مصرية" 1982 و"اسكندرية كمان وكمان" 1990 وأخيراً "اسكندرية نيويورك" .2004
لكن مني غندور بأسلوب الصحفية والباحثة السينمائية استطاعت أن
ترصد الكثير من العلامات في حياة شاهين وجمعت مادة تصل مدتها إلي 13 ساعة
وقامت بتصنيف تلك الدراسة الطويلة في مجموعة أفلام مدة كل منها 26 دقيقة.
عرض منها المركز الفرنسي أربعة أفلام بمناسبة عيد ميلاده.
أكون أو
لا أكون
الأفلام الأربعة هي: "هاملت الاسكندراني" و"كلام في السياسة"
و"اسمع يا قلبي" و"شوفته بيرقص". وتؤكد مني غندور في تعليق بصوتها في
الفيلم الأول ان شاهين بني حياته علي مقولة هاملت الشهيرة في مسرحية شكسبير
"أكون أو لا أكون" وقد منحته تلك المقولة طاقة علي العمل استمرت 60 عاماً.
لكي يحقق ذاته ويثبت وجوده كأشهر مخرج عرفته السينما العربية. لذلك كانت
شخصية هاملت موجودة في الكثير من أعماله. وهناك مشاهد كاملة من تلك
المسرحية قام بأدائها محسن محيي الدين في "اسكندرية ليه" ونور الشريف في
"حدوتة مصرية" وعمرو عبدالجليل في "اسكندرية كمان وكمان" وأحمد يحيي في "اسكندرية
نيويورك". يحكي شاهين كيف أحب الاسكندرية وكيف اعتبرها الوطن المثالي لما
يجب أن يكون عليه العالم. حيث التعايش بين الأديان والتسامح بين ناس من
أصول مختلفة اليوناني والإيطالي والأرمني. ويتذكر شاهين الاسكندرية خلال
الحرب العالمية الثانية وكيف كان والده يرفض النزول في المخبأ خوفاً من قصف
الطائرات. ويتذكر حزنه علي وفاة شقيقه فريدي وهو طفل في التاسعة. وكان
شاهين يغلق علي نفسه الحجرة يبكي ثم يقرأ في مكتبة والده وأخرجته القراءة
من حزنه العميق. وارتبط كثيراً بشقيقته الوحيدة إيريس "والدة جابي وماريان
خوري".
كان طموح شاهين أكبر من حاجة عائلته إلي المال. ترك والده
المحاماة من أجل وظيفة ثابتة تدر عليهم راتباً شهرياً. وتأكدت أمه من عشقه
للسينما وساعدته بكل ما تملك من أجل السفر لدراسة السينما حيث لم يكن في
مصر معهد للسينما قبل تأسيسه عام .1959
في الفيلم الثاني "كلام في السياسة" أشارت مني غندور إلي أن
شاهين لم يعرف السياسة من الأيديولوجيات بينما فهمها من الشارع المصري حيث
ردود أفعال الناس التلقائية علي الأحداث السياسية سواء المحلية أو العالمية
وكان ينصت إلي احساس الشارع. وفي هذا الفيلم اعتمدت المخرجة علي شهادات بعض
الفنانين الذين عملوا في أفلامه. مثل عزت العلايلي الذي قام بدور عبدالهادي
في "الأرض" وقام ببطولة "الاختيار" وظهر في "اسكندرية ليه" حيث قال ان
شاهين يحب الناس ويحب التحاور معهم وشاهد بنفسه كيف كان يناقش عبدالرحمن
الشرقاوي مؤلف رواية "الأرض" ومع حسن فؤاد كاتب سيناريو الفيلم وكذلك تابع
حواراته مع صلاح جاهين وأدرك العلايلي تأثير هؤلاء في الوعي السياسي
لشاهين.
وتؤكد مني غندور ان السياسة لم تغب عن أفلام شاهين حتي في فيلم
"سيدة القطار" عام 1952 عندما غنت ليلي مراد أغنية "دور يا موتور" في وقت
ظهرت فيه الدعوة للتصنيع. وقال نور الشريف: ان شاهين "ثوري شيطاني" السياسة
عنده مثل النباتات الطبيعية ظهرت بدون قصد. حتي في "باب الحديد" لم يكتف
بالحديث عن حب قناوي بائع الجرائد الأعرج لهنومة بائعة الكولا بل تحدث عن
ضرورة وجود نقابة للشيالين في المحطة وهي دعوة غريبة جداً في وقتها!!
وتحدث محمد منير عن تجربته مع شاهين. وكيف وقع الاختيار علي
أغنية "مانرضاش" للشاعر الراحل عبدالرحيم منصور. وكيف ان كلمات تلك الأغنية
مليئة بالمعاني الإنسانية النبيلة لذلك اختار شاهين أن تكون افتتاحية
لفيلمه "حدوتة مصرية".
أما فيلم "اسمع يا قلبي" ففيه دراسة وثائقية عن علاقة شاهين
بالموسيقي. حيث يؤكد المخرج خالد يوسف: إنه أكثر من مرة يدخل علي شاهين
يجده يستمع إلي الموسيقي بالهيدفون ويبكي. ويؤكد الموسيقار يحيي الموجي أن
شاهين قام بتأليف قطعة موسيقية في فيلم "اسكندرية نيويورك"!!
الرقص بعد
الستين
وفي فيلم "شوفته بيرقص" تتحدث يسرا عن نصيحة شاهين لها بأن لا
تنظر إلي قدميها وهي تنزل علي السلالم. وأشاد بالفلاحة المصرية التي تحمل
البلاص وتسير في خط مستقيم دون النظر إلي الأرض واعتبرها نموذجا حيا علي
الرشاقة والقدرة علي التحكم. وتؤكد المونتيرة الكبيرة رشيدة عبدالسلام ان
الاحساس والايقاع يحكمان علاقته بالسينما وبالتالي بالموسيقي والرقص.
ويتذكر عمرو عبدالجليل عندما رقص مع شاهين في "إسكندرية كمان وكمان" وكيف
كان شاهين خفيف الحركة وكان يقول: "أنا بارقص أحسن من أجدع واحد" وكان يبلغ
من العمر وقتها 63 عاماً. والغريب أن مشاهد الرقص ظلت موجودة في كل أفلامه
تقريباً حتي "هي فوضي" حيث يرقص يوسف الشريف مع هالة صدقي ثم مع درة في
مشهد آخر.
يعترف د. عبدالمنعم كامل مصمم رقصات "اسكندرية نيويورك" ان
يوسف شاهين قال له: بأنه كان يحلم بأن يكون راقص باليه. وانه كان يحب الرقص
"عشان يعجب البنات"!!. واختار شاهين راقص الباليه أحمد يحيي لبطولة فيلم "اسكندرية
نيويورك" بعد أن شاهده يبكي وهو يرقص في باليه "زوربا". ويقول شاهين بصوته
في الفيلم: ان الباليه هو "قمة الفن". ويقول ان كل إنسان يعبر بالرقص عن
فرحته حتي قناوي في "باب الحديد" رقص وهو ممسك بزجاجة الكازوزة التي أعطتها
له هنومة!!
الجمهورية المصرية في 31
يناير 2008
|