من
النهاردة مفيش حكومة.. أنا الحكومة هكذا كانت صرخة منصور حفني
الراغب في تطهير جزيرته من عساكر الداخلية بعد أن بدأوا يفتحون أعينهم علي
نشاطه.
كانت هي كذلك الصرخة التي دفعت الكثيرين، للتحمس لمشاهدة فيلم الجزيرة ،
اخراج شريف
عرفة وقصة محمد دياب وبطولة أحمد السقا، ودفعت الكثير من المشاهدين منهم
لكي يهتفوا
في الشارع بعد انتهاء الفيلم قائلين أنا الحكومة ويصفقون
بهستريا أثناء اللحظة
الدرامية للنطق بالعبارة.
في جزء
منه، فالجزيرة هو نسخة مصرية، وصعيدية
بالتحديد، من الأب الروحي . مايكل كورليوني آل باتشينو هو الشاب المثالي
الذي يتطوع
في
الحرب دفاعا عن أمريكا وقيمها، ويرفض الاجرام الذي تمارسه عائلته
المافياوية.
فجأة يقرر الأب تدشين ابنه الصغير باعتباره الأب الروحي الجديد. يقابل هذا
بذهول،
ويتم
تفسيره علي أن عائلة كورليوني تسير الي الضعف، يكون لزاما اذن علي مايكل أن
يمر باختبارات نار عديدة لترسيخ عائلته واثبات وجوده علي رأسها. وفي
الجزيرة، منصور
حفني هو الأستاذ منصور بتاع المدارس الذي ينظر له أقاربه
باستهانة، بينما يقرر الأب
محمود ياسين اعلانه كبير العائلة، بسبب كونه ابن المدارس بالتحديد. يمر
منصور
باختبار بسيط في البداية، يتحداه عمه حسن باسم سمرة للنزال تحطيبا. يكاد
ينتصر
عليه. يقفز منصور عاليا ليفجر اللمبة، ينصرف لثانية انتباه
العم المبارز اليها
ويكون هذا كافيا لكي تكون عصا منصور ملامسة لرأسه ومهددة بتهشيمها. اختبار
آخر في
أثناء تسليم البضاعة ومنصور علي رأس العملية، تهجم عائلة علي البضاعة
لسرقتها
والهرب بها، ينجح منصور في استرجاعها بعد مطاردات وأكشن. هكذا
يموت الأب مطمئنا علي
العائلة التي ولد كبيرها وحشا ينهش لحم من أمامه.
ہہہ
الفيلم لم
يبدأ بعد
البداية الحقيقية. سيحدث هذا في جنازة الأب. تهجم عائلة
النجايحة، التي رفضت من
البداية الانضواء تحت كنف منصور باعتباره الكبير، علي سرادق العزاء، يقتلون
أم
منصور وزوجته. نتابع منصور وقد أصبح بلا رجال، بعد أن دخلوا السجن، وهو
مطالب وحده
بالثأر من عائلة كبيرة أعلنت عن دفع مبلغ مئة ألف جنيها ثمنا
لرقبته. شيئا فشيئا
يتمكن من استرداد قوته، يكون جيشا من مطاريد الجبل عن طريق وعدهم بالنزول
الي
الجزيرة والعمل بها، ينجح في الحصول علي سلاح من السودان بعد أن اختفي
السلاح من
مصر أيام الارهاب، يستميل اليه الداخلية عن طريق رشوة ضباطها
الفاسدين بالمخدرات
والسلاح والارهابيين ومسجلي الخطر الذين يريدونهم لاحراز ضبطيات كبيرة.
شيئا فشيئا
يبدأ منصور في اعادة تكوين مملكته الجديدة، ومن الصفر هذه
المرة.
تحدث
المذبحة
التي لا مفر منها لعائلة النجايحة. تنفجر مخازن سلاحهم وتحترق
أراضيهم ويذبح
رجالهم. وبرغم توسلات كريمة، حبيبة منصور (هند صبري) له بأن يرحم أخاها،
أخاها الذي
كان قد قتل من قبل زوجة منصور وأمه، فان الأخير يقتله بطلقة
واحدة من مسدسه. بطلقة
واحدة يتمكن من الثأر لأهله والقضاء علي عدوه وعلي ضعفه الانساني أمام
حبيبته،
ثلاثة أهداف في خبطة واحدة. هكذا، في قلب المذبحة، يتم تعميد منصور حفني
بالدم، قبل
أن يعلن، مرة واحدة والي الأبد، امبراطورا علي الجزيرة
المزروعة في كل شبر منها
بالأفيون والسلاح. بالنسبة لمايكل كورليوني فقد كان لا بد أن ينتظر
المشاهدون نهاية
الجزء الأول من الأب الروحي حتي يروا مذبحة تعميدية كتلك،
مايكل يقوم بتعميد طفلين
في
الكنيسة، ينطق القداس كلمة كلمة، بينما رجاله بالخارج يقضون علي رؤوس
العائلات
المنافسة. ينتهي الجزء الأول وقد أصبح مايكل كورليوني ملكا متوجا لعائلة
كورليوني.
هكذا يولد كل من البطلين، تولد لاانسانيتهم البهية، ويتحولان الي ما أصبحا
عليه
طوال
الفيلمين، مجرمين أشبه بالآلهة، وذكرين قادرين علي الانتقام وسفك
الدماء.
ہہہ
يبدأ كل
فيلم في الافتراق عن الآخر، يصارع منصور من الآن فصاعدا
الحكومة (التي يمثلها طارق بيه، محمود عبد المغني الضابط الجديد المتحمس
والمتحدث
في الفيلم باسم خطاب النظام والدولة)، وليس العائلات الأخري.
التركيز علي ضباط
الشرطة كان لا بد له أن يدخل بخطاب فلسفي الي الفيلم، أو لنقل، أن الفيلم،
علي
قوته، لم يكن مرضيا من الناحية الفنية لصناعه، مما دفعهم لاثقاله بالكلام
عن النظام
في مواجهة الخارجين عليه، أو عن القوي الذي يفرض قانونه دائما.
يمكن للمشاهدين أن
يستعيدوا في هذا الفيلم مشاهد الهروب لعاطف الطيب وأحمد زكي وحواراته عن
بطولة
الخارجين علي القانون في مقابل الجبن والخنوثة الدائمين لمن يماهون أنفسهم
مع
القانون.
الضابط
الشاب، طارق بيه، هو ابن لواء سابق بالداخلية، وهذا اللواء،
فؤاد باشا عبد الرحمن أبو زهرة هو من كان قد ساهم في صناعة علي الحفني ،
أبي منصور،
سمح له بممارسة تجارته الممنوعة في مقابل تعاونه معه في ضرب
الارهابيين. هكذا تلد
السلطة السلطة، والخروج عن القانون يلد الخروج عن القانون، والتعاون بين
رشدي وهدان
وبين منصور الحفني هو ابن لتعاون قديم بين علي الحفني وبين فؤاد باشا، لواء
الداخلية الأسبق، الذي يؤكد في مشهد من الفيلم أن الزمن لو عاد
به لكان سيفعل ما
فعله مجددا، وأن هذا كان الأسلوب الأمثل لمواجهة الارهاب، كل شيء في الفيلم
هو قدر
لا
حيلة لنا فيه، وكل فساد مبرر بقوة، وكلنا أبناء أخطاء قديمة لا نملك الا أن
نكون
نسخا منها.
للنظام
هيبته، قد يسكت علي الجريمة برغبته، ولكن الكبرياء رداؤه
والعظمة ازاره ومن نازعه فيهما قصمه. صرخة منصور حفني المجروحة حين حاولت
الحكومة
الايقاع بينه وبين أخيه: مفيش حكومة.. أنا الحكومة ، ثم تفجيره
لمبني استراحة
الضباط في أسيوط، هي كلها ما تدفع باتجاه الاقتحام المسلح بالمروحيات
والمدرعات
لقصره الذي جعل منه قلعة عسكرية محصنة. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا لم
يشر أفيش
الفيلم الي قصة عزت حنفي، امبراطور النخيلة، والي عملية اقتحام
جزيرته بالصعيد من
قبل قوات الأمن المصرية، أو علي الناحية الأخري، لماذا قيل أصلا في الأفيش
أن
الفيلم مستوحي من قصة حقيقية. بالنسبة لمن يحبون السينما، كان الفيلم ليصبح
ممتعا
بدون أية اشارة الي حقيقة ما، وبالنسبة لمن يريدون فهم
المجتمع، كان الفيلم ليصبح
مهما اذا تمت الاشارة صراحة الي اسم عزت حنفي.
ہہہ
هناك مثل
صعيدي مفاده أن
الحكومة تنتهي عندما ينتهي الأسفلت، في ظل هذا المثل احتمي
المطاريد بالجبل، غير
المسفلت والذي لا تطاله الحكومة بالتالي. هنا يحتمي منصور حفني بالمطاريد،
المحتمين
بالجبل، ويحتمي الجميع بالجزيرة، الجزيرة المحاطة بالبحر من جانب والجبل من
جانب
آخر. وتحاول الحكومة الوصول الي منصور، تحاول خلخلة النظام
الصارم الذي أقامه في
الجزيرة والذي لا يتضرر من وجود المخدرات والسلاح والثأر والمجرمين، ومنطقه
في هذا
هو
أن الناس مبسوطين ، فلماذا تتدخل الحكومة اذن؟ لأن هناك دولة، ولأن هناك
نظاما
ولا يجوز أن يقيم منصور دولة داخل الدولة. السلطة تفرض نفسها
لا باسم مصلحة الناس
ولكن باسم هيبتها الخاصة. ومنطق الدولة عليه أن يخضع جميع المناطق الأخري،
المناطق
الوعرة وغير المسفلتة المتناهية في الصغر، التي تنتهي الحكومة قبل بلوغها.
في
البداية يرفض منصور الانضواء تحت منطق الصعيد الخاص، يكون هو في البداية
الاستاذ
منصور اللي مبيحبش يلبس جلابيات زي اهل بلده أو الرافض في عناد
طفولي أن يكون هو
الكبير ، لكنه يتحول بعد ذلك لحامي كهنوت الصعيد، فالغريب من وجهة نظره لن
يفهم
الجزيرة أبدا، و الصح في الجزيرة يختلف عن الصح بخارجها. الصح عندينا غير
الصح
عنديكم ، هكذا يغلق الكبير الجزيرة علي قيمها ومنطقها ويحمل
مفتاحها، لا يتحصن
منصور الحفني فقط بالرجال وبالسلاح وانما بالمنطق أيضا، بمنطق الجزيرة
الخاص،
بصعيديته التي يغرق بداخلها شيئا فشيئا، ثم يحارب الجميع.
ربما كان
هذا الفيلم
هو التدشين الحقيقي لأحمد السقا، بصفته ممثلا جادا، مثلما كان
التخلي عن شخصية ابن
المدارس والتحول الي تاجر سلاح ومخدرات هو التدشين الحقيقي لمنصور حفني،
فهكذا هو
الأمر بالنسبة للسقا تماما، التخلي عن لهجته القاهرية والتحول الي صعيدية
سلسة
كأنما ولد بها، التخلي عن دور الذكر الشهم والمرح خفيف الظل
عند اللزوم والتحول الي
ذكر من نوع آخر، مجرم، بلا مشاعر انسانية زائدة، قاتل ولا يعترف الا بالقوة
التي
تخيف أعداءه.
هذه صورة
مثالية بالطبع عن الفيلم، فصناع الفيلم ـ وان كان يحسب
لهم عدم انهائه بمشهد مقتل منصور الكبير متلقيا زخات الرصاص ومترنحا ببهاء
القديسين
مثلما كانت عليه نهاية تيتو، وهي النهاية التي كانت متوقعة الي
حد كبير في هذا
الفيلم أيضا - أصروا علي جعل المرأة، وهي هنا كريمة حبيبته، هي نقطة الضعف
الدرامية
للبطل، هي التي لأجلها يقرر الصلح مع النجايحة والتخلي عن هيبته وهي التي
تستدرجه
في النهاية لتسليم نفسه. هي فكرة قديمة ورومانسية، ولكنها تتفق
مع مجاز البطل
التقليدي الذي يهزم الجميع ثم تهزمه المرأة، والفيلم، في وجه منه، يناقش
فكرة
البطولة لدي الناس، الناس الذين كان أبطالهم دوما وأبدا هم البلطجية
والارهابيون
وتجار المخدرات، وفيلم الجزيرة هو دليل جديد ورائع علي هذا.
كاتب
روائي
مصري
naeleltoukhy@yahoo.com
القدس العربي في 17
يناير 2008
|