ليست الأقطار العربية فقط لم تُشاهد فيلم {خزنة الألم} بعد (وربما لن
تشاهده) بل أيضاً لم يُشاهد في الدول التي تم توزيع الفيلم فيها (19 سوقاً)
الا بمقدار لم يتجاوز ستة عشر مليون دولار في عام ونصف منذ افتتاحه في
مهرجان ينيسيا الدولي. الآن، وبعد حصوله على ست جوائز أوسكار (بينها جائزة
للفيلم وجائزة للمخرجة) يُعاد طرحه سينمائياً في بعض الأسواق ويقف في
القائمة 33 في سلم الإيرادات بين الأفلام المعروضة عالمياً.
لكن الفتاوى التي خرجت بشأنه كثيرة معززة بالحاجة الى التعليق على
الفيلم بسبب حصوله على الأوسكار.
درجت العادة أن يذهب الأوسكار إلى أفلام شهدت عروضاً واسعة منتمية الى
القاعدة العريضة من الإنتاجات الهوليوودية. أما أن هذا الفيلم يختلف إذ هو
تمويل شركة صغيرة (اسمها ساميت) بميزانية لم تتعد الإثني عشر مليوناً (قبل
التسويق والترويج)، فإن الغالب إما قراءة مستنتجة وإما تأويلات مستوحاة او
ترجمات أجنبية من دون ذكر المصدر.
وإذا ما كانت المسألة الأولى المطروحة هي حصوله على الأوسكار عوض حصول
«أاتار» عليها رغم كل شيء يرمز إليه ويعكسه من بذخ وضخامة وركيزة صناعية
تلتقي وتاريخ هوليوود، فإن المسألة الثانية والقريبة جدّاً محاولة الحكم
حول ما إذا كان غروقه في الحديث عن محنة الجنود الأميركيين في الرحى،
وإغفاله معاناة العراقيين أمرا يقتضي المواجهة والنقد أم لا، هذا كما أن
الموضوع المطروح هو ما يمنح الفيلم قيمته الفنية وليس العكس.
تخصص
تؤم المخرجة بيغيلو هذا العمل من زاوية لم يسبق لأحد من المخرجين
الذين اشتغلوا على الموضوع العراقي أن أَمّها من قبل. إنها تتحدّث عن
«أولادنا في الحرب»، أي تلتزم بقصص البطولة الفردية في الحرب التي خاضتها
الولايات المتحدة في العراق بعد الإطاحة بنظام صدّام حسين، من دون أن
تتحدّث عن الحرب ذاتها. تصوّر محنة الجنود الأميركيين العاملين في العراق،
لكنها غير معنية بتصوير انعكاس الوضع على العراقيين الا لُماماً. هناك
أبرياء، يقول الفيلم، لكنه ليس معنياً بهم.
السؤال هو: ألا يحق للفيلم الأميركي أن يكون معنياً بالجنود
الأميركيين؟ إذا صنع العراقيون فيلماً عن معاناة العراقيين، هل سينتقد
الأميركيون غياب الحديث عن معاناة جنودهم؟
سيناريو مارك بوَال يقصد أن يضع في المقدّمة عناصر عسكرية متخصصة في
نزع الألغام والتعامل مع المتفجّرات، ورصد ما يمرّون به من مختلف مظاهر
الوجود في ثقافة وبيئة هم أغراب عنها، وما يشغلهم حول ما إذا كانوا سيعودون
أحياء الى بلادهم، او سيقضون نحبهم وهم يحاولون نزع فتيل من هنا او إبطال
مفعول لغم من هناك.
للكاتب (وللفيلم من بعده) الحق في التخصص بهذا المقدار، مادامت خلفيته
تتيح النظر الى البيئة التي يعيش فيها. وهذا ما نراه على الشاشة: مقدّمة
الشاشة هي للأميركيين، خلفية المشاهد هي للعراقيين، ولا ينفع لهذا التصميم
ومن زاوية سينمائية محضة، أن يفعل أي شيء آخر والا كان «خزنة الألم» فيلما
آخر ليس من ملكية مخرجته.
علاقات متأزمة
يعرّفنا الفيلم بوليام جيمس (جيرمي رَنر) المتخصص في وحدة نزع
الألغام. لديه أسلوبه الذي لا ينتمي الى النصوص النظامية المعهودة ما يُثير
خشية رفاقه منه. فبعض هؤلاء لديه نحو خمسة أسابيع ثم يعود الى وطنه وهو لا
يود أن يقضي بسبب خطأ يرتكبه.
هذه الخشية تدفع السرجنت ساندبورن (الأفرو- أميركي أنطوني ماكي)
والخبير الآخر مات (غاي بيرس) الى التفكير بالتخلّص من وليام غدراً. هناك
صبي يبيع اسطوانات الأفلام (كرستوفر صايغ) وجيمس يصادقه، ثم يفتقده حين
يختفي، ويجده لاحقاً ميّتاً وقد تم زرع أحشائه بالمواد المتفجّرة.
غاضب مما حدث يحاول معرفة الجناة وحث رفيقيه على معاونته. لكن مات
يُصاب في حادثة إطلاق نار بالخطأ بين قوّتين أميركيّتين، لكنه يلوم وليام
على ذلك. في الفصل الأخير، ينطلق جيمس وساندبورن لمعالجة وضع خطر: عراقي تم
إجباره على ارتداء أحزمة متفجّرة يكشف للقوات الأميركية عن عدم رغبته في
الموت، مكرراً أنه يريد أن يعيش وأن لديه عائلة. هنا يضعنا الفيلم في وجهة
نظر لا تنازل فيها هي وجهة نظر الأميركي جيمس: هو لا يدري ما إذا كان
المواطن العراقي يكذب ويريد استدراجه للاقتراب لتفجير نفسه على أي حال او
لا. في الوقت ذاته، جيمس يريد أن ينقذه، لكن لا وقت لذلك. العملية تنتهي
بانفجار المواطن. الفيلم ينتهي بعودة جيمس الى أميركا حيث زوجته وابنه،
لكنه غير قادر على التأقلم وها هو يستعد للعودة الى العراق.
أصغر كاميرا سينمائية
بنى الكاتب موضوعه هذا على معاينة عن كثب، فهو صحافي أمضى ردحاً من
الزمن في تلك الحرب، لذلك فإن الحديث ليس محض خيالي والمخرجة تدعم هذا عن
طريق تفعيل أسلوب عمل قائم على توثيق ما هو تمثيلي. تُدير عملية فيلمية
قائمة على التصوير بكاميرا دجيتال صغيرة جدّاً اسمها
Aaton A Minima
توصف بأنها أصغر كاميرا سينمائية في العالم (مدير التصوير هو باري أكرويد
الذي منح فيلم «يونايتد 93» قبل ثلاث سنوات خصوصيّته)، وعلى توليف متوتّر
وبمزاج واقعي (قام به كل من كريس إينيس وبوب موراسكي وكلاهما عمل على
«سبايدرمان 3») وهي تعرف ما تقوم به لكونها حققت أفلام أكشن حادّة ومتوتّرة
وشيّقة من قبل، ولو أنها هنا تبحر في معالجة بصرية مختلفة حيث عليها أن
تعمد الى أسلوب الريبورتاج من دون أن تنسى أنها تحقق، في نهاية المطاف
فيلماً روائياً.
هذا يخلق فيلماً ذا شحنة قويّة مختلفا عن الأفلام التي عالجت الحرب
العراقية من قبل، باستثناء ذلك الفيلم الرائع الذي حققه المخرج برايان دي
بالما بعنوان «تنقيح» قبل ثلاث سنوات، ووجد إقبالاً أقل حتى من ذاك الذي
وجده هذا الفيلم. الاختلاف بينهما ليس تقنياً او سردياً (رغم تباين
الأسلوب) ففيلم دي بالما معاد للحرب وللجنود الأميركيين الذين يخوضونها، في
حين أن «خزنة الألم» ضد الحرب لكنه مع الجنود الأميركيين.
كل شيء ممكن في الحرب
العلاقات بين الجنود الأميركيين أنفسهم متأزّمة، التفكير بالتخلّص من
وليام تأميناً لحياة رفيقيه من المفترض به أن يصدم المشاهد الأميركي، كذلك
اللوم الذي يلقيه أحدهما على وليام بعد إصابته. كل شيء ممكن في الحرب التي
تصوّرها بيغيلو، بما في ذلك تهاوي العلاقات الداخلية وتهاوي الإنسان معه.
إذ يقرر وليام العودة الى الحرب يكشف عن أن حتى حياة طبيعية مع أسرته
الصغيرة لم تعد تساوي التآلف الذي تطبّع بين وليام الأرعن وبين خطر الموت
المتمثّل في تلك الحرب.
في مطلع الفيلم عبارة تقول: «الحرب مخدّر»، وفي نهايته رفض المجنّد
وليام جيمس الحياة المدنية وبينهما جحيم غير طبيعي. ربما كان على بيغيلو أن
تنظر قليلاً الى الطرف الآخر أكثر مما فعلت، لكن هذا ليس ضرورياً. لديها في
هذا الفيلم كل المادّة التي لديها لتصوّر الحرب كجحيم والأميركي كضحية، ومن
حقّها أن تفعل ذلك.
بطاقة الفيلم
• الفيلم: خزنة الألم
The
Hurt Locker
• إخراج: كاثرين بيغيلو
• تمثيل: جيريمي رَنر، أنطوني ماكي، غاي
بيرس، سهيل الدبّاش، نبيل قندي، راف فاينس
• النوع: حرب العراق
• إنتاج: الولايات المتحدة (2008)
17/03/2010
أوراق ناقد
حديث الخطب العصماء
يحب هذا الناقد الوصول الى بيت القصيد مباشرة، مثل سهم ينطلق بخط
مستقيم ليصيب هدفه. لا يلتوي ولا يصعد ولا يهبط ويوصل الرسالة.
لكن ربما لأننا شعب تعوّد على الخطابة وكانت له مآثره الأدبية من
العصر الجاهلي وصولاً إلى العصر الأندلسي وما بعد، وربما لأننا قوم نقدّر
الكلمة أكثر من الصورة (والى اليوم)، او ربما لأن السينما في الأساس ليست
اختراعاً عربياً (والا لتم وأدها على ما أعتقد)، فإن كتابة النقد السينمائي
عند غالبية الذين يكتبونه لا يزال خاضعاً لعملية نصوص طويلة تبدأ بالتمهيد
(وعادة بعبارة «مما لا شك فيه») ثم يليها تفسير التمهيد، وبعد ذلك تلخيص
الحكاية (وهي عملية تشبه ملء الفراغ أكثر مما هي إيجاز فعلي)، وبعد ذلك
هناك القراءة والتحليل وصولاً الى النهاية التي كان من الممكن أن تأتي
أبكر، لو أن المادّة النقدية كانت ملتصقة بالفيلم وليست بالعمل الإنشائي
للنقد.
خلال هذا النص على الناقد، بحسب رأيه، تأكيد أن قراءته صحيحة لا
يخالجها أي خطأ او حتى احتمال خطأ. فيستعين بكل الكلمات (بدءاً من «مما لا
شك فيه») التي من شأنها تأكيد ما يقوله هو. لكن ما يقوله هو وما أقوله أنا
وما يقوله مليون شخص آخر يختلف من شخص الى آخر. ما يجعله يتوحّد لا ما
يقوله المرء منا، بل ما يقوله الفيلم.
ولمعرفة ما يقوله الفيلم هناك عاملان مهمان هما - من دون ترتيب- قراءة
الصورة قراءة صحيحة ومعرفة خلفيات الفيلم والمعلومات التي لا يداخلها الرأي
بل هي حقائق. مثلاً، في نقد فيلم «أاتار» كتب البعض عن أن الفيلم يدور حول
المارينز الأميركيين الذين يهاجمون شعب «ناي» فوق كوكب باندورا لاستعمارهم،
وكرر كلمة المارينز وبنى عليها وأشاد. لكن الحقيقة، حسب الفيلم الذي هو
المرجع الأول، أن القوّة العسكرية التي فوق ذلك الكوكب هي ليست مارينزا ولو
أن بطل الفيلم هو جندي مارينز سابق. بالتالي الحديث عن المارينز كعنوان
للاستعمار الأميركي الجديد وسواه ليس دقيقاً، خصوصاً أن تلك القوّة أميركية
لكنها مرسلة في العام 2154 من ق.بل حكومة أرضية موحّدة.
تهمة الاستعمار إذن هي تهمة لاصقة بالحكومات الأرضية في ذلك المستقبل
التي فوّضت القوّة الأميركية لانتهاك عالم شعب «ناي» بحثاً عن الثروات
الهائلة في أرضه. نقطة نهاية السطر ولا داعي للشرح والاستفاضة في دور
أميركي او صيني او صومالي في غزو العالم وتدمير شعوبه.
القارئ يفهم الفيلم أحياناً أكثر من أفضل ناقد. كل ما يريده هو أن
يقرأ المعلومات التي لم تتوافر لديه والرأي من الناقد الذي يحب قراءته. نعم
يذكر الناقد ما يذكره الفيلم من أن الإنسان سطا على مقدّرات الشعوب الأضعف
لكن هذا يرد في عبارة او فقرة بالكثير وانتهى أمره. هات غيره.
لا أحاول أن أعلّم أحداً كيف يكتب، لكن المسألة منتشرة قبل فيلم جيمس
كاميرون وستبقى بعده أيضاً. ما أفعله هو أنني أقرأ في هذه الظاهرة التي لا
تريد أن تتوقّف، والتي يدعمها الكاتب من منطلق «أنا من يعلم وسألقي درساً
في الموضوع».
ما أريد قوله هو أن كوننا لسنا أهل صورة جعلنا أهل كلام، وهذا منتشر
في السينما وفي سواها. الخطابات الطويلة والحوارات الطويلة في معظم
الأفلام، 400 محطة فضائية معظمها لا يسمن ولا يغني عن جوع، الثرثرة على
التلفون، ساعات المقاهي الطويلة، المقالات التي تمتد وتمتد بلا نهاية،
والنقد السينمائي الذي عوض أن يستفيد من لغة الصورة والمونتاج والإيقاع
وثراء المادّة، تراه يرتاح الى إيقاعه الخاص والى ما يريد هو أن يكتبه..
أصاب في ذلك او لم يصب.
القبس الكويتية في
17/03/2010 |