حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

جوائز الأكاديمية الأمريكية للفيلم (أوسكار) ـ 2010

ثلاث نساء في أفلام الأميركي «بريشس» والتركي «لتكن حياة» والبرازيلي «انجراف»

محـــن البـــراءة

زياد الخزاعي

بريشس، صبية أميركية من أصول أفريقية، تعاني بدانة مفرطة. طالبة فاشلة، يصل تعليمها إلى طريق مسدودة، الأمر الذي يُحيلها إلى إنسان أميّ نادر العملة في وسط حداثي. يفاعتها مقصية، وبسبب ذلك لا يفتأ الجميع من إهانتها ووضع المقالب في طريقها، باعتبارها كائناً يحمل من العزلة الداخلية ما يجعله قليل الحصانة، ضعيف الدفاع. وهي أم لطفلة، فيما تنتظر الوليد الثاني، وكلاهما ثمرة اعتداء وحشي من والدها المدمن. توظّف بريشس انتقامها الشخصي من أولئك الذين حطّوا من قدرها وأمومتها التي أُجبرت عليها، وتذهب نحو القسوة المطلقة، لكن في اتجاه الانتقام بالنجاح.

حياة، صبية حسناء تركية، تعيش عند حواف البوسفور وضواحي اسطنبول، في كنف والدها القوّاد والمهرّب والمتاجر بكل شيء، وجدها العجوز المتهالك والعليل، الذي لا يكفّ عن النقّ والتحايل من أجل استكمال متعه الحياتية الناقصة، على الرغم من تداعياتها القاتلة على ما تبقّى من صحته المتهالكة. تعاني حياة شهوات الآخرين، الذين ينحون جانباً طهارتها سعياً إلى نيل لمسة أو تحسّس مريض لجسدها البضّ، إشفاء لغليل اشتعالاتهم الجنسية. أمام حقاراتهم الذكورية، تنتقم الصبية من الجميع، بالمزيد من الرعونة الجسدية وحركات الشبق التحريضية. إنها الوسيلة الأزلية في الإيقاع بالزناة.

فيليبا، كما نظيرتها حياة، تبلغ من العمر الرابعة عشرة، وتعيش يومياتها الملولة مع عائلتها في منتجع عند شواطئ المحيط. لكن انقلاب والدها الكاتب ووقوعه في أسر علاقة غرامية، تحيل حياتها إلى جحيم من الأسئلة الباحثة عن طرفي اللعنة الأسرية: زيجة والديها التي تشهد انهيارها المتعجّل، وفورة الإحساس الجنسي الذي يداعب مخيلتها في الانتقام عبره من الخيانة غير المنصفة.

هذه محن ثلاث للبراءات، وجدت تقابلاتها الدرامية في باكورة المخرج الأميركي لي دانيالز، الذي اقتبسه عن رواية الكاتبة سابفير، فرمى جمرة حارقة جعلت من نجوم المجتمع الأميركي ـ الأفريقي، وعلى رأسهم مقدمة البرامج الشهيرة أوبرا وينفري، يتهافتون على دعم الفيلم لمراراته الاجتماعية؛ فيما جاء صاحب «مواقيت ورياح» (2006) التركي المميّز ريحا أورديم ليلعن مرّة أخرى مصائب العائلة المنعزلة، التي تضع حدودها الجغرافية والإيمانية في تضاد مع النمو الطبيعي، الذي يجب أن يسري في أجساد اليافعين. أما البرازيلي هيتور داليا، فيمسك بعصا الإذلال الشخصي من وسطها، ليحوّل الفاجعة المقبلة لبطلته الصبية، حين يختلي بها الرجل الوحش على يخته بعيداً عن شاطئ بوزيوز، حيث يبحث الأب المكلوم ماثياس (الفرنسي فنسنت كاسال) عن سبيل للاعتذار عن أنانيته عبر إنقاذ وليدته. تسعى هذه المحن إلى أن تعلّمنا دروساً في الأخلاق والعزوم، ومثلها الإيمان بالأُسر وأنسابها، كما هو الاقتناع بقوة الكائن المتحوّل وقدرته على الإمساك بزمام أمور نشأته والسير بقدره نحو الأمان. تُخبرنا محن البراءات هذه (من بين عناوين أخرى سنتصدى لها لاحقاً) عن صيرورة الشخصية والتعلّم الذاتي في معرفة الخير والشر؛ والإقرار بعلل مجتمعاتنا والحطّ العمومي الذي ينال من الكثرة الشابة المتوافرة في بشريتنا. تقول لنا هذه النصوص السينمائية حكايات تُحرّضنا على اتّخاذ الحذر الواجب في الرعاية والتعاطي مع كائنات غضّة تسبق الحنان على الإرغام، والتحبّب على الإلزام. كائنات نغفل حساسياتها وذكاءها وفورات العواطف التي تجتاحها.

الشخصيات الثلاث هذه خيوط ذهبية تتآلف حول الحياة، بأقدارها وملماتها؛ وتأخذ بضمائرنا نحو الفواجع التي تكاد تخطف كينوناتها. فبريشس تقف عند المَشَايِن المتمثّل بوالدتها المطلّقة، التي لا تبرح كرسيها أمام التلفزيون، وجوعها الدائم لمجّ سجائرها، والنكد الذي يغلّف يومها المنزلي الذي لا علاقة له بالخارج المتبدّل. صبية ـ أم ووالدتها في حيّز يلتهب بنيران الضغينة والنيل بالانتقام ضمن حيّز مقبض، كاتم هو عبارة عن غرفة وصالة صغيرة وسط الغيتو الزنجي. فما الذي يمكن أن يولد بين الأولى التي تعاني عداوات أقرانها الذين يرون فيها متناً من الهراء، والثانية المحتشدة بالكراهية لابنة، على الرغم من بشاعتها، متّهمة بسرقة والدها منها؟ البطلة الصبية وليدة علاقة جنسية صحية بين كائنين، لكنها تتحوّل إلى رمز للعار والنكاية، بعد هروب الأب الذي اقتنص لذّتين، أوصلته الثانية إلى زنى المحارم. وفي حيّز ملعون مقارب، تكابد التركية حياة بين عوالم ثلاثة: الأب الذي يلهج خلف الربح، حتى لو قاده الأمر إلى القوادة الجنسية للبحارة المارّين بخليج اسطنبول، والتحايل على السيّاح والكذب على مدينيه. والجدّ الذي يقترب من حتفه، لكنه يتمسّك بذلّه ومسكنته، ليبقى على هامش الحياة. والأم التي تركت مَنْ كانت تنعته بالمحنة، فولدت أخرى أكثر لعنة لابنتها المتفجّرة بالحُسن. إن وحدة الصبية حياة جعلت منها ذات خيال خصب ينوس بالمحيط الخارجي برعويته وأحراشه وعزلته، لتخلق من الطبيعة رحماً ولعبة وحصناً.

كلّما ضاق بها الحال مع الآخرين المتعجّلين إلى نيل فاكهة جسدها وعصارة فتوته، تركض إلى عناصر الحياة ذاتها، وهي الماء المتمثّل بالنهر، الذي تتخيّل ذات مرّة أنها سترمي شقيقها الوليد في لجته انتقاماً؛ والخضرة التي تحولها إلى مخابئ وسواتر، تراقب منها المتطفّلين والمنتقمين؛ وأخيراً الضياء، حيث تتحوّل مرآتها إلى بصّاصة تنقل نور الشمس إلى الأماكن التي تحلم أنها الأكثر طهارة. تمثّل حياة التركية روحاً هائمة، تركتها العائلة المفكّكة بين نضجها الذي يطلق علاماته على جسدها، فيحرّض صاحب محل البقالة على تحسّسه، فتبتزه بأخذ أكبر عدد من قواطع الشوكولاته التي تُغرم بأكلها أينما وقعت عليها يداها، وبين طبائع الحُدَيَّا حيث تتنمّر ضد الناس، وتتعمّدهم بالشتائم والضرب والأذى الجسدي.

لئن تقف بريشس (أداء ساطع لغابوري سيديبي) فوق حدّ النار، حيث تصرخ والدتها في وجهها «يا عاري الأبدي»؛ وتكمن حياة (ألييت إسكان) عند بوابة الهروب المؤجّل، غير عابئة بتأنيب والدها الدائم: «استُري فخذيك، أيتها الساقطة الصغيرة»؛ تكون البرازيلية فيليبا (لاورا نييفا) الشاهد والضحية على انهيار عالمها العائلي. فعلى الرغم من الطبيعة الساحرة الجمال حولها، واليوميات المفعمة بالرتابة، حيث تراقب دسائس زميلاتها المراهقات في اختطاف الصبيان، وتباريهن في الفوز بأولوية فقدان البكارة فوق صخور الجرف البحري المعزول، تتعرّف على ما هو أكثر عاراً في كيانها، ذلكم هو والدها الكاتب، الذي تتعسر الرواية على قلمه وورقته البيضاء، فيجد ضالته بمواقعات جنسية مع امرأة حسناء، تُشفي فيه ظلم التأليف الغائب، وتحوّله الى أب متعطل ومستهتر وفاقد الكرامة. تصرّ فيليبا على عدم البوح بسرّها، فهي رائية خرساء مثل التركية حياة، التي لا تُفصح عن لواعجها كما بريشس. ولن يتجسد انتصارها المضمر إلا إلى والدتها العازمة على الطلاق. مضمر، لأنها لا تريد خراب العائلة الحيوية. وبقدر هذا، تسعى إلى نقل المعركة من ساحة الوالدين المتخاصمين إلى محيطها الشخصي وداخلها المتقلب. ويكون هدفها مزدوجاً: فضح الرحم الجماعي الذي تمثّله المرأة الشابة، وهزّ قناعات الأب الخائن بوجوب الذود عن شرف ابنته المراهقة.

الانتقام

نرى أن القيمة الاجتماعية للصبية الأم بريشس تهبط إلى منتهاها الاعتباري، عندما تنقل كبواتها (وأوّلها طردها من المدرسة إثر اكتشاف حملها) إلى شهادات، تجعل معلمة المدرسة البديلة الآنسة بلو رين غارقة في أساها، قبل أن تذرف المسؤولة الاجتماعية الآنسة وايز (المطربة الشهيرة ماريا كيري) دموعها السخية، وتتغافل عن سرقة البطلة لملفها الشخصي، الذي يفتح لها حساباً جديداً من المعونات. حيلة بريشس جنحة لا تُغتفر، لكن الكليشيهات السينمائية للوجع الاجتماعي الأميركي تحوّل، دائماً، السقطات الشخصية للأبطال إلى انتصارات تتمّ بمساعدة آخرين، حتى لو تطلّب الأمر ارتكاب خدوش للقانون، سرعان ما تُرمّم بأساليب يغلب عليها نفس الفهلوة الفاجر. هكذا نرى محنة رايان بنغهام، بطل «عالياً في الأجواء»، تتكشف أمام كيانه وهو يصرف الموظّفين من أعمالهم، طبقاً لقانون الشركات، ليجد نفسه صنيعة خدعة أكبر لنظام مغال بتعقيده ومنفعيته من المليون ميل طيران، التي يسعى إلى تحقيقها، وهي شبيهة بخدعة الحمل التي ترى فيها مراهقة «جونو» لجايزون رايتمان أنها تأكيد لحرية خياراتها، وهي المقالة التي كان على ستيف لوبيز، بطل «العازف المنفرد» (2009) لجو رايت، أن يكتبها عن عازف موهوب مشرّد، ليكتشف أن المجتمع المتنمر لفظ آلافاً من أمثاله، في حين يؤلف بَدْ بليك، بطل فيلم سكوت كوبر «قلب مُتَيَّم»، أغنيته الأخيرة ليقتنع أن موسيقاه لن تفلح بجمعه مع الأم الشابة، التي فضّلت عليه كائناً آخر. ولن يختلف الأمر في زلّة الأم جين، التي تقودها إلى الفراش مع طليقها، بحجة أن غياب الجنس يفقد المرأة حيويتها، في «إنه أمر معقّد» لنانسي ميرز، وهو ما ينطبق على بطلة فيلم ريبيكا، ابنة الكاتب المسرحي آرثر ميلر، «الحياة الشخصية لبيبا لي»، التي تتوه بابن الجيران من دون أن تحلّ عقدتها مع الزوج المتصابي، وهي العقدة نفسها التي تذهب بالفلسطينية هيام عباس، كي تهجس التعاطف العابر مع البطل الأميركي في «زائر» توماس مكارثي. وهل ننكر أن حالة الإحباط التي تصيب أبريل، بطلة «شارع ريفيليوشن» لسام منديس، إثر خيانة زوجها، يجب أن تُعالج بإجهاض نفسها بيديها؟ هذه النماذج السينمائية لا تبتعد كثيراً عن حل بريشس، الذي يقودها إلى السرقة والكذب، أي إنه انتقام من سفاهة الآخرين ومجتمعهم، عبر مؤسّساته المؤثرة، التي تعتبر خلفيتيها الاثنتين من المحارم.

على المنوال نفسه، تتبع الصبيتان التركية حياة والبرازيلية فيليبا سياسة الانتقام هذه بوجهتين أخريين، إذ تلعن الأولى سبب أذاها المتمثّل بوالدتها، التي تخلّت عنها لصالح عائلة جديدة، فلا تجد سوى الهروب مع شاب يعمل في السياحة المائية، ظلّ يطاردها كي يثبت جدّية حبّه لها، ويتوجّهان معاً بقاربه السريع نحو أفق رحب، نقي موعود بالمغامرة الحياتية التي عبرت عنها ضحكتها الصاخبة؛ في حين تعي الثانية، وهي على نصل ارتكاب الحرام، أن تفقد بكاراتها عنوة، قبل أن تهرب سابحة نحو والدها المفجوع بغيابها، الذي يذرف لاحقاً دموع خطاياه، بعد أن وعى أنانيته و«كلبيته» الاجتماعية اللتين أوصلتاه إلى حضيض الخيانة الزوجية. ولا ريب في أن الكليشيهات في الحكايات الثلاث مبرّرة، لأن بطلاتها يفتقدن الحنّية والنخوة والأخيار حولهن، وهن نتاج محيط يصرّ على اعتبارهن هامشيات بلا حول، يعانين اللعنات والتجاهل على حدّ سواء.

ثقافات

تُرى، ما المغازي فيهن؟ أولاً، إن الأفلام الثلاثة تُجمع على أن ثقافتهن المتضاربة مفتاح حاسم في فهم مصائرهن وعائلاتهن ومحيطهن، إذ إن بريشس، الآتية من وسط مدقع الفقر، تشكل طلتها وزيها وأكسسواراتها نموذجاً للزنجي المحكوم بالمهانة الاجتماعية في بلد أوباما، الأمر الذي يعني أن الغيتو الذي أصرّ عليه المخرج دانيالز (إنه زنجي بدوره، مثل مؤلّفة الحكاية الأصلية) امتدادٌ لمعاناتها التي يداورها الممرض الوسيم جون ماكفادن (المغني ليني كرافيتس) كلعبة طبقية وهي على فراش الوضع حين يعنّفها: «كفّي عن العويل». ويصبح حلّها الوحيد الذي لقّنها الدرس المضمر: لا مكان للصراخ. بل امسكي الورقة الرابحة، التي تتجلّى في محاكمة الأم ماري (أداء صاعق للكوميدية مونيك) على يدي الموظفة الاجتماعية في المشهد الختامي الصاعق، وكشف تجنياتها على ابنتها طمعاً بالمزيد من أموال المعونات. في حالة حياة، التي نراها طوال الفيلم ترتدي ثوبها الهفهاف المتماشي مع بقعتها الطبيعية الطلقة، فإن وجود الثلاثي المتشكّل من الأب والجد والأم المقصّية، يؤذن بقرارها النهائي في الخروج من فراغ حياتها وإنهاء حالات الشبق التي تحيط بها من كل حدب. إن إلقاء القبض على الأب الفاسد، وتدهور علّة الثاني، وغيبة الأخيرة تشكّل دفقة قدرية إلى قرار حياة بالانعتاق من قدرها الأسود.

وحدها فيليبا الناجية من تضخّم طبقيتها المتوسطة، التي تجعل من يومها أشبه بالموت، حيث أن التوافر الدائم لمتطلباتها الشخصية يتحوّل، مع كل مشهد، إلى عبء أخلاقي، يكرّس ضياعها، ويحرّضــها على اللامبالاة، قبل أن تكتشف لماذا ينهار حصــنُها العائــلي. إن الأمر الذي يعقّد أحوال الصبية كامن في المحتد الثقافي المرموق لوالديها، الذي لن يمنع الإثم مــن الوقوع مع السائحة الأجنبية. وما الرحلة ـ الخطأ التي تقوم بها سوى الوجه المقابل للخطيئة الأبوية التي عليـها أن تكف عن الحياة.

تحيلنا الأفلام الثلاثة إلى الأسئلة التالية: هل حقاً نستمع إلى يافعينا؟ هل نحقّق لهم أمانهم الشخصي والعلائقي الصحي؟ كم هو مقدار الخشية الذي يعصف بنا، إن زحفت الزلّة إلى حيواتهم وكراماتهم ومعارفهم؟ بل كم هو مقدار استثمارنا كبالغين إلى حذاقاتهم وبصائرهم التي تتستر بأوجه البراءات، التي طالما ندوس على مبادراتها وأحلامها واندفاعاتها؟

)لندن(

السفير اللبنانية في

05/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)