ملفات خاصة

 
 
 

محمد الأخضر حامينا.. كيف إستطاع أن يُشكل صورة الجزائر؟

نـاهـد صـلاح

عن رحيل صاحب السعفة الذهبية

محمد لخضر حامينا

   
 
 
 
 
 
 

جاء ترتيب فيلمه "ريح الأوراس" (1966 – أبيض واسود – 95 دقيقة) في المرتبة 33 لاستفتاء أفضل 100 فيلم عن المرأة في مهرجان أسوان الدولي لسينما المرأة، الاستفتاء الذي قمت أعددته بإشراف من الناقد الكبير كمال رمزي، وشارك فيه نحو 70 ناقدًا عربيًا، حينها في العام 2021، أي بعد 55 عامًا من ظهور الفيلم، لاحقتني صورة تلك الأم المتشبثة بالأسلاك الشائكة وهي تموت واقفة، تتماوج مع صورة قديمة لـ محمد الأخضر حامينا، مخرج الفيلم الجزائري الشهير والشريك في كتابة السيناريو مع توفيق فارس. الأم هي نموذج ناصع للمرأة الجزائرية التي واجهت محنًا مختلفة بكثير من الحب والصبر في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، والأخضر حامينا بدون قبعة وبهذه النظرة العميقة التي تكاد تقفز من إطار صورته القديمة إلى حاضر مرتبك يستند على تاريخه ولا يتيقن من مستقبله. مفارقة تتبين بتوالي الأزمنة وتجلت في الدورة الـ 78 من مهرجان كان الدولي (من 13 إلى 24 مايو 2025)، حين رحل محمد الأخضر حامينا في الثالث والعشرين من مايو، الموعد الذي اختاره المهرجان لعرض النسخة المرمّمة بجودة 4K لـ "وقائع سنين الجمر" في برنامج "كلاسيكيات كان" تكريمًا للمخرج بعد 50 عامًا من تتويجهِ بجائزة السعفة الذهبية سنة 1975 – السعفة الذهبية الوحيدة التي حصلت عليها السينما العربية حتى الآن، لم ينل "ريح الأوراس" السعفة الذهبية حين شارك به في العام 1967، لكنه فاز بجائزة العمل الأول. لم يشهد حامينا يوم تكريمه وعرض فيلمه، لكنها المصادفة التي تجعل اسمه يرتبط بمهرجان كان ويتقاطع معه في البداية والنهاية.

ثمة روح ثورية في "وقائع سنين الجمر" يطرحها الفيلم كما يوثق معاناة الجزائريين اليومية، نعم إنه يغوص في قلب الصراع مع مستعمر يُواجهونه بشراسة، يعرفون أن السكوت والتخاذل جريمة وخراب وكارثة كبرى، الاستعمار الفرنسي هو الجحيم ذاته الذي عاشه الجزائريين: مجازر ومياه مسممة وأطفال يموتون بالوباء ومقاومة مسلحة تظهر كرد فعل طبيعي: "الاستعمار دخل بالسلاح ولا بد أن يخرج بالسلاح". إنها وقائع تاريخ الجزائر النضالي، والذي غطته مساحات الدماء الحمراء، من أجل نيل الاستقلال والحرية، عبر ستة فصول تبدأ في العام 1939 وينتهي في 11 نوفمبر 1954: سنوات الرماد، سنوات الجمر، سنوات النار، سنة العربة، سنة المسؤول، ملحمة تاريخية مبهرة تحكي عن الاختبار الصعب الذي مرت به الجزائر وشعبها، أراد حامينا أن يحكي عن شعبه ونضاله الوطني، يحاكي مواجعهم وصراعهم من أجل البقاء، الصراع مع الجمود والتخلف والاستعمار.. الصورة أخاذة لكن إلى أي مدى كانت مؤثرة؟ لعل الإجابة في السعفة الذهبية التي حصل عليها قد تكفي، فلم يزل هو العربي الوحيد الحاصل على السعفة الذهبية، هناك سينمائيون عرب حصلوا على جوائز أخرى على مدار سنوات لاحقة، لكن يظل الفوز بإحدى جوائز المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" هو المهم، إذ إن سينمائيين عربًا عديدين شاركوا في المهرجان، سواء في المسابقة الرسمية أو في مسابقات أخرى، وحصلوا على جوائز متفرقة.

على أية حال فإن فيلم "وقائع سنوات الجمر" يبقى هو صاحب السعفة الذهبية الأولى، وإن لم يتمكن "ريح الأوراس" سوى الحصول على جائزة العمل الأول، فإنه يظل الفيلم الأقرب إلى قلبي، فمن خلاله لا نكتشف فقط تفاصيل مؤثرة في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر والمقاومة الجزائرية، إنما أيضًا نتعرف على الحكايات الفردية لناس وبشر واجهوا وكافحوا وصبروا، من أجل حق الأرض وغد الأبناء ومستقبلهم، قراءة في 95 دقيقة للحظة الجزائرية حينذاك تتسم بالبراعة السينمائية في جعل الصورة انعكاسًا للواقع.

صور الفيلم معاناة سيدة جزائرية هي أم فلاحة (كلثوم) من منطقة الأوراس، قصفت قريتها بالقنابل وقتل زوجها واعتقل الفرنسيون ابنها، فراحت تبحث عنه يبن معسكرات الاعتقال حتى تجده في إحداها فتكتفي بمتابعته بنظراتها كل يوم من خلف الأسلاك الشائكة، لكنه عندما يختفي مرة أخرى تفقد وعيها وتلقي بنفسها على الأسلاك الشائكة التي تصقعها.

الحكاية مُترعة بالرموز التي تشير إلى قوة المقاومة والتأكيد على عجز الاستعمار عن طمس الهوية الجزائرية، نتوغل معه في بيئة الأوراس الصعبة جغرافيًا، وما تعانيه من طغيان الاحتلال، تمكن حامينا من جذبنا إلى هذه المنطقة بدرجة تورطنا عاطفيًا وإنفعاليًا في تفاصيلها الإنسانية، الموضوع واقعي جدًا ومنسوج بمهارة وشاعرية مدهشة، تجعلنا نتساءل: هل يمكن كل هذا الوجع يخلق هذا الجمال؟.. لا تفارقني مشاهد الأم خلف الأسلاك الشائكة وهي تحاول أن تتابع مصير ابنها الذي سجنه المستعمر، بسيطة وعفوية، إنها جزء من الطبيعة التي تحيطها، ولأنها كذلك فعلًا تموت في نقطتها كأن الطبيعة تكتمل بها.

لا أستغرب، ولا أظن أن أحد ربما يفعل، من أن حامينا صنع مشروعه السينمائي بأفلام تحكي حكاية الجزائر والمقاومة للاستعمار الفرنسي، فهذه حكايته الشخصية التي لا تنفصل عن شعبه وناسه، إنه ينتمي إلى هذا الجيل المقاوم الذي خاض معارك الاستقلال، ومن البديهي أن يبرز ذلك في أفلامه التي توالت بعد هذين الفيلمين، ويشتبك أكثر مع بيئته بكل تفاصيلها القاسية كما فعل في "ريح الرمل" (1982) قصة وسيناريو وحوار: الشيخ بن عيسى، علي السوتي، حيث ينطلق في أرض إبداعية وعرة بقرية صحراوية وموضوع إجتماعي، إنساني ينبع من جغرافيا شديدة القسوة، خصوصًا فيما يتعلق بالمرأة، بينما ينتقل بنا إلى قرية صحراوية أخرى في فيلم من تأليفه "الصورة الأخيرة" (1986) تدور أحداثه في العام 1939، قبيل الحرب العالمية الثانية، من خلال مُدرسة تحضر من العاصمة وتواجه تقاليد مجتمع القرية، بين رفض وحب مثل تلميذها الشاب الصغير "مولود" الذي يشعر بمشاعر عاطفية تجاهها.

إنها إذًا سينما المؤلف التي انتمى إليها محمد الأخضر حامينا بشكل أو أخر، وأرسته إلى فيلمه الخامس "غروب الظلال" (2014)، أخر أفلامه الذي يعود من خلاله مرة أخرى إلى الحرب الجزائرية، يعاود الحضور إلى جبال الأوراس ويحكي لنا حكاية أخرى من حكايات المقاومة والاستقلال.. خمسة أفلام طويلة والعديد من الأفلام القصيرة هي رصيده الذي يوثق لبلاده جغرافيا ومقاومة، لم يكن مشروعه ترفًا إبداعيًا، بل سؤال مفعم بالجماليات الفنية ينقل أهوال وطن وسِيَر بشرية غارقة في شقاء وقهر وتمرد حتى الموت أو الاستقلال.

 

جريدة القاهرة في

03.06.2025

 
 
 
 
 

محمد الأخضر حمينة… نهاية تليق بشاعر الصورة

سالم الإبراهيمي

في الجزائر العاصمة، يوم الجمعة 23 مايو، غاب عن عالمنا محمد الأخضر حمينة، أحد أعظم المخرجين في تاريخ السينما الجزائرية والعربية. كانت وفاته بحد ذاتها مشهدًا سينمائيًا، لرجل عاش من أجل السينما، ووهب عمره لها.

وفي التوقيت نفسه، وعلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط، كان مهرجان كان السينمائي يعرض ضمن قسم «كلاسيكيات كان» نسخة مرمّمة بدقّة 4K من تحفته الخالدة «وقائع سنين الجمر». الفيلم الذي لا يزال حتى اليوم الإنجاز العربي والإفريقي الوحيد الذي حصد سعفة كان الذهبية. إنجاز يفخر به كل جزائري، دون أن يخمد الأمل بأن يكرّم فيلم عربي أو إفريقي آخر يومًا بهذه الجائزة المرموقة.

في قاعة «بوينييل» بقصر المهرجانات، كنا جميعًا ننتظر بشغف لحظة عرض الفيلم مجددًا. وقد رُمّم العمل بروعة تحت إشراف المخرج الراحل نفسه، في احتفاء بخمسين عامًا على عرضه الأول، وبالإنجاز الكبير الذي حققه، وبالرجل الذي تخيّل هذا العمل وجعله واقعًا.

كنت على علم بالشغف الذي وضعه أبناء الأخضر حمينة — مروان، مالك، وطارق — في هذا الحدث، مدعومين بحماسة الموزّع مالك علي يحيى، والمغني والممثل والمنتج سفيان زيرماني. وفي اليوم السابق للعرض، سارت مجموعة من السينمائيين الجزائريين على السجادة الحمراء في كان، تكريمًا للفيلم وصاحبه. كنت من بينهم، إلى جانب مالك لخضر حمينة وزوجته، والصحفي ومدير مهرجان عنابة محمد علّال، والصحفية هنا غزّار بوعكاز، والمنتج تقي الدين إسعاد، والممثلة سارة لعلامة، والفنانة كاميليا جوردانا، وسفيان زيرماني.

في اليوم التالي، اجتاحنا وقائع سنين الجمر بمشاعره وقوته. قد يكون الفخر والانتماء قد لونا نظرتنا، لكنني على يقين أن كل من كان في القاعة — جزائريًا كان أو غير ذلك — تأثر بعظمة هذا العمل. النسخة المرمّمة كشفت عن عمق لغته البصرية، وبعده الملحمي، وإخراجه الذي منح شخصياته وممثليه كرامة إنسانية وسط كفاح يعنينا جميعًا.

ذُرفت الدموع في المشاهد الختامية، أعقبتها تصفيقات طويلة وقوفًا، لكننا خرجنا من القاعة بفرح. بالنسبة للبعض كان لقاءً متجددًا، ولآخرين لقاءً أول مع الفيلم والمخرج. ثم، وبعد أقل من ساعة، وصلنا النبأ: محمد الأخضر حمينة قد رحل.

في الفيلم، يؤدي الأخضر حمينة دور «ميلود»، الرجل الذي يراه البعض مجنون القرية، بينما هو أقرب إلى نبيّ. يصرخ في الأحياء والموتى بكلمات قوية، ذكية، ومحمّلة بالمعنى، مستوحاة دون شك من روحه. وفي النهاية، حين تتحقق نداءاته بالحرية، ويُنتزع الاستقلال بعد الألم، يختفي في هدوء، مستلقيًا بين القبور التي طالما خاطبها، ليستريح أخيرًا في جنّته الأبدية.

ربما، في تلك اللحظة بالضبط، كان محمد الأخضر حمينة يودّع عالمنا على الضفة الأخرى، في توازٍ مؤثّر مع ما رسمه في فيلمه. وبينما كان جيل جديد من السينمائيين الجزائريين يحتفي بإرثه في المكان ذاته الذي تُوّج فيه قبل خمسين عامًا، انسحب هو في صمت، تمامًا كما فعل «ميلود».

كان شاعرًا بالصورة كما بالكلمة، وفي رحيله أيضًا، كان شاعرًا. كانت النهاية مثالية لحكّاء عظيم. مشهد وداع سينمائي يليق به.

ولا شيء من هذا ينقص من حزن من عرفوه وأحبوه. لكن، هكذا ترحل الأساطير. ولهذا تبقى أسطورتهم خالدة.

 

موقع "فاصلة" السعودي في

05.06.2025

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004