| 
		
		
		نمير عبد المسيح لـ «فاصلة»:  
		
		
		«الحياة بعد سهام» محاولة أخيرة لوداع أمي 
		
		
		هيثم مفيد 
		
		في اليوم الذي رحلت فيه والدة المخرج المصري الفرنسي نمير 
		عبد المسيح، اتصل بالمصور السينمائي نيكولا دوشين لتصوير الجنازة، لكنه 
		اعتذر بسبب سفره المفاجئ. وبعد دقائق قليلة، أُلغي سفره وآتى لإتمام 
		المهمة. يتذكر عبد المسيح هذا اليوم قائلًا: “وكأن أمي أرادت توثيق هذه 
		اللحظة”. 
		
		وبعد مرور عشر سنوات على ذاك اليوم، اكتمل الفيلم بعدما ظن 
		نمير أنه سيدفنه إلى الأبد، وعرض المخرج فيلمه 
		“الحياة 
		بعد سهام”
		
		
		للمرة الأولى خلال الدورة الثامنة والسبعين من مهرجان كان السينمائي، ضمن 
		برنامج 
		ACID 
		
		للاكتشافات المستقلة الجريئة. كما عُرض مؤخرًا ضمن مسابقة الأفلام 
		الوثائقية بمهرجان الجونة السينمائي في نسخته الثامنة، وحصد جائزتي أفضل 
		فيلم عربي ونجمة الجونة الفضية. 
		
		ما بدأ محاولة يغلفها الألم لتوثيق جنازة، تحول ببطء إلى 
		استكشاف عميق للعائلة والجذور. في هذا العمل الذي يبني سرده على أسس من 
		الأرشيف العائلي؛ لا يكتفي عبد المسيح بسرد قصته الخاصة وقصة والديه (سهام 
		ووجيه) اللذان تركا بصمتهما على حياته بين مصر وباريس، بل يقدم تأملاً  
		للفقد والأسرة والذاكرة والقوة العلاجية للسينما. 
		·       
		
		
		ما اللحظة التي شعرت فيها أن اللقطات الشخصية المؤلمة التي 
		اختزنتها سنوات قد تحولت بالفعل إلى فيلم سينمائي؟ وماذا مثلت لك تلك 
		اللحظة؟ 
		
		في اليوم الذي توفيت فيه والدتي، هاتفتُ المصور وقلتُ له: 
		‘تعالَ لنصوّر الجنازة’. كان قرار التصوير نابعًا من وعد؛ إذ كان لدينا 
		مشروع فيلم جديد نعمل عليه مع والدتي، وكان هذا الفيلم بمثابة وسيلة 
		لإبقائها على قيد الحياة. 
		
		بعد أن انتهيتُ من التصوير، مكثتُ سنين دون أن أستخدم هذه 
		المواد، ولم تكن لدي فكرة عما إذا كنتُ سأصنع فيلمًا أم لا، إلى أن أتى أحد 
		أصدقائي المحررين (مونتير) إلى المنزل وشاهد ما صورته، وقال لي: ‘يوجد فيلم 
		هنا؛ هذه ليست قصتك أنت وحدك، بل هي شيء أكبر من ذلك’. وهذا ما دفعني 
		لتحويل هذه الحكاية شديدة الخصوصية إلى فيلم يستطيع أي شخص أن يجد رابطًا 
		معه. 
		
		فهذه القصة لا تتحدث عن نمير ووالده أو عن علاقته بأمه، 
		ولكنها تحكي عن الفراق، وتحكي عن الحب، وتحكي عن العلاقة بين ابن وأمه، 
		وتحكي عن الطفولة، وتحكي عن كيف يعيش المرء بعد رحيل أحبائه؛ لأن هذا أمرٌ 
		سيطولنا جميعًا لا محالة. لذا، قلتُ في النهاية سيكون هذا مسارًا مهمًا 
		بالنسبة لي، وربما يكون مهمًا للجمهور أن نسرد فصول هذه الرحلة. 
		·       
		
		
		قلتفي تصريحات سابقة أن دافعك للتصوير بعد وفاة والدتك كان 
		“غريزة ملحة” و”رد فعل”. كيف تصف هذا النوع من الحاجة الإنسانية للتصوير في 
		مواجهة الفقد؟  
		
		هي ليست غريزة بقدر ما هي نوع من الحاجة. كان التصوير 
		بالنسبة لي وسيلة كيلا أشعر بالألم. فلو تعاملتُ مع هذا الألم بمفردي لكان 
		الأمر صعبًا عليّ، ولكن إن حوّلتُ هذا الألم إلى فيلم، فسيمنحني مسافةً لكي 
		أشعر بأنني ما زلتُ أحيا وأنجز شيئاً ما، مسافةً لا أشعر معها بالألم. ولكن 
		في نهاية المطاف، هذا ما لم يحدث، وهذه نقطة إيجابية في الحقيقة؛ لأن 
		الفيلم ساعدني في معالجة الألم ذاته. 
		
		في رأيي، بإمكاننا أن نودّع أحباءنا بعد وفاتهم، ولكن الأمر 
		يستغرق وقتًا طويلاً كي ندرك رحيلهم. لم أستطع أن أقول لوالدتي وداعًا، 
		فصنعتُ هذا الفيلم لكي أودّعها به. 
		·       
		
		
		وكيف تعاملت مع مشاعر الفقد؟ 
		
		هذا سؤالٌ صعب للغاية، لكنني سأحاول الإجابة؛ لقد استغرقَ 
		وقتاً طويلاً، وقد ساعدتني الصعوباتُ التي واجهتُها في الفيلم على تخطيه. 
		فعندما شرعتُ في عمل الفيلم وكنتُ في مرحلة المونتاج، كنتُ تائهًا؛ لأنني 
		لم أكن أعرف عما يتحدث الفيلم. أدركتُ حينها أمورًا كثيرة، منها أن هذا 
		الفيلم هو وسيلتي لكيلا أشعر بالألم، لكن هذا (التصوير) جعلني أشعر بالألم. 
		وبعدما شعرتُ بالألم تساءلتُ: كيف سيؤثر هذا على حياتي وعلى علاقتي بوالدي؟ 
		
		فأدركتُ لاحقاً أن الشخصية الرئيسية في الفيلم ليست والدتي، 
		بل هو نمير. في البداية كنتُ متأكداً أن البطلة هي سهام، وأن الفيلم يدور 
		حول كيفية إعادتها إلى الحياة مجددًا. هذا التحوّل، وهو أننا سنسردُ خوف 
		نمير من فقدان والدته، جعلني أعرف أن الفيلم سينطلق من هنا، لذلك علينا أن 
		نسرد هذه القصة بطريقة سينمائية. 
		·       
		
		
		تقول: “كأنني لم أقابل والديّ إلا بعد رحيلهما”. ما الذي 
		اكتشفته عنهما كإنسانين قبل أن يكونا والديّن خلال سنوات العمل على الفيلم؟ 
		وهل غيّر هذا الاكتشاف نظرتك لذاتك؟ 
		
		لقد عرفتُهما بوصفهما أبًا وأمًا فحسب، لكني لم أعرفهما 
		كشخصين (فردين)؛ لم أعرف عن شبابهما وطفولتهما. نحن أنانيون كأطفال، ونعتقد 
		أننا محط الاهتمام طوال الوقت، وأن والدينا موجودان من أجلنا نحن فقط، 
		وننسى أن لديهما قصصهما الخاصة التي عاشاها خلال مراحل صعبة. 
		
		لقد غيّر هذا الاكتشاف حياتي بالكامل؛ لأنه جعلني أفهم 
		أنهما فعلا كل ما يمكنهما فعله بإمكانياتهما، وهذا منحني نوعًا من التسامح. 
		أن تفهم قصتهما في سياقٍ أوسع يغير معنى حياتك بأكملها؛ وتفهم وتقدر ما 
		منحاك إياه وأن إمكانياتهما العاطفية أو المادية أو النفسية لم تكن لتسمح 
		بأكثر من ذلك. وهذا ساعدني كثيرًا. 
		·       
		
		
		ذكرت أن شعور الهجر في طفولتك (بسبب سفر والديك) هو ما 
		دفعك لصناعة الأفلام لملء الفراغ بالقصص. كيف عاد هذا الشعور نفسه بعد وفاة 
		والدتك؟ 
		
		هناك أمرٌ عجيبٌ في السينما، وهو أننا نصوّر الناس ونحتفظ 
		بهم، وعندما يُعرض الفيلم تراهم وكأن الحياة دبت بهم من جديد. لقد بدأتُ 
		أفكر الآن في موتي أنا. ابني مثلاً عندما شاهد الفيلم وسمع عبارة: ‘وما بعد 
		سهام ووجيه ونمير’، انهمر في البكاء؛ لأنه سمع لأول مرة أن والده سيموت. 
		وقد شعرتُ أن هذه لحظة مهمة للغاية؛ إذ سأتمكن من أن أقول لابني إنني لن 
		أكون موجودًا، وهذا منحني نوعًا من الراحة النفسية الكبيرة، حيث يوجد شيء 
		أهم منا (أنا وأمي). هناك بُعدٌ فلسفيٌّ بعض الشيء في الأمر. 
		·       
		
		
		في أحد مشاهد الفيلم، تتساءل عنايات عن علاج للذاكرة، ثم 
		تخبرها أن أداتك هي الكاميرا، هل تصلح السينما كعلاج للذاكرة؟ 
		
		بالطبع تصلح السينما كعلاج للذاكرة! لكنها في الوقت نفسه 
		حاجة أكثر منها علاج. عقولنا تحمينا بواسطة النسيان، ولكن هذه الحماية 
		تتحول إلى صدمة مع مرور الوقت، فجزء من علاج هذه الصدمة هو أن نتذكر لا أن 
		ننسى، لأن هذا يساعدنا على تجاوز ما حدث. 
		
		أنا مقتنع بأننا بحاجة إلى رواية القصص المنسية، سواء كانت 
		شخصية أو تاريخية؛ فالذاكرة مهمة من أجل المستقبل. وهذا ما حدث معي أثناء 
		العمل على الفيلم، فكما أنكرتُ وفاتها باستغراقي في عمل فيلم عنها، رفض 
		الفيلم ذلك وقال لي: ‘أمك ماتت يا نمير’. 
		·       
		
		
		يتطرق الفيلم إلى قصة والدك وسجنه ونفيه بسبب توجهه 
		الشيوعي، هل ترى أن نفي والدك يمثل مرآة لنفي عاطفي شعرت به أنت شخصيًا؟ 
		
		لقد شعرتُ بما اكتنف أبي من حزن وألم للفراق، وكأنه محبوسٌ 
		داخلَ نفسه، فقد كان دائماً يقول: ‘أنا لستُ قادراً على الخروج أبعد من 
		ذاتي’. ولكن حدث شيء غريب في نهاية الفيلم حينما قال لي: ‘أُحبّك’. شعرتُ 
		أن بداخله طفلاً يريد أن يُعبّر عن أشياء، رأيتُ والدي كطفل يحمل مشاعر 
		يريد أن يُعبّر عنها، ولم تكن لديه الإمكانيات لفعل ذلك. حتى لو كانت هذه 
		اللحظة صغيرة، لكنه فتح قلبه وتمكّن من التعبير عن أمرٍ ما. 
		·       
		
		
		كان المشروع في الأصل فيلمًا روائيًا قبل أن يتحول إلى 
		وثائقي بعد صعوبات التمويل. كيف أثر هذا التحول القسري في “نوع الفيلم” على 
		جوهره، وهل أتاح لك حرية إبداعية لم تكن متوفرة في صيغة الفيلم الروائي؟ 
		
		لقد رغبتُ في إنجاز المشروع بشكل روائي في البداية لكي أحمي 
		نفسي؛ فكان هناك قدرٌ أكبر من الكوميديا والسريالية. كنا سنتحدث عن مشاعر 
		الفقد والفراق أيضًا، ولكن بطريقة تجعلني أكثر سيطرةً على مشاعري. وعندما 
		لم نجد تمويلاً للفيلم، قلتُ إنه لن يرى النور، وفي اللحظة ذاتها قال لي 
		صوتٌ داخليّ: ‘سنصنعه حتى من دون تمويل’. 
		
		وهذا دفعني للجوء إلى شيء أساسي جداً؛ إذ أردت أن أصور 
		والدي. كانت الفكرة هي تصوير هذه المشاهد، ومن ثم سنبحث عن تمويل للفيلم 
		الروائي. لكننا أثناء المونتاج وجدنا أن الجزء التسجيلي يتسع مع مرور 
		الوقت، وأدركنا أننا لسنا بحاجة إلى الجزء الروائي. إن ضَعفُ الإمكانيات 
		والتمويل هو ما خدم الفيلم في نهاية المطاف. 
		·       
		
		
		استخدمت ببراعة مقتطفات من أفلام يوسف شاهين الكلاسيكية 
		لتروي قصة لم تستطع تصويرها بنفسك. كيف انتقيت أفلام شاهين بالتحديد – مثل 
		“عودة الابن الضال” و “فجر يوم جديد” – لتكون بمثابة خيالك البديل؟ 
		
		تتشكلُ ذاكرتنا من علاقتنا بأهلنا وبالسينما. عندما أفكر في 
		فترة الستينيات، لا أعرف ماذا حدث فيها على وجه الخصوص؛ فأنا لم أعش في تلك 
		الفترة، ولكن من كلام والدي كنتُ أتذكر المشاهد التي رأيتُ بها هذا 
		المُعادل البصري. لقد أصبحت السينما بديلاً للواقع أو الذاكرة. إن السينما 
		قامت ببناء أفلامًا محفورةً في الذاكرة الجمعية. لقد حوّلتُ والدي ووالدتي 
		من خلالها إلى أبطال أفلام يوسف 
		شاهين بطريقة 
		شاعرية للغاية. |