|
"كان
مجرد حادث"... الضحية والجلاد في مواجهة إنسانية
المخرج الإيراني جعفر بناهي يطرح تساؤلات جوهرية ويرفض
مواجهة العنف بالانتقام وينتصر للإنسان
نجلاء أبو النجا
ملخص
عبّر فيلم "كان مجرد حادث" بشكل غير مباشر عن أبرز القضايا
في السياق الإيراني المعاصر، مثل انتفاضات التي تُطالب بالحقوق المدنية،
والحريات، وقضايا مثل فرض الحجاب.
من دون تصريحات أمنية وبيد من حديد يكسر المخرج الإيراني
المعارض جعفر
بناهي كل
توابيت الظلام في فيلم "كان
مجرد حادث"،
كاشفاً عن كثير من المناطق الظلامية التي يعانيها الشعب
الإيراني في
منطقة الحريات والكرامة والإنسانية، وأهمها زبانية السجون وأباطرة التعذيب،
الذين تركوا علامات غائرة في ذاكرة كل من نكلوا بهم، ووقعوا تحت طائلتهم في
قضايا حريات أو حتى من دون قضايا.
يبدأ الفيلم بحادث بسيط، إذ يصدم رجل يدعى إقبال كلباً
بسيارته، وهو يصطحب زوجته وابنته، ويضطر أن يلجأ إلى ورشة تصليح سيارات،
وتنقلب الأحداث عندما يكتشف صاحب الورشة من خلال صوت صرير قدم الرجل الذي
استعان برجل اصطناعية أنه قد يكون هو معذبه بأحد السجون التي أودع بها عقب
القبض عليه في تظاهرة عمالية سلمية طالبت بالأجور التي تأخرت وحلمت بتحسن
مستوى المعيشة.
تبدأ رحلة انتقام صاحب الورشة "فهيد" من الرجل المشكوك فيه
أن يكون معذبه الضابط "إقبال" بأن يختطفه ويضعه في صندوق سيارة، ويحاول
التأكد من هويته الحقيقية قبل أن يتخذ إجراءات الانتقام منه على تعذيبه
وجبروته.
فهيد لم يفقد إنسانيته رغم التعذيب والألم والإهانة، لكنه
كان يريد أن يثأر لكرامته التي انتهكت على يد الاستبداد والظلم والوحشية في
السجون الإيرانية، ولأنه لا يزال يحمل جانباً نقياً حاول التأكد من هوية
الرجل فوضعه في سيارة وذهب في رحلة لإثبات هويته قبل الانتقام التام منه.
هنا يلجأ إلى بعض الذين جرى تعذيبهم على يد إقبال، فيذهب إلى مصورة
فوتوغرافية صديقة عانت التعذيب على يد الرجل نفسه، ويحاول أن يحصل منها على
إجابة شافية وقاطعة، هل الرجل الذي يرقد بصندوق السيارة إقبال أم لا؟
تتعثر المصورة في التعرف إلى الرجل المشتبه فيه، بخاصة أن
الجميع كان معصوب العينين في أثناء التعذيب، لكنهم كانوا يسمعون صرير صوت
يصدر من قدمه الاصطناعية، كذلك يعرفون صوته جيداً، لكنه فقد الوعي أثناء
محاولة فهيد تكبيله، لذلك ليس لديهم طريقة للتأكد من هويته سوى باصطحابه
داخل صندوق السيارة لأكثر من ضحية عذبهم حتى يتعرفون إليه، ويتأكدون من
شخصيته قبل تنفيذ قرار الانتقام.
بقايا الألم
تتوالى الأحداث بظهور شخصيات جديدة تحمل قصصاً أخرى، وآلام
أكثر ضراوة تعمقت داخلهم على يد إقبال منفذ خطط التعذيب بالسجون. تنضم فتاة
شابة إلى قافلة ضحايا إقبال، وتحاول التعرف إليه، وهي جولي العروس التي
تحتفل بزفافها، لكنها فور معرفتها بالعثور على إقبال تترك حياتها الجديدة،
وتحاول تنظيف ذاكرتها من بقايا الألم بالانتقام أولاً من جلادها، تصطحب
جولي زوجها في رحلة التأكد من هوية الرجل الذي فض عذريتها كنوع من الإهانة
وتغليظ العقاب على قضية رأي عابرة شاركت فيها الفتاة اليافعة في بداية
حياتها.
كذلك ينضم حميد، وهو عامل بسيط قبض عليه النظام الإيراني في
تظاهرة وقاسى على يد إقبال من أشد أنواع التعذيب، مما حوله إلى رجل أشبه
بمجنون فاقد التحكم في أعصابه. يتأكد حميد من هوية إقبال، ويجزم للجميع أنه
الرجل المنشود وصاحب سجل التعذيب الإجرامي في حقهم جميعاً.
تتصاعد وتيرة الانتقام ويحاول جميع الضحايا تنفيذ حكم يُشفي
غليلهم، حتى تأتي لحظة لم تكن على البال تقلب كل المخططات والأحداث، حينما
يرن هاتف إقبال فجأة وهو راقد في التابوت الذي حبسه فيه ضحاياه حميد
والمصورة وفهيد وجولي، ويفاجأ فهيد أن ابنة إقبال الصغيرة تستنجد بوالدها،
بعدما فقدت أمها الحامل الوعي في المنزل وبينها وبين الموت لحظات. وهنا
تتبدّل الأمور هل يترك الضحايا زوجة جلادهم تموت بهدف الانتقام جزاء جرائمه
أم ينتصرون لإنسانيتهم لإنقاذ امرأة ليس لها ذنب؟
تحتد الأزمة بين الضحايا بين معارضين لإنقاذ المرأة ومؤيدين
في الجانب الآخر لفصل الانتقام عن الواجب الإنساني، وتنتصر الآدمية
والأخلاق ويقررون إنقاذ المرأة الحامل والطفلة الصغيرة، فينقلون الأم إلى
المستشفى حتى تلد طفلها ويطمئنون على الطفلة، بأنها صارت في أمان.
نقطة تحول
وفي مشهد من أهم النقاط المحورية بالفيلم يتواجه فهيد مع
إقبال معصوب العينين، وينفي الأخير أنه الرجل المطلوب، بينما يؤكد له فهيد
أنه هو الضابط الفاسد الذي حوّل حياتهم إلى جحيم، ويخبر فهيد إقبال أنه
اصطحب زوجته، لتضع طفلها الوليد بالمستشفى، وهنا تنهار المقاومة ويعترف
إقبال بحقيقة شخصيته، وأنه فعلاً الشخص الذي عذبهم، ويكشف أنه قام بكل ما
فعله اقتناعاً منه أن هؤلاء الناس أعداء للنظام، ومجرد مخربين يحاولون
النيل من استقرار البلاد. وشدد إقبال على أنه يخلص لعمله ولبلده بيقين وحب
حتى ولو قتلوه سيعتبر نفسه من الشهداء.
وتتقاطع الخطوط والمشاعر الإنسانية في تلك اللحظة بين فهيد
وإقبال، إذ يعبر كل منهما عن آلامه وأحاسيسه، ويذكر إقبال أنه يؤدي وظيفته
من أجل لقمة العيش والحفاظ على قوت بيته وأسرته، وأنه إنسان وله مشاعره،
ولا يريد إيذاء أشخاص في المطلق لمجرد الشر، بل يتعامل معهم أنهم مخربون
يدمرون المجتمع، بحسب ما يتلوه عليه النظام وقوانينه الصارمة. وفي لحظة
شديدة الحساسية يختار فهيد بين قتل إقبال ودفنه، والتحول إلى قاتل ملوث
مثله، وبين أن ينحاز إلى الجزء النقي بداخله ويرفض أن يصبح قاتلاً مثلهم.
يرفض فهيد أن يسلك الطريق الظلامي للانتقام الذي لا رجعه
منه، ويترك إقبال معصوب العينين ويحل وثاق يديه ليعطيه فرصة للنجاة، وهنا
يبكي إقبال ويقول له إنه سيستطيع الوصول إليه بواسطة صوته.
الانتقام ليس حلاً
يرحل فهيد تاركاً إقبال يحاول النجاة، وتمر الأحداث حتى
يأتي المشهد الختامي الذي حسم المشاعر الإنسانية، ويؤكد أن الانتقام ليس
حلاً، وأن الإنسان مهما كان فساده قد يحمل داخله جزءاً نقياً يظهر في موقف
مفصلي من حياته.
يحاول فهيد الرحيل ويجمع أغراضه وفي أثناء دخوله منزله يأتي
المشهد النهائي الذي أبدع فيه بناهي بعظمة الصوت والإيقاع المؤثر، إذ يعطي
فهيد ظهره للكاميرا وفي أثناء ذلك يتصاعد صوت صرير رجل اصطناعية تقترب منه
يرفض فهيد من شدة الفزع أن يلتفت بوجهه للشخص القادم من الخلف على رغم أنه
يقترب منه حتى الالتصاق، ويتأكد من صوت الأقدام أن إقبال وصل إليه، وأن
نهايته أصبحت حتمية بعد نجاح إقبال في العثور عليه.
يستسلم فهيد ويخشى أن يستدير بوجهه، وهنا يبدأ صوت صرير
الأرجل في الابتعاد شيئاً فشيئاً في دلالة أنه قرر عدم القبض عليه ومنحه
فرصة للحياة ليرد له الجميل بعدما أنقذ زوجته ورفض قتله على رغم قدرته على
تنفيذ حكم الإعدام فيه جزاء أفعاله الإجرامية.
يترك بناهي رسالة إنسانية رائعة بنهاية الفيلم، وهي أن
الإنسان مهما كانت وحشيته لا يمكن أن يكون خالياً تماماً من المشاعر
والأحاسيس، ومهما كان الشر هناك مسحة من الأمل في التغيير للأفضل، وليس
جزاء الإحسان إلا الإحسان.
تعمد بناهي في الفيلم أن تتناوب المشاهد بين الحوارات
المتوترة واللحظات الساخرة، وتتداخل الأسئلة الأخلاقية التي تحاول الإجابة
عن أمور معقدة مثل هل يمكن مسامحة معذبينا أم يجب علينا القصاص؟ وهل يولد
العنف مزيداً من العنف أم يمكن أن نختار مساراً آخر؟
وعلى رغم مباشرة الحوار والطريقة التقليدية في السرد في
معظم المشاهد تعامل المخرج في كثير من المشاهد بشكل رمزي مع عناصر مهمة،
مثل الهوية والعنف واللجوء للعدالة.
تعمد بناهي أن يطيل في بعض المقاطع والحوار ليكرس عمق
التوتر وألم التعذيب بدلاً من المشاهد السريعة، وجعل الأحداث الأساسية
والحوارات العميقة تتوالى في صندوق سيارة فهيد الذي يشبه السجن ليضع
المشاهد في نفس أجواء المعاناة التي عانى منها الأبطال ليشعر بهم ويتفهم
رغبتهم في الانتقام.
حاول المخرج تخفيف التوتر بالمزج بين الكوميديا السوداء
والدراما الثقيلة، ودمج بين لحظات المزاح والتساؤل الهادئ وبين الرعب
النفسي المنبثق من ذاكرة تحمل آلاماً جسيمة. وعلى رغم أن الفيلم يبدو مجرد
قصة انتقام شخصية، لكنه حمل بكل مشهد نقداً لاذعاً للفساد الاجتماعي
وللبيئة السياسية في إيران مثل الرشوة، استغلال السلطة، والخوف الجماعي.
قدم الفيلم وجبة إنسانية وسياسية وفنية مكتملة الأركان، وهو
تجربة تعتبر مثالاً لشجاعة المخرج الذي صور الكثير من المشاهد الخارجية
الخاصة لهذا الفيلم داخل إيران من دون تصريح رسمي، وهذا يُعتبر بحد ذاته
عملاً مقاوماً.
نجح بناهي في تقديم توازن دقيق بين التوتر والإنسانية، إذ
تعمّد أن يجعل الشخصيات الرئيسة بالعمل لا ترمز إلى اللون الأبيض أو الأسود
من حيث الروح والمشاعر، بل جعل لديها مخاوف، وشكوكاً، ونقاط ضعف وقوة.
الفيلم يعتبر من أكثر الأعمال صدقاً وتأثيراً، إذ عبّر بشكل
غير مباشر عن أبرز القضايا في السياق الإيراني المعاصر، مثل انتفاضات التي
تُطالب بالحقوق المدنية، والحريات، وقضايا مثل فرض الحجاب. والفيلم عودة
مهمة للمخرج جعفر بناهي بعد فترة من القطيعة، إذ واجه الاعتداء والملاحقة
بسبب مواقفه السياسية.
صحافية @nojaaaaa |