Nidal Qushha
5h
وداعا يا صديقي..
يعز علي أن أقف بين يدي عبد اللطيف عبد الحميد، فقيدنا الغالي باسمه
الكبير، موقف الراثي ومعدد المناقب وأنا من كان يتبادل معه النكات والأغاني
والأسرار، ويستمع إلى أحاديثه الشيقة. ولكن تلك هي سنة الكون ودورة الفصول
التي بها تستمر الحياة وتتجدد، ولا عزاء لنا سوى أن يترك المرء منا بيتا
بناه وشجرة زرعها وأبناء أطلقهم إلى العالم كي يواصلوا ما بدأه، وذكرا عطرا
في أفئدة من حوله وعلى ألسنتهم. وقد ترك عبد اللطيف كل هذا وأكثر.. ترك لنا
أعمالا فنية جميلة ونظيفة تنم عن وعي عميق وثقافة واسعة، وتشف عن صفاء قلب
ونقاء سريرة.
سأظل أعتز دائما بأن علاقتي بعبد اللطيف لم تكن علاقة مدير بمخرج يعمل في
المؤسسة التي يديرها، وإنما علاقة صداقة عميقة، رغم فارق السن الكبير
بيننا، ملؤها المحبة والاحترام والرغبة في فعل الأفضل لهذه المؤسسة.
يموت المغني ولا تموت أغانيه، ويموت الشاعر ولا تموت قصائده، ويموت الرسام
ولا تموت لوحاته، ستظل مثل صدى روحه تتردد عبر كل العصور حاملة ذوب قلبه
وحبه للناس.
هذا الخلود ليس مكافأة للمبدع على إبداعه، تمنحه إياها الحياة فحسب، وإنما
هو أمر لا غنى عنه، بالنسبة لنا نحن، الفانين، كي نراكم المعرفة والخبرة
والحكمة البشرية.
كل إنسان هو عالم قائم بذاته ولا يمكن، في حال فقده، أن يعوض. ومع ذلك،
ورغم الألم، فإننا نبتسم عندما نرى إرثه يعيش ويتنفس بيننا.
ثمة أناس في هذا الكون، وعلى هذه الأرض، يتمتعون بقدرة مدهشة على فتح شهية
الآخرين للعيش والاستمتاع بالحياة، بفضل ما يحملونه من طاقة على العمل،
والبهجة، والتفاؤل الذي يشع منهم في أحلك اللحظات.
إن مهمة إسعاد الناس وإدخال البهجة إلى قلوبهم ليست من المهمات السهلة على
الإطلاق. ومهمة إسعاد الناس عبر إضحاكهم وإمتاعهم وانتزاع الآهات من
أفواههم وإغناء أرواحهم هي من أصعب الأعمال على الإطلاق، لأنها من أنبل
المهمات التي يمكن أن يأخذها امرؤ على عاتقه.
(ما يخرج من القلب يصل إلى القلب) بهذه العبارة المقتضبة والعميقة يمكن أن
نلخص إبداع عبد اللطيف عبد الحميد ومنهجه الفني.
إن للقلوب لغة خاصة تتواصل بها، لغة كونية شاملة تتعدى لغات اللسان
ولهجاته، لتصل بين البشر على اختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والقومية
وتخاطب فيهم جوهر الإنسان وخلاصة وجوده. أعتقد أن عبد اللطيف كان واحدا من
هؤلاء.وهو لم يكن يصنع أفلامه ويخاطب جمهوره بلغة القلب وحدها، وإنما بكل
عصب من أعصابه، المشدودة دائما، وهو يسعى لتقديم أفضل ما لديه.
أذكر أنني قرأت رده في إحدى المقابلات الصحفية على سؤال محاوره: قضية الحب
«مركزية» في كل الأفلام التي قدمتها.. كيف الحب، ولماذا هو الآن؟!
فأجاب عبد اللطيف قائلا: ليس لدي تفسير لهذا الموضوع، لأنني حقيقة لا أملك
تفسيراً مباشراً لمعنى الحب أو لكلمة الحب، لأن كل الكلمات ستقف عائقاً ـ
ستكون مقصرة في التعبير عنها. لم يكن هناك عمل بلا حب ـ أنا مجنون حب.
والحب يتملكني دائماً، وتستطيع أن تقول أنه يُسَيّرني. باختصار ودون
(فبركات).
لم يكن الفن بالنسبة لعبد اللطيف عبد الحميد مهنة ولا هواية وإنما نمط
حياة. لقد كانت السينما بالنسبة له الهواء الذي يتنفسه، والماء الذي يشربه،
والخبز الذي يقتات به.
إن عبد اللطيف مجبول من نسيج أولئك الناس الذين مهما علت أسهمهم في الحياة،
ومهما ارتفعت مراتبهم، يظلون على بساطتهم الأولى، وعلى انتمائهم الأصلي إلى
الحارة أو القرية التي أخرجتهم إلى العالم. هذا الحنين إلى الموطن الأول،
والوفاء العميق له هو صفة أساسية من صفات المبدعين الحقيقيين. ولقد ظل عبد
اللطيف أمينا لمسقط رأسه وموطن أهله وقريته التي خرّجته ومنحته نسغها
وعلامتها الفارقة. أكتفي بالقول إن الفنان العبقري، بخلافنا، نحن البشر
الفانين العاديين، عندما يقضي نحبه، ويفنى جسده، فإن روحه وصورته تظلان مع
الجماهير إلى الأبد.
لقد توقف عن الخفقان قلب واحد من عشاق الفن و صانعي بسمته. ولكن الفن سيظل
حياً بوجود من يمنحه قلبه.
مراد شاهين
المدير العام للمؤسسة العامة للسينما
|