بموازنة صفرية... بوادر "إحياء" للسينما في العراق
يعاني المخرجون الشباب غياب الدعم الحكومي لعملهم الذي
ينفذونه بمجهود شخصي بحت
أزهر الربيعي
لا يزال العراقيون من جيل السبعينيات يتذكرون أول فيلم
صوِّر وأنتج بالكامل في العراق، وهو فيلم "عليا وعصام" عام 1949، تلته
أعمال سينمائية أخرى، بعدما كانت لا تخلو مدينة
عراقية من
دور السينما التي تزدحم بالعائلات والشباب في ليالي عطلة نهاية الأسبوع،
إلا أن السينما في البلاد بدأت تفقد بريقها بعد الحرب العراقية-الإيرانية
(1980-1988)، إذ تحولت غالبية دور السينما في البلاد إلى محال تجاري، وشقق
سكنية، أو مرأب للسيارات.
في المقابل، يكافح صانعو الأفلام الشباب اليوم من إجل بث
الروح في السينما وصناعة الأفلام من جديد على رغم قلة الدعم الحكومي لهم،
في حين أعلن العراق عن موازنة العام الماضي وقدرها 153 مليار دولار، لا
نصيب منها لصناعة الأفلام، وإن وجِد أي تخصيص لها، فيكون بسيطاً جداً لا
يلبي طموح صانعي الأفلام، بينما دأبت دول عربية وخليجية أخرى خلال الأعوام
الأخيرة على دعم عجلة صناعة الأفلام.
أما في مدينة البصرة (أقصى جنوب العراق)، فعرض ثلاثة مخرجون شباب، هم حسين
الأسدي وشهد أحمد وحسن صبري أفلامهم القصيرة في مبنى "اتحاد الأدباء
والكتاب" في شناشيل البصرة القديمة،
في خطوة صريحة لإنعاش الفن من جديد من خلال أفلام تحكي قصص الأمس واليوم،
من قلب المدينة ومحيطها، فرصدوا بكاميراتهم صوت المدينة وحياة الناس.
وقبل موعد العرض، امتلأت القاعة بالحاضرين من مختلف الفئات
العمرية لمشاهدة الفيلم الأول الذي أخرجه الشاب حسين الأسدي الذي عاش في
البصرة وترعرع فيها، وكان فيلمه بعنوان "لم تكن وحيدة" وتناول قصة سيدة
خمسينية تعيش لوحدها مع الجواميس والدجاج والقطط.
ويقول الأسدي (26 سنة) في مقابلة مع "اندبندنت عربية" إن
"الهدف الرئيس هو التركيز على شخصية السيدة فاطمة التي تعيش لوحدها في
الأهوار الجنوبية المهددة بالجفاف، من دون وجود أيّ كان لمساعدتها في
حياتها، إذ إن هناك صورة نمطية لدى المجتمع العراقي والعربي كذلك، مفادها
بأن المرأة تحتاج إلى من يساعدها، لكن فاطمة باقية على قيد الحياة بصورة
رومانسية وشاعرية عالية، مما جذبني لصناعة الفيلم".
وأراد الأسدي توثيق حياة السيدة فاطمة في أهوار جنوب العراق، ليكون فيلمه
بمثابة وثيقة بيئية- سينمائية، بعدما عانت الأهوار الجفاف خلال الأعوام
الأخيرة، وأضاف أنه "إذا فقدنا الأهوار بعد 10 سنوات بسبب الجفاف، وهذا ما
لا نتمناه، فسيكون الفيلم وثيقة عن الحياة في الأهوار وتنوع الأحياء فيها،
تشاهده الأجيال المقبلة التي لم تكن محظوظة في مشاهدة الأهوار".
تحديات من كل الجهات
علاوةً على غياب الدعم الحكومي لمشاريع الأفلام السينمائية،
يتحدث الأسدي بحسرة عن تحديات أخرى واجهها طوال مسيرته التي بدأها عام 2018
في مجال صناعة الأفلام، إذ يقول "نحن بحاجة إلى وجود ورش وندوات متخصصة في
مجال صناعة الأفلام ومزيد من الاختلاط مع الأشخاص المعنيين بهذا المجال من
أجل توسعة الآفاق الفنية ونشر وعي السينما بين الجميع. أعتقد بأن ذلك يمثل
التحدي الأبرز لنا، بعد ذلك، تأتي تحديات أخرى وأبرزها تمويل الأفلام
ودعمها".
وكان الأسدي سعى إلى تحويل فيلمه إلى عمل وثائقي طويل عن
الحياة في الأهوار، بعدما تلقى تمويلاً من مؤسسات معنية بالسينما من خارج
البلاد. ويمر فيلمه الطويل بمراحل ما بعد الإنتاج، لينتظر عرضه بنهاية
العام في عدد من المهرجانات الدولية.
ويضيف أن "أكثر ما يسعدني هو أن الفيلم الطويل حصد جوائز
حتى قبل أن يكتمل، إذ حصل على جائزة أفضل فيلم وثائقي قيد الإنجاز في
مهرجان الجونة السينمائي في مصر. كما شارك فيلم "لم تكن وحيدة" في مهرجان
زيوريخ للفيلم العربي، ومهرجان عمان لفيلم المرأة، وحصل على أفضل فيلم
وثائقي بمهرجان الإسكندرية للفيلم القصير، وجائزة التعايش والسلام في مدينة
السليمانية، وغيرها".
ويقول محمد قاسم (30 سنة) أحد الذين شاهدوا الأفلام الثلاثة
المعروضة إن "ما حفزني على الحضور ومشاهدة الأفلام القصيرة، هو عدم وجود دور
سينما في
البصرة تعرض أفلاماً محلية، بل تكتفي بعرض الأفلام الأجنبية العالمية التي
لها جمهورها الشائع، وأنا سعيد جداً بمشاهدة أفلام صنعها شباب من البصرة،
على رغم غياب الدعم لهم، فهم يدعمون أنفسهم بأنفسهم ويصنعون المستحيل من
أجل مدينتهم".
العودة للماضي
ويضيف قاسم أن "ما شاهدته اليوم هو إبداع تجسد في ثلاثة
أفلام قصيرة مختلفة عما نراه في الأفلام الأخرى، إذ استطاعت تلك الأفلام
تجسيد جزء من حياة المواطن العراقي بجوانبها المختلفة، كما في فيلم ’لم تكن
وحيدة‘ عن تحمل المرأة العراقية كل الظروف وصمودها، وعن فيلم ’السطح‘ الذي
روى حياة ما قبل عام 2003 وما بعدها بقليل وعيش حياة البساطة والسعادة،
والفيلم الأخير واسمه ’مكب الأمنيات‘ يتناول قصة أطفال يعيشون في مكب
للنفايات لكن المكان لا يهمهم، بل يصنعون السعادة أينما وجِدوا. كلها قصص
تلامس حياتنا اليومية، ويحتاج العالم أن يتعرف إليها".
ما من إحصاء واضح أو دقيق عن عدد صنّاع الأفلام في العراق،
ويكاد ينعدم وجود صانعات الأفلام من النساء، في بلد لا تزال فيه بعض
"التابوهات" قائمة وتعوق دخول المرأة مجالات لم تعتد عليها، إلا أن المخرجة
شهد أحمد (24 سنة) نجحت في اقتحام مجال الإخراج من أوسع الأبواب بتشجيع من
أهلها وأساتذتها بعدما كانت تدرس في كلية الفنون الجميلة، قسم السمعية
والمرئية في جامعة البصرة.
وتقول شهد أحمد، "في فيلمي الذي أعطيته عنوان ’مكب
الأمنيات‘، حاولت تسليط الضوء على فئة مهمشة ومنسية تتمثل في الأطفال الذين
يسكنون داخل مكب النفايات والذين يبلغ عددهم حوالى ألف طفل، جُردوا من
طفولتهم بسبب ظروف مختلفة، فكان من المهم تناول حياتهم في هذا العالم
ومعالجة تلك المواضيع فنياً، إذ يمكن للفن والسينما معالجة قضايا مجتمعية
مهمة".
وتواجه المرأة تحديات وظروف مضاعفة في مجال صناعة الأفلام
في العراق، كما تقول شهد أحمد، وتشير إلى أنه "مع وجود تلك التحديات وقلة
عدد المخرجات في البلاد، إلا أن المرأة استطاعت أن تثبت نفسها وتؤكد نجاحها
وبقوة في الإنتاج الفني والسينمائي".
وتتابع أنها "متأكدة من أن عدداً كبيراً من النساء لديهن
الشغف والحب للفن والإبداع لكن يعوقهن الخوف من المجتمع، لذلك، رسالتي إلى
كل سيدة أن تكافح من أجل الوصول إلى ما تحب من دون النظر إلى التعليقات غير
الداعمة المحيطة بها".
طموح لا يتوقف
وأنتجت أحمد أفلاماً أخرى حصدت جوائز بعد مشاركتها في
مهرجانات محلية ودولية، لكن فيلم "مكب الأمنيات" اعتبرته "ولادة جديدة لها
عام 2024" وكانت مساعدة مخرج في فيلم "زواج احتياط"، وهي الآن في مرحلة
الإعداد والتطوير لفيلم مقبل.
وبعد تخرجها في الجامعة وحصولها على المرتبة الثانية بين
زملائها، عملت أحمد مصورة مستقلة منذ عام 2021، ومن راتبها الأول أنتجت
فيلمها الأول بعنوان "فوز"، لتستمر في دعم نفسها بنفسها من دون أن تحصل على
مساندة أي جهة، كما في فيلمها الأخير الذي أنتجته على نفقتها الخاصة.
وحتى عام 2003، كانت العائلات العراقية تتخذ من أسطح
منازلها مكاناً للراحة والنوم، خصوصاً في فصل الصيف الحار، فهذه هي العادات
وأسلوب الحياة الذي عاشه المخرج حسن صبري، وأراد أن يعيد تلك الذكريات على
صورة فيلم قصير، يوثق فيه جانباً من حياة الأسرة العراقية قبل أعوام ماضية.
صبري، ذو الـ27 سنة من مدينة البصرة، يقول لـ "اندبندنت
عربية" إن "فكرة الفيلم عاشت طويلاً في داخلي، وحاول أن أجسد طفولتي من
خلال الفيلم وقد أحبه الناس لأنه يلامس حياة جميع من عاش تلك الحقبة حتى إن
هناك من شاهده أكثر من مرة".
ويذكر صبري واحدة من التحديات التي عاشها مع فريقه طوال
مرحلة إنتاج الفيلم، ويقول إن "الذين عملوا على الفيلم، يعملون للمرة
الأولى في مجال السينما، وهذا الأمر وضعنا أمام مسؤولية وتحدٍ كبيرين، وأن
نتعلم خلال العمل ونحل المشكلات التي نواجهها لأننا لسنا أصحاب خبرة في هذا
المجال".
ويضيف أنه "من خلال ما أقوم به من أعمال سينمائية، أريد أن يتعرف العالم
الخارجي أكثر إلى المجتمع العراقي وتفاصيل حياته ويومياته، لا سيما الحياة
في مدينتي، البصرة، من خلال مشاركة أفلامي في مهرجانات دولية عدة"، ويقول
"أعتبر صناعة الأفلام أسلوب حياة بالنسبة لي، فكل يوم أعيشه أخوض فيه تجربة
جديدة مع هذا العالم الممتع".
ويخطط صبري لإنتاج فيلم وثائقي طويل يخوض فيه بكل حيادية في
حياة المواطن البصري وشخصيته بكل تناقضاتها وجمالها وعيوبها.
ولأن للسينما وصناعة الأفلام دوراً مهماً في توثيق التراث
وحفظه، تدعم المنظمات الدولية المبادرات الشبابية التي لها علاقة بإحياء
التراث المحلي، فضمن مشروع إحياء مدينتَي الموصل والبصرة القديمتين، تدعم
"يونيسكو"، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، الوسط الثقافي العراقي في مختلف
أبعاده، وفق ما يقول ممثل ومنسق "يونيسكو" في البصرة المهندس قصي الشمخاوي،
ويوضح أن "مشروعنا هو إحياء العراق، لذلك، كل الفعاليات، ومنها صناعة
السينما التي تشكل جزءاً من المبادرات الشبابية المقترحة من قبل المنظمات
الثقافية الشبابية في العراق، خصوصاً البصرة، من أجل تحفيز هذه المنظمات
لتقديم ما يمكّن الشباب من إظهار طاقاتهم الكامنة، تحديداً الطاقات
الثقافية المتعددة".
صحفي عراقي @AzherRubaie |