تُمثل العناوين مدخلًا مهمًا لقراءة أعمال المخرج علي
الكلثمي، ففيلمه القصير “وسطي” انطلق من حادث الاعتداء على فريق مسرحية
“وسطي بلا وسطية”، لكنه جرّد الكلمة لتكون عنوانًا للفيلم وجوهرًا لموضوعه
الذي ثمّن ببلاغة فضيلة أن تكون وسطيًا، لا بالمعنى الديني وإنما
الاجتماعي: قيمة أن تتريث وتراقب وتتعلم، فالكل خرج من الحكاية خاسرًا،
الفنان المناضل والمطوّع الأصولي، والرابح الوحيد كان من جلس في الصفوف
الوسطى، فاستعاد بصره ورأي العالم كما لم يره القادة المحمولون على الأعناق
من الطرفين.
لا يدّخر الكلثمي جهدًا لتكريس هذا المدخل في فيلمه الروائي
الطويل الأول
“مندوب
الليل“،
فيفتتح الفيلم بالشروح المُعجمية للفظ “مندوب”، فهو المنتدب لأداء مهمة،
وهو المحزون عليه، ويختتم الفيلم بشرح ثالث للفظ، حول الندبة التي يتركها
الجرح. كأن المسافة بين بدء الفيلم وختامه هي رحلة اكتشاف ذاك المعنى
الثالث.
وإذا كانت أهم سمات الفن السابع هي قدرته على استيعاب ما
سبقه من الفنون، فلدينا هنا صانع أفلام ينهل من نبع نادرًا ما وردته
السينما العربية: اللغة التي يتشكل من خلالها وعي البشر وأدوات إدراكهم
لواقعهم ومفردات خيالهم، فأفكارنا وإن كانت مجردة، لا فكاك من صياغتها في
كلمات محكومة باللغة. بل إن بعض الدراسات على من يُتقنون أكثر من لغة توضح
أن شخصية الفرد قد تتغير بوضوح بمجرد تفكيره بلغة مختلفة.
لن نطيل كثيرًا في الحديث عن هذه النقطة، لكنها مدخلٌ دالٌ
على عقلية فنان يفكر بطريقة مغايرة في عمله، ويحاول أن يُقدم سينما أصيلة،
تُعبر عن صانعها بمفردات ابنة عالمه، بكل ما فيه من تناقضات. وكما أن لكلمة
“مندوب”، ولأغلب الكلمات في العربية، معانٍ تختلف، بل وتتناقض أحيانًا،
تقوم دراما “مندوب الليل” على الأمر نفسه: قدرة الأشخاص والأماكن والأشياء
أن تجمع المتناقضات وتحمل أكثر من معنى في آن واحد.
مدينة المتناقضات
الرياض التي يخنق فيها الزحام بطل الفيلم فهد فلا تبرح
سيارته موقعها ويتأخر عن دوامه، هي نفس المدينة الموحشة ليلًا التي يجوبها
بنفس السيارة فلا يرى إلا أشباهه من رواد الليل. يجتمع في مكاتبها من يعيش
مثل فهد يعمل ليلًا ونهارًا فيفشل في توفير العلاج لوالده، ومن مثل مديره
يقضي كل الأماسي في مطاعم فاخرة تُكلّف الوجبة فيها ثروة. ناطحات السحاب
الشاهقة لا تبعد كثيرًا عن بيوت عتيقة خانقة. ألسنة لا تُكمل جملة دون
كلمات أجنبية تُخاطب ألسنة لا تعرف أبسط مفردات الإنجليزية. كل شيء وعكسه
معًا. يخبرنا علي الكلثمي ضمنًا أن حالة لفظ “مندوب” بمعانيها المتباينة
ليست فريدة داخل هذا المزيج العجيب من المتناقضات.
فهد هو ابن مخلص لهذه البيئة، كل ما في حياته منقسم إلى
اثنين: في النهار هو موظف يرتدي شماغه ويجلس على مكتبه ليؤدي وظيفة يُحاسب
فيها إن توقف عن الحديث، وفي الليل ينقلب حاله فيصير مندوب توصيل ليلته
الناجحة هي التي ينطق فيها بأقل عدد ممكن من الكلمات. عليه أن يكون شخصًا
مختلفًا في كل ساعة من يومه، أن يعمل بلا انقطاع ولا راحة مختلسًا ساعات من
النوم في سيارته، يُرضي مديره وزملائه وأصحاب الطلبات وأبيه وأخته وابنتها،
ثم لا يقابله أي منهم بكلمة شكرٍ أو امتنان، بل سخط دائم من تقصيره وكسله!
إذا تأملنا شخصية فهد سنكتشف إنه في الأغلب شخص مسالم، ليس
لديه طموح ضخم ولا يحلم بتغيير العالم، فقط يريد أن يحيا بهدوء ويعمل في
وظيفة تكفل له حياة لائقة، مع بعض ساعات من المرح مع صديقه. لكن كل ما في
عالمه يضغط عليه بما يجعله قنبلة موقوتة، لا يطيل الكلثمي انتظارنا
لانفجارها الأول، بل يبدأ الفيلم من ذروة ينفجر فهد على إثرها، فتضمن طرافة
الموقف اهتمامنا، ثم يقدم السرد لاحقًا الحقائق تباعًا لنكوّن الصورة
العامة ونفهم أبعاد الشخصية التي تقودها لمسارها العجيب.
بين رياض الشيوخ ورياض فهد
من أذكى المشاهد الحوارية في “مندوب الليل” ذلك الذي يذهب
فهد ووالده فيه لطلب المساعدة في تكاليف العلاج من أحد الشيوخ الأثرياء.
يسأل الشيخ فهد عن وظيفته، يكذب كذبة بسيطة لتحسين صورته فيرد بأنه يعمل في
العلاقات العامة بإحدى الشركات، فيرد الشيخ ليواسيه ويؤكد أن العمل الشريف
ليس عيبًا. في ثوانٍ يتجلى أمامنا عالميّ الرياض جليّين، مندوب توصيل
الطلبات يدّعي شغل وظيفة يراها كبيرة لينال الاحترام، والطرف الآخر يرى نفس
الوظيفة الكبيرة أمرًا يستحق المواساة!
ستجد تجليات مختلفة للعلاقة بين “رياض فهد” و”رياض السادة”.
المطعم الذي يزوره بالصدفة فيعتقد أنه عثر على مكان نادر لم ير مثله من قبل
يكتشف أن أشخاص يعرفهم يذهبون إليه يوميًا. شقيقته تبتكر حلوى جديدة تظنها
فكرة ستغير حياتها فتتلقى درسًا محرجًا على الهواء مباشرة قيل فيه أن عشرات
غيرها أتوا بالفكرة ذاتها. وصولًا للتجلي الأهم: اكتشاف فهد أن هناك مندوب
يعمل ساعات الليل كلها من أجل عدة ريالات، ومندوب يربح الآلاف في توصيلة
واحدة، فقط لأنه اختا
توصيل البضاعة المناسبة
قد تكون الحبكة التشويقية انطلاقًا من هذه النقطة هي أقل
عناصر الفيلم إحكامًا، فهناك كثير من المبالغة سواء في قدرة شاب محدود
الكفاءة مثل فهد أن ينجح فيما فعله، أو في تمكن عصابة من الخارجين عن
القانون من الوصول إليه في مدينة يخبرنا الفيلم كم هي كبيرة ومعقدة. لكن ما
يجعلنا نتجاوز الأمر هي حقيقة إنه ببساطة أمر هامشي. هذا ليس فيلمًا عن
مطاردة بين بطل وعصابة لترويج الخمور، وإنما بالأساس دراما جادة تقوم على
مواجهة غير متكافئة بين فهد وخصم آخر.
خصم تصعب مواجهته
تظهر تلك الجدية بوضوح في عنصري الصورة والتمثيل. المخرج
يستعين بمدير تصوير شاب هو المصري أحمد طاحون في فيلمه الروائي الطويل
الأول، ليرسما معًا صورة لم نرها من قبل للرياض في الليل. المدينة هنا
شخصية فاعلة تُمثل في الحقيقة الخصم الرئيسي لبطل الحكاية. مبانيها الشاهقة
وديكوراتها الحداثية، أحيائها القديمة وبيوتها التراثية، مساجدها ومخازنها،
مع اختيار مدهش لمواقع التصوير، وتوظيف للتكوين والعلاقة بين الظل والنور،
كلها عناصر تجعل للمكان حضورًا ضاغطًا، موحشًا، يتشكل كقوة عظمى تقف في وجه
فهد وتحرمه من السلام الذي يحلم به، تريه وجهها المغوي للحظات يُسمح له
فيها برؤية ما يحدث في مدينته كل ليلة، بينما كُتب عليه أن يعيش على هامش
الهامش، يحلم بأن يدور في مدار “الرياض الأخرى”، مجرد مندوب ينظر السادة
لما في يده دون أن ينتبهوا لملامح وجهه.
يبدو فهد هنا صورة سعودية من ترافيس بيكل الشهير، بطل “سائق
التاكسي
Taxi Driver”
لمارتن سكورسيزي الذي قدم فيه روبرت دي نيرو أحد أدوار عمره. فهد بالطبع
أكثر براءة وأطيب قلبًا، ومدينته بصخبها أقل عنفًا من نيويورك السبعينات،
لكنه مثله محدود القدرات الاجتماعية، مكبوت عاطفيًا، يعاني في التواصل مع
النساء، مضغوط في مدينة أكبر وأعقد من طاقته على التحمل. ترافيس وفهد
شخصيات حدّية
borderline personalities،
على استعداد للانفجار كما يُمكن التوقع من اللحظات الأولى للفيلمين، فقط
علينا أن نتابع ونترقب حدوث التصادم الكبير بين الفرد الوحيد والعالم، ولا
تخيب توقعاتنا أبدًا.
لم يكن من الممكن أن يصل هذا الشعور دون الأداء المؤثر من
محمد الدوخي، الذي يهضم تفاصيل الشخصية المعقدة، ويقدمها بإحكام مُقبض
وطرافة رقيقة في الوقت ذاته، مؤكدًا ما نعرفه بأن الكوميديان الموهوب داخله
دائمًا ممثل كبير ينتظر الفرصة، فقط يريد شخصية مكتوبة ببراعة ومخرج يدير
الدفة ليمنحنا أداءً لا يُنسى.
“مندوب
الليل” عمل يمكن الرد به على من لا يزال يتساءل – أو يتعامى لغرضٍ في نفسه
– عن السينما السعودية وحضورها. فيلم كبير وأصيل، يروي مكانه وزمانه
وثقافته، بعين ناقدة لكنها محبة، وبمعاصرة لا يحاول صانعها اختراع العجلة،
بل يضع نفسه داخل سياق سينما عصره، مستفيدًا من تاريخها ومضيفًا بصمته
الخاصة، ومبشرًا بموهبة – بل مواهب – ننتظر منها الكثير. |