ينافس ضمن مسابقة «البحر الأحمر السينمائي»
«مندوب
الليل» .. دراما اجتماعية سعودية مُغلّفة بكوميديا سوداء
جدة ـ «سينماتوغراف» : إنتصار دردير
تسهم السينما عادة في صناعة الصور النمطية، كما تمتلك
القدرة على كسر هذه الصور، وعبر مشاريع سينمائية محدودة العدد، قدمت
السينما السعودية صورة مشرقة عن المجتمع المحلي من خلال القصور والسيارات
الفارهة، لكن أعمالاً أخرى كسرت هذه الأنماط عبر تسليط عدستها على حياة
المهمشين، وأحدثها فيلم
(مندوب
الليل،
Night
Courier)،
الذي عُرض أمس ضمن مسابقة البحر الأحمر السينمائي في دورته الثالثة، وهو
العرض الأول بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعدما شارك ضمن فعاليات
مهرجان "تورنتو" السينمائي الـ48، ونافس على جائزة أفضل فيلم في مهرجان
زيورخ السينمائي.
فيلم "مندوب الليل" دراما اجتماعية مُغلّفة بكوميديا سوداء
أخرجه علي الكلثمي، وشارك في تأليفه مع محمد القرعاوي، ولعب بطولته كل من
محمد الدوخي ومحمد الطويان ومحمد القرعاوي وسارة طيبة وهاجر الشمري، وهو من
إنتاج شركة "تلفاز 11″، ويقدم قصة مختلفة من حيث الشكل والمضمون عن السينما
السعودية السائدة.
يفتتح "مندوب الليل" بلوحة كتب عليها معاني كلمة "مندوب" في
اللغة العربية، المعنى الأول أنه الشخص المسؤول عن التوصيل، والثاني الشخص
الذي يندبه محبوه بسبب وفاته، والثالث الشخص المصاب بجرح أو علة واضحة.
تتكرر هذه اللوحة في الختام، كما لو أن المخرج يعطي
المشاهدين مع بداية الفيلم مفتاحاً لفهم عمله، وأسئلة يجب عليهم الإجابة
عنها، أهمها ما موقف البطل بين هذه الإجابات الثلاث؟.
فهد -بطل العمل- هو أحد أبناء الطبقة محدودة الدخل، وهو شاب
ثلاثيني يعمل في خدمة العملاء بإحدى شركات الاتصالات، يكره وظيفته، ومكانته
الاجتماعية وحاجته إلى المال لعلاج والده المسن المريض، ومسؤوليته عن أخته
المطلقة، مما ينعكس على كل تصرفاته، والنتيجة طرده من عمله بعدما رفض
الاستقالة بسبب أخطائه المتعددة، واعتدائه على مديره بالضرب.
بعد أن يفقد عمله الأساسي يتحول فهد إلى مندوب توصيل عبر
تطبيق "مندوبك"، وتبدأ من هنا حياته الليلية، فهو يتنقل عبر شوارع الرياض
من مكان إلى آخر، موصلاً أطعمة لا يقدر على دفع ثمنها، لزبائن ينظرون إليه
وكأنه أداة وجزء من التطبيق على هواتفهم المحمولة.
وعندما يلح المرض على والده، ويحتاج إلى مبلغ كبير تأتيه
فرصة الثراء السريع، بسرقة مشروبات كحولية من مصنع سري غير قانوني يعمل على
تقطيرها وبيعها في السر.
تبعاً لقانون نيوتن الثالث "لكل فعل رد فعل، مساو له في
المقدار ومعاكس له في الاتجاه"، لكن ذلك لم يحدث لبطل "مندوب الليل"،
فالفعل الذي ظنه بسيطاً بسرقة عدة زجاجات مشروبات من مجموعة محتالين نتجت
عنه العديد من العواقب التي تعكس موقعه في المجتمع.
فهو لا يستطيع حتى الانتماء إلى جانب المجرمين، وفي الوقت
ذاته لا يحظى باحترام الفتاة المعجب بها؛ لأنه لا يتحدث أي لغات أجنبية،
ولا يستطيع العمل في شركة متعددة الجنسيات، كما أن علاقته مع شقيقته سيئة،
إذ لا ترى فيه سوى "فاشل".
ما يميز طريقة كتابة شخصية فهد أن المشاهد لا يمكنه أن
يتعاطف معها بالكامل؛ فهي شخصية رمادية لها أخطاؤها الأخلاقية التي يصعب
التغاضي عنها، فهو عنيف واتكالي، ويقبل القيام بجريمة سرقة وبيع المشروبات
الكحولية لحل مشاكله المادية، لكن أيضاً يصعب الحكم عليه بصورة سلبية
تماماً، فهو ضحية الجميع وحتى نفسه واختياراته الخاطئة.
يحتوي اسم الفيلم باللغة العربية كلمة "الليل"، وهي ليست
فقط إضافة على كلمة مندوب، بل هي جزء أصيل من الحكاية، فالليل في هذا العمل
هو مرآة أخرى تعكس محل البطل في المجتمع، وفي الوقت ذاته تسمح بإلقاء نظرة
على مدينة الرياض من زاوية مختلفة.
يظهر الفيلم تناقض حياة الليل في الرياض بالنسبة للطبقات
المختلفة، فنرى بعض أبناء الطبقة المخملية يقيمون الحفلات، بينما يخرج
أبناء الطبقة الوسطى في المطاعم الأنيقة، في وقت يخدم فيه أبناء الطبقة
محدودة الدخل الجميع.
انعكس هذا الليل على الطبيعة البصرية للفيلم، وذلك نتيجة
لتصوير أغلب مشاهد العمل في أماكنها الحقيقية، فسادت الظلمة التي تبددها
الإضاءة بصورة تبرز معاني محددة. فعلى سبيل المثال، في مشهد البطل المحبط
نتيجة للفظ صديقته له أمام المطعم نرى أعلاه لافتة المطعم تتغير ألوانها،
ويشتد الأحمر في إشارة إلى مدى الغضب الذي يتصاعد داخله.
مشهد آخر لعبت فيه الإضاءة دوراً محورياً عندما يقابل فهد
أخته وابنتها في الكرنفال، حيث الألوان الساطعة والمبهرة، قبل أن يتحول
المشهد إلى اختطاف وعنف وانتقام من العصابة التي سرق منها المشروبات
الكحولية، فتنطفئ هذه الألوان، ويتحول المشهد إلى الطريق على أطراف الرياض،
حيث تتناوب الظلمة والنور من أعمدة الكهرباء، ويجاهد البطل لإنقاذ حياته.
يُقدّم الكلثمي نظرة على المجتمع السعودي، والحياة الليلية
بطريقة مغايرة وصادقة وجريئة، تدقّ ناقوس خطر متعلّق بالهوية الفردية
والجمعية، إذ يتناول تأثير التغيّرات السريعة، الاقتصادية والاجتماعية
والإنسانية، الحاصلة في السعودية، والصعوبات التي يواجهها البعض، أو
الغالبية، خاصة الشباب، في التكيّف مع الواقع الجديد، ومُتغيّراته.
لا يمكن اعتبار "مندوب الليل" فيلم طريق، لكنه ينتمي إلى
الشارع الحقيقي، ويعيد إلى الأذهان أفلام مدرسة الواقعية الإيطالية
الجديدة، في ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي أخرجت الكاميرا من
الأستوديوهات إلى الشوارع والحارات لتنقل حياة الناس العاديين.
عمل البطل مندوب توصيل جعل الشارع يحتل أغلب أجزاء العمل،
بما يعكس الفروق الطبقية في المدينة الواحدة، وحتى المشاهد الداخلية تمتعت
بالواقعية ذاتها، خاصة منزل البطل وأهله البسيط في أثاثه وترتيبه.
لم يقدم المخرج علي الكلثمي فيلماً عن الطبقة العليا أو حتى
الوسطى السعودية، وعلى الرغم من تصوير فيلمه في قلب العاصمة الرياض، فإنه
وجه كاميرته إلى مجتمع ذوي الدخل المحدود، ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في
المشهد الختامي للفيلم، والذي يجلس فيه البطل بالكرسي الخلفي لحافلة نقل
عام، وترتسم على وجه ملامح اليأس، ثم تتحرك الكاميرا بسلاسة للأمام مستعرضة
باقي وجوه الركاب، الذين على الرغم من جنسياتهم المتعددة تحمل وجوههم نفس
التعبيرات المثقلة بقلة الحيلة، وكأن المخرج يؤكد أن هموم بطله ليست فردية.
يعد "مندوب الليل" الفيلم الروائي الطويل الأول لعلي
الكلثمي، وقد لقي الاحتفاء من قبل في اثنين من المهرجانات العالمية
الكبيرة، وأصبح عليه عبء أكبر في مسابقة البحر الأحمر السينمائي، لإثبات
أنه أحد مكونات موجة سينمائية سعودية قادمة. |