الدورة 80 لمهرجان فينسيا .. عن قضايا اللاجئين والمتحولين
والعالم الذى يرفض بشرًا جددًا
«الحدود الخضراء» يشتبك مع قضية الهجرة غير الشرعية.. ويحصد
جائزة لجنة التحكيم
كتب: رامى
عبدالرازق
كأن من المفترض بحساب الأرقام أن يقترب مهرجان فينسيا
السينمائى الدولى (الموسترا) من عامه الـ100 خلال بدايات العقد القادم، حيث
تأسس المهرجان الأقدم عام 1932، مما يعنى أن الدورة الحالية كان من المفترض
أن تحمل رقم 91، لولا الحروب والأوبئة والمشكلات السياسية التي أفقدته 9
سنوات كاملة من عمره المديد، لكن يظل موسترا هو أول مهرجان في العالم يحمل
هذا الرقم الثقيل (80) وواحد من أكبر 3 مهرجانات في أروقة صناعة الخيال
بجانب مهرجانى كان وبرلين.
نظرية كل شىء.. يبدو الموسترا مهرجانا حميميا في تدفق عروضه
حسب مستويات مختلفة من الأذواق وثقافات التلقى والحدود المتباينة لمفاهيم
السينما، وذلك لدى الشرائح التي تسعى لحضور أيامه العشرة المدججة بالأفلام،
في حين لا يمتلك سوقا إنتاجية ضخمة مثل مهرجان كان صاحب الإيقاع الأشرس
والأكثر صخبا بين مهرجانات العالم.
احتوت مسابقة فينسيا هذا العام على 23 فيلما من بينها 6
أفلام إيطالية! وهى نسبة كبيرة لأى بلد مضيف في العالم، والبعض غير القليل
من هذه الأفلام لا يرق لأن يكون مشاركا في آخر المسابقات التنافسية الكبيرة
في العام، كما يهيئ الموسترا بعض شاشاته لصالح العروض الأولى لأفلام سوف
تتداولها المنصات الأشهر خلال أسابيع – فيلم عدد أو إحصاء للمخرج بابلو
لارين المشارك بالمسابقة سوف ينضم إلى قائمة عروض نتفلكس يوم 15 الشهر
الجارى- ولا يمانع المهرجان في أن يقدم لجمهوره أسماء مثل «القاتل» لديفيد
فنشر أو «القاتل المأجور» لريتشارد لانكلاتر داخل المسابقة وخارجها، وهى
تنويعات هوليوودية بحتة يمكن أن نشاهدها على mbc2 خلال
عام على الأكثر.
كل هذا بجانب تجارب متقشفة في تجاريتها – كالفيلمين
البولنديين «الحدود الخضراء» و«امرأة من» أو الدنماركى «الأرض الموعودة»-
والتى لا تحتوى خلاياها على الجينات «الأمريكية»، وتحتاج إلى متلقين ذوى
خبرات حساسة ورفيعة المقام في المشاهدة وقراءة الأفلام.
■ وداعات
الكبار
عقب عرض فيلمه الأخير «ضربة حظ» هرع الصحفيون للقاء وودى
آلان الذي حضر بكل هدوء إلى جمهور الموسترا الذي صفق له كثيرا، هذا الفيلم
الذي أنجزه في فرنسا على مقاسه المزاجى، رومانتيكى قائم على المثلث
التقليدى «الزوج والزوجة والعشيق»، وكعادته ينتقم آلان ممن يعكرون صفو
العشاق في أفلامه، فالحب هو الشريعة التي يؤمن بها، حتى لو كان لدى الزوج
استحقاقا اجتماعيا أوحتى قانونيا، بل إن قمة العبث أن ضربة الحظ المقصود
بها عنوان الفيلم ليست هي لقاء العاشقين اللذين كانا طفلين في مدرسة واحدة
وكبرا وكل منهما يحمل رائحة الآخر في ذاكرته، ولكنها الضربة التي أصابت
الزوج في مقتل وبشكل قدرى وعشوائى في نفس الوقت، حين أراد أن يقتل أم زوجته
لأنها اكتشفت أنه وراء مقتل العشيق الشاب، حيث يصاب بنفس الطريقة التي كان
يريد أن يصفى بها المرأة التي لا ذنب لها سوى أنها بقليل من الذكاء أدركت
أنه يحمل سمة القاتل.
وضمن نفس البرنامج الرسمى خارج المسابقة، حضر فيلم «القصر»
آخر إنتاجات رومان بولانسكى دون أن يحضر هو بالطبع – نتيجة الأحكام
القضائية التي تطارده منذ سنوات- حيث وجد جمهور الموسترا نفسه أمام تجربة
هي خليط من سينما «ويس اندرسون» –تحديدا فيلمه الشهير «اوتيل بودابست»-
وقليل من وودى آلان وبعض من نفحات الإيطالى روبرتو بينيو.
هذا فيلم من الصعب تصنيفه ضمن مشروعات بولانسكى المتعددة
سواء على مستوى البديات (روزامارى بيبى والجار) أو المرحلة الأيروتيكية
التي ختمها بأفلمة المسرحية الشهيرة فينوس ترتدى الفراء أو حتى المرحلة
الأخيرة التي احتوت على خلاصه تجربته في عوالم الإثارة والأسئلة المعلقة.
كباريه سياسى بامتياز، يحتوى على شخصيات تبدو مرجعيتها «سحر
البرجوازية» للإسبانى بونويل، حيث أوتيل فخم على الحدود السويسرية ليلة
ميلاد الألفية الجديدة، ينتعش بالحضور الزخم لرجال أعمال ومليارديرات
وأصحاب فخامة وسمو، 24 ساعة أخيرة في عمر قرن مضطرب وألفية دموية، وقرن
جديد يبدأ بجثة ثرى يموت وهو يضاجع زوجته فيتخشب بداخلها وتظل علامات
الدهشة والمتعة المفعة بالموت المفاجئ تعلو وجهه كرمز لموت طبقة بأكملها أو
استحقاق لجزاء لم تنله خارج الشاشة، ولكنها تناله في الواقع الفيلمى. طبيب
تجميل يفحص براز كلب لمجرد أن الكونتيسة صاحبته تعرض عليه أي مبلغ يطلبه،
ورجل أعمال أمريكى يتواطأ مع موظف بنك سويسرى لارتكاب سرقة القرن ساعة أن
يتوه النظام المصرفى لحظة انتصاف ليلة نهاية العالم، لكنه يفاجأ بحضور ابن
له من فلاحة ضاجعها وقت دراسته في أوروبا الشرقية وقت الستار الحديدى
السوفيتى.
يبدو «القصر»- وهو اسم الأوتيل في الفيلم- أقرب لفيلم
الوداع الذي ربما لن ينجز بولانسكى تجربة أخرى بعده، إنها شهادته
السينمائية على شاشة واحد من أكبر المهرجانات في العالم ونظرته لما كان وما
هو كائن وربما ما سيكون في أوروبا، هذا فيلم ينتهى بكلب يضاجع بطريقًا، فأى
عبث أكثر من هذا وأى نظرة سوداوية متشائمة – رغم زخم الكوميديا السوداء
وسوء الفهم والتلفيقات والإفيهات الجسدية- يحملها صاحب الـ93 عاما الذي قدم
نفسه للسينما بفيلم يحمل هواجس عن طفل شيطانى يولد في رحم امرأة تحيط بها
جماعة سرية من عبدة الشر.
■ من
سرق اللون من العالم؟
ينقسم جدول الموسترا إلى العديد من البرامج، والتى تتصدرها
بالطبع المسابقة الدولية، وتليها الاختيارات الرسمية خارج المسابقة، ثم
مسابقتا آفاق -المعنية بالتجارب الأولى والسرديات المغايرة- وأسبوع النقاد
الذي ينضح برائحة الشباب والمغامرات الجديدة.
من بين عشرات الأفلام المشاركة بالبرامج العديدة يمكن أن
نتحصل على عينة لقراءة بعض ما يشغل بال صناع السينما ضمن متاهات جغرافيا
القلق والشك والدم التي تعيد رسم خريطة العالم في العقد الأخير.
ربما يمكن أن نطلق على هذه العينة عنوانًا في هيئة سؤال
وجودى: «من سرق اللون من العالم؟».
في أفلام «مسكن» التركى – و«الحلبة» الإيرانى- الإسرائيلى
و«الحدود الخضراء» البولندى ثمة تأكيد على أن اللون، كل اللون، ينسحب من
العالم، وأن حيوات الشخصيات- التي هي انعكاسات لحيوات مجموعات عديدة من
البشر- تتحرك بين قوسى الأبيض والأسود الذي يصبغ الواقع برمادية مجحفة، لا
تساوى بين البشر بقدر ما ترثى لحالهم الذي فقد زهوته.
في الفيلم التركى «مسكن»- المعروض ضمن مسابقة آفاق- يعيش
الطالب المراهق أحمد داخل أسوار مدينة طلبة إسلامية من تلك التي كانت
منتشرة بشكل مفرط وقت حكم حزب الرفاة الإسلامى لتركيا قبل سنوات، هو لا
يريد سوى أن يكون طالبا عاديا مميزا بتفوقه، لكن أباه يرفض إلا أن يكون
تميزه كونه فردا في جماعة الحق من وجهة نظره، حيث الحياة المتقشفة
والآحادية الشعورية والفكرية التي تعوق هرمونات مراهقته أن تمارس عملها في
أن تجعله يكتشف العالم الحقيقى والجميل.
يمثل الأبيض والأسود لون الواقع كما يراه أحمد، أو كما لا
يرى منه سوى اللونين الباردين، وبينما يحاول يهرب تارة أو يحاول أن يكشف
حقيقة السكن الطلابى أمام السلطات التي تأتى للتفتيش بحثا عن أدلة لكون
المكان غير مطابق لشروط العلمانية المفترضة للدولة.
ويحاول الفيلم أن يطرح سؤال اللون بصورة أكثر عمقا من مجرد
نظرة الفتى؛ ما هو تصوره وأقرانه عن الحياة وهم يرون كل شىء عبر سياقات بلا
لون ولا طعم ولا رائحة سوى رائحة الأحذية التي يخلعونها وهم يدخلون المسكن
على اعتبار أنه مكان لا يقل قدسية عن المسجد!.
أما في الفيلم الإيرانى- الإسرائيلى «حَلبة» والمقصود بها
حلبة الجودو- المعروض أيضا ضمن مسابقة آفاق- فإن انسحاب اللون يأتى نتيجة
الموقف المر الذي تجد بطلة الجودو الإيرانية نفسها فيه وقت منافسات بطولة
العالم في أمريكا، حيث تأتى مكالمة لمدربتها- التي كانت بطلة سابقة واضطرت
للانسحاب قبل سنوات- من مدير الاتحاد يطلب منها أن تنسحب خوفا من أن تواجه
في مراحل التصفيات بطلة إسرائيل في الجودو – أو تهزم على يديها وهو الخوف
الأكبر- مما قد يتسبب في حرج لواحدة من أكثر الجمهوريات (الإسلامية) ظلامية
في العالم.
يبدو الأبيض والأسود جزءا من هذه الظلامية التي تتبع كل من
يغادر دولة الملالى المحتقنة بالاستعلاء وكراهية الآخر والغضب من أي صوت
معارض أو مخالف أو حتى يحتكم للعقل وليس للأحكام الصادرة من أولى الأمر- في
الحقيقة لا يوجد فرق كبير بين إيران وإسرائيل في هذه المسألة فكلاهما أنظمة
أسست انطلاقا من أكثر الكهوف الأيديولوجيا الدينية رجعية وعنصرية- الفيلم
من إخراج الإيرانية المعارضة زار إبراهيمى والإسرائيلى صاحب فيلم جولدا جاى
نيتف.
يلعب الأبيض والأسود بالإضافة إلى حجم الكادر الضيق نسبيا
على خنق عين المتفرج لكى ينتقل له الشعور بالحصار الشديد الذي تعيشه ليلى
الحسينى بطلة الجودو، وكيف تتابع عملية فرار زوجها وابنها لأنهما أول من
سوف يتم التنكيل بهما عقابا لها أو إمعانا في إذلال كرامتها من أجل أن
تنسحب نهائيا.
لا لون في هذا الفيلم من البداية إلى النهاية، حتى عندما
يحدث التحول الأهم بانضمام مريم مدربتها لها واعترافها بأن سبب انسحابها
قبل سنوات كان أمرا ظلاميا مباشرا كهذا الذي تواجه ليلى، إلا أن المخرجين
يحافظون على رمادية الواقع رغم طلب كلا المرأتين للجوء وحصولهما عليه في
النهاية فالمأساة ليست أشخاصا ولكن شعبا، والواقعة ليست فردية ولكنها طائر
رخ ضخم يحجب شمس الحرية عن الملايين.
تجدر الإشارة إلى أن الفيلم رغم إيقاعه شديد الرشاقة
والسيناريو المطعم بتفاصيل مكثفة ذات ثقل شعورى وانفعالى شديد الوطأة – مثل
مشاهد مطاردات مريم لليلى لإجبارها على الانسحاب أو مشاهد المباريات
المصورة بشكل يجعل مجازها يطابق دلالات ما تتعرض له ليلى من ضغوط في صراع
غير متكافئ أحيانا- رغم كل هذا تصاب نهاية الفيلم بداء المباشرة الذي يفتك
في مثل هذه الحالات بكل ما تم تشييده من أروقة انفعالية عميقة في نفسية
المتلقى وبدلا من أن ينتهى مثلا بينما تهرب مريم من رجال المخابرات
الإيرانيين الذين حضروا للقبض عليها بعد فرار ليلى يستمر في صورة بيان
سياسى هزيل تطلقه كلا المرأتين في وجه الكاميرا بشكل تليفزيونى حول كونهما
هاربتين ولاجئتين وأن نظامهما السياسى الديكتاتورى لا يدعم حتى حرية أن
تتنافسا بقدر اجتهادهما وطاقتهما ودون حسابات لا شأن لهما بها – نشير أيضا
إلى أن اللاعبة الإسرائيلية التي تم التحذير من مواجهتها تخسر المباراة قبل
النهائية عقب خسارة ليلى نتيجة الضغط العصبى الرهيب الذي مورس عليها
وبالتالى كان من الممكن ألا تواجهها ليلى من الأساس وهى أكثر رسائل الفيلم
قوة وذكاء فالأنظمة القمعية تظن أن نظرتها الأمنية ثاقبة لا يأتيها الباطل
من بين يديها في حين أن الأمر الصادر بالانسحاب جعل اسم البلد يخسر البطولة
العالمية.
أما في الفيلم البولندى «الحدود الخضراء» المعروض ضمن
المسابقة الدولية فإن اللون ينسحب أمام أعيننا منذ المشهد الأول للفيلم،
يتطاير الأخضر من فوق قمم الأشجار التي تمثل الحدود ما بين بولندا
وبيلاروسيا، حيث تصل مجموعة من اللاجئين من جنسيات مختلفة – سوريين وأفغان
وأفارقة- هاربين من أكثر من جحيم في بلادهم ليلاقوا حالة من انعدام لون
الضمير الإنسانى تماما، ويجدون أنفسهم مسحوقين نفسيا وجسديا وروحيا فوق
الأسلاك الشائكة بين بلدين كلاهما يلقى بهم في الجهة الأخرى من الآخر، حيث
يطردهم الجنود البيلاروس إلى الحدود البولندية فيعيدهم البولنديون إلى
بيلاروسيا وهكذا دواليك، فيفقد بعضهم الزوجة والآخر الأب والابن وتفقد
المرأة جنينها وتفقد الأخت أخاها، حتى لا يعود أحدهم قادرًا على مواجهة
مزيد من قهر الفقد لولا تدخل بعض النشطاء السياسيين بصورة غير رسمية
وانقلاب حال بعض الشخصيات من أقصى يمين التطرف العسكرى في مواجهة أزمة
إنسانية إلى يسار القضية، حين يتغاضى جندى حرس الحدود عن اختباء العائلة
السورية التي فقدت ابنها في مؤخرة شاحنة تهريب بعد أن كان قد سبق له وأن
القى امرأة حامل كأنها كيس نفايات من فوق السلم الشائك طردا من حدود بلاده.
بالطبع يبدو التناقض واضحا ما بين عنوان الفيلم «الحدود
الخضراء» وصورته الرمادية المضخمة بالقهر والذل غير المبرر. وهو تناقض يقبض
على المعنى ليؤكده بصريا، فالحدود لم تعد خضراء لا لأن الأشجار فقدت لونها!
أو لأن الشاشة حيدت اللون الدافئ الرقيق! بل لأن البشر فقدوا اخضرار
ضمائرهم، سواء كانوا ساسة في بلاد فقيرة ومقموعة ومفلسة أو جنود ينفذون
التعليمات كأنهم زناد معدنى ضمن سلاح حديدى بارد.
■ المزيد
من اللاجئين
تعد قضايا اللاجئين ومجتمع المتحولين جنسيا وأزمات المثلية
والعنف الاجتماعى هي أكثر الأزمات حضورا على أجندة المسابقات المختلفة
للموسترا 80، صحيح أن هناك تفاوتا كبيرا في مستويات التجارب ما بين من يسير
خلف القضية بلا هدف حقيقى أو من يعيد استخدامها بصورة جمالية بما يسمح
بالتعاطى معها مهما كانت الاختلافات الثقافية والحضارية بينها وبين
المتلقى. فجماليات الكتابة والتعبير البصرى الناضج وفخامة السرد وزخارف
المشاعر والانفعالات هي أكثر العناصر التي يمكن أن تصنع جسرا ما بين الجالس
في الصالة والمعروض على الشاشة في القاعة المظلمة.
هنا يمكن التوقف أمام تجربة الإيطالى ماثيو جارونى – صاحب
الفيلم الرائع الرجل الكلب قبل 4 سنوات- وفيلمه المنافس على الأسد الذهبى
«الكابتن» والذى يتتبع فيه رحلة فتى سنغالى منذ أن يقرر أن ينفض غبار بلدته
الصغيرة عن جلده الأسمر الغض في رحلة هجرة غير شرعية إلى إيطاليا، دون أن
يدرى أن ما ينتظره من أهوال يفوق أي تلال من المعاناة يمكن أن يكون قد
عايشها في قريته الفقيرة.
بالطبع ثمة فارق يحسب لفيلم «الحدود الخضراء» الذي يشتبك
أيضا مع قضية اللاجئين والهجرة غير الشرعية، لأن جارونى ببساطة يعتمد أن
أهوال رحلة بطله كفيلة بضمان التعاطف والتفاعل والدهشة، مما أوقعه في فخ
النمطية فيما يخص النوع، فطوال العقد الماضى انهالت علينا أفلام من كل صوب
عن رحلات اللاجئين والمهاجرين بشكل يجعل كل فيلم جديد عن نفس القضية هو
مخاطرة أكثر منه مغامرة.
نحن نتابع فتانا وهو يفقد موسى ابن عمه نتيجة اكتشاف المال
المخبأ في مؤخرته حين فتشه الجنود الليبيون على الحدود ما بين النيجر
وليبيا، ثم نراه وهو يباع كعبدمن أجل بناء قصر لأحد رجال الأعمال بعد أن تم
تعليقه كالذبيحة لأيام لأنه رفض أن يدلى برقم أمه من أجل أن تدفع له فدية
تحريره، وأخيرا حين يعثر على موسى وعلى مهرب يمكن أن يضعهم على ظهر مركب
تتجه إلى صقلية يُطلب منه أن يقود هو القارب- ومن هنا يأتى اسم الفيلم
الكابتن أي قائد المركب.
لا شك أنه فيلم مصنوع بشكل جيد ولكن الصنعة ليست هي الجمال،
والعبرة بخواتيم الرحلة أو ذورتها والتى جاءت في حالة باهتة وضحلة بشكل غير
متوقع، فالفتى الذي لا يدرى سوى تعليمات قليلة عن قيادة المركب ينجح في
اجتياز الأميال البحرية بين طرابلس وصقلية، يمر بجانب حفار غاز عملاق فينظر
له منبرها ويمضى، وتكاد امرأة تلد على ظهر القارب فيطلب النجدة من حرس
الحدود الدولى لكن أحدا لا يستجيب له، ويختنق بعض الرجال في غرفة المحرك
فيساعد في إخراجهم للهواء الطلق، وأخيرا يصل إلى شاطئ الدولة التي لا تنص
قوانينها على ترحيل اللاجئين فيصرخ سعيدا بذاته كقائد للمركب! فهل هذه
سياقات مكتسبة لأى عمق أو تستحق أن تصبح ذروة لرحلة دموية ملعونة كتلك التي
خاضها عبر الصحراء الإفريقية المشتعلة بالرمل والشمس وتجار الرقيق والجنود
الفاسدين!
لا معضلات حقيقية ولا أزمات واقعية أو حتى مجازية ولا
اختبار إلهى أو إنسانى لصلابته أو تماسك حلمه أو متانة إرادته، فقط بعض
الموسيقى الموترة واللمحات البعيدة لما يمكن أن يكون عاصفة أو مركب شرطى
وبعض الصراخ من المرأة التي على وشك أن تضع مولودها وشجار حول الماء بصورة
غير مقنعة!
هكذا لم ينجح المخرج الكبير في بناء جسر متماسك عبر
الجماليات بين المتلقى والقضية وبالتالى فقد ميزة تنافسية كبيرة كان من
الممكن أن تضعه ضمن قائمة الأفلام المتنافسة في شراسة على الأسد المجنح هذا
العام.
■ وأخيرا
تجدر الإشارة إلى أن مسابقة الموسترا (آفاق) وهى الأكثر
زخما على مستوى الكم والكيف تبدو وكأنها تشكلت هذا العام انطلاقا من هم
جمعى ينتمى لنوعية أفلام النضج والبلوغ أو اكتشاف المراهقين للعالم، ليس من
منطلق اتساع العين الشابة على الجديد مما هو مجهول أو غيبى أو غائم بل من
منطلق أن غالبية أبطال الأفلام من المراهقين لديهم هم واحد أساسى وهو أن
يربحوا انفسهم حتى لو خسروا العالم كله، العالم الذي يبدو أنه لن يحتملهم
أو يشعرهم وهم لا يزالون يدبون بأقادمهم الجديدة على أرضه الزلقة البائسة
أنه لم يقعد لهم موطئ قدم سواء حقيقى أو مجازى وأنه ربما عليهم أن يبحثوا
عن عالم آخر كى يكتسبوا صفات النضج والتحضر والإنسانية التي فقدت ألوانها
التعريفية ولم تعد تتمايز عن الشر وغياب الضمير وقبح الصفات.
يمكن أن يبدو كل ما سبق تلخيص لما ورد في أفلام مثل
الإيطالى «يوم أحد أبدى» أو السويدى «الجنة تحترق» أو فرنسى «ليل آخر سوف
يأتى» أو البريطانى «أفقى» فكل هذه العناوين تؤصل جماليتها إلى أن الحياة
لم تعد ترحب بالقادمين الجدد وأن الخيارات المتاحة رغم عدم منطقيتها إلا
أنها أكثر رفقا بهم من الحياة ذاتها. |