فينيسيا 2023.. كأس اللاجئين الدوّار في فيلم
The Green Border
فينيسيا-
رامي عبد الرازق*
10
دقائق كاملة من التصفيق المستمر والحميمي تلقتها المخرجة البولندية أجنشكيا
هولند، بمجرد نزول تيترات فيلمها
The Green Border
(الحدود الخضراء) عقب عرضه الأول في مهرجان
فينسيا السينمائي الدولي،
ليصبح واحد من أكثر أفلام المسابقة الرسمية في الدورة 80 تتويجاً بتصفيق
الجمهور تعبيراً عن حصوله على المتعة الشعورية والذهنية المنتظرة، من تجربة
سينمائية مكتملة العناصر فائرة التداعيات.
بجانب
The Green Border
ثمة تجربة بولندية أخرى داخل قائمة أفلام المسابقة الرسمية
Woman Of..
(امرأة من..) للمخرجين مالجورزاتا سزوموفسكا وميشال إنجليرت، عن رحلة رجل
يعاني من أزمة هوية جنسية بالتزامن مع خروج بولندا من الإتحاد السوفيتي عقب
انهياره، وينتمي لنوعية أفلام المتحولين والباحثين عن ميولهم الجندرية- وهي
نوعية أصبحت على رأس قائمة المهرجانات الدولية ضمن أجندات الصوابية
السياسية.
يمكن أن نشير أيضا إلى اسم آخر في أفلام المسابقة
الرسمية هذا
العام، للمخرج الإيطالي ماثيو جاروني
The Capitan
(الكابتن)، رغم كونه أقل أفلامه عنفا وصدامية، فعلى غرار
The Green Border
ينضم الفيلمان إلى مفرزة سينما اللاجئين والهجرات غير الشرعية، وهي أيضا من
النوعيات الفيلمية التي لا تخلو منها مسابقة أو برنامج سينمائي دولي خلال
العقد الأخير، وإن كان الحدود الخضراء باذخ الانفعالات، جرئ، ومتجاوز
للتقليدية التي اصبحت سمة عامة للأفلام التي تتابع فيها الكاميرا زحف
الأجساد من فوهات الحروب والفقر في بلادهم إلى أسفل الكباري، وعراء
العنصرية، وروائح المراحيض العمومية في قاع الحلم الأوربي الزائف.
أين ذهب الأخضر؟
يبدأ الفيلم بلقطة أقرب لعين طائر يسبح في هواء ناعم فوق
بحر تشكله قمم الأشجار العالية، دافئة الخضرة، وقبل أن تتشبع العين بخلايا
الأخضر المريحة، ينسحب اللون من اللقطة تماماً ليسود الأبيض والأسود من هذه
اللحظة وحتى النهاية.
إنها الحدود الخضراء التي فقدت لونها في إرهاصة لكل ما حدث
ويحدث، ضمن تقلبات الوضع السياسي والإنساني الإقليمي والدولي من قبل حتى أن
تبدأ الحرب الروسية الأوكرانية.
تُجردنا المخرجة من اللون الأخضر لأن العالم لم يعد مكانا
صالحا لحضوره الحميمي، عالم رمادي بلا ميزات لونية تفرق بين الأجناس لكنه
لا يخلو من دمامة الكآبة، بل أننا مع كل مشهد يمكن أن نستعيد تلك اللحظة
التي تجدرنا فيها من الأخضر في بداية الشريط السينمائي، لندرك عمق المآساة
التي نعيشها جميعاً، شخصيات ومتلقين.
يدور
The Green Border
في 4 فصول متفاوتة الطول تحمل عناوين (الأسرة- حرس الحدود- النشطاء- جوليا)
في سياق ملحمي واضح على مستوى السياقات النفسية والفكرية، رغم أن الفيلم
كله لا يتجاوز بضعة أيام في زمنه الأساسي.
تبدأ عجلة الزمن في الدوران مع نهايات أكتوبر 2021 (الخريف
الأوربي الصريح) على الحدود التي من المفترض أنها خضراء بين بيلاروسيا
وبولندا، ويستمر دورانها – ككأس من المرار المكتوب على كل الأفواه- على
الحدود ما بين بولندا وأوكرانيا عقب اندلاع الحرب الأخيرة.
اختيار نقطة الانطلاق الزمنية قبل شهرين من الحرب
الأوكرانية يحمل الآنية وذكاء المقاربة، الأسرة العربية التي يبدأ بها
الفيلم فصله الأول ليست هاربة من الحرب الأهلية السورية فقط، ولكن من داعش
أيضاً -رب الأسرة يحمل علامات الجلد على ظهره لأنه ضُبط يشرب السجائر-
والزمن في الفيلم يسير بشكل خطي إلى الأمام، ككتلة واحدة ثقيلة الوطأة،
يتقافز السرد مكانياً بين أكثر من نقطة حدودية، مثل منزل الجندي حارس
الحدود وأماكن تجمع النشطاء، والمستشفى التي يتم إيداع لاجئة أفغانية فيها
ثم طردها من قبل البوليس ليتم ترحيلها إلى بيلاروسيا مرة أخرى، لكنه لا
يشغل المتفرج بمعالجة صعبة للزمن، يكفيه اللهاث خلف الحركة العبثية لمطاردة
اللاجئين بين بولندا وبيلاروسيا.
في مشهد رهيب يتم إلقاء امرأة من ذوي الأصول الإفريقية حامل
من فوق السلك الشائك بين حدود البلدين لمجرد أنها تشبثت بالشاحنة التي سأمت
من ركوبها ذهاباً وإياباً، وكل دولة ترميهم خارج حدودها كالنفايات خلف حدود
الدولة الأخرى.
رحل دون أن يتألم
"إن
كل لاجئ هو عبارة عن رصاصة محتملة في صدرك"
هكذا يلقن رئيس دورية الحرس جنوده قبل الانطلاق في تمشيط
المناطق الحدودية، ومن هذا المنطلق يجد جندي حرس الحدود نفسه مطمئناً لفكرة
إلقاء اللاجئين من فوق الأسلاك إلى الجهة الأخرى، سواء كانوا بشراً كالمرأة
التي أشرنا إليها أو جثثاً لم تنجح أرواحها في البقاء حية بعد الزحف
واجتياز الحد الشائك.
ولكن حين تراه زوجته الحامل في الفيديو الذي تم تصويره له
وهو يقوم بهذا الفعل المشين إنسانياً، تشعر أن طفلهما
القادم لن يكون أمناً في عالم يلقي فيه أباه امرأة حامل من فوق الأسلاك
كأنها كيس من النفايات، بل إن التناص هنا بين كون كلا المرأتين يحملان
أطفالاً في أرحامهن هو تناص مقصود تمام بغرض لطم الشخصية والمتلقي على حد
سواء وبينما تفقد المرأة جنينها نتيجة إلقائها كشوال غير أدمي، تفقد الأسرة
السورية بكريها نور، الفتى الرقيق الذي لم يشأ أن يترك المرأة الأفغانية
التي صاحبتهم طوال الرحلة بمفردها، فما كان منه إلا أن لحق بها وانتهى أمره
غرقاً في واحدة من مستنقعات الغابات الحدودية، التي لم تعد خضراء.
هكذا سوف تبقى أخت نور المشاكسة بلا أخ أكبر يؤنبها، أو
يحمل أخاه الرضيع حتى تتمكن أمه من تغيير ملابس اخته المبتلة.
"لقد
رحل نور دون أن يتألم" بهذه الكلمات ترثي المرأة الأفغانية الجسد الصغير
الذي امتلات رئته الغضة بالطين، بينما كان يحلم بهواء أكثر نقاءً من ذلك
الذي تلوثه داعش بكرابيجها، أو تخنقه الحرب الأهلية بسواد البراميل
المشتعلة، هذا عالم تنحبس فيه رئة الطفل الصغير ما بين دخان الوطن وطين
المنفى.
تحولات
يدين الفيلم الأطراف السياسية الرسمية سواء حكومة بيلاروسيا
الذي يقال صراحة على لسان أحد الشخصيات أن رئيسها يستدعى اللاجئين إلى
بلده، بوعد أن يجعلهم يبلغون أوربا عن طريق بولندا، لمجرد أن يضغط على
حكومات الدول المجاورة ويؤرق نوم ساستها، أو الشرطة وحرس الحدود البولندي
الذي يبدو أن المخرجة أجرت بحثاً ميدانياً واسعاً، وأتت بقصص حقيقية عن
واقع اللاجئين وما يحدث لهم على الحدود الملوثة بالأغراض السياسية القبيحة.
إلا أن السيناريو ينجح في إتمام عدد من التحولات التي تجعل
الحلول بين يدي المواطنين سواء كانوا مدينيين أو عسكريين، فجوليا الطبيبة
النفسية التي تعيش مع كلابها الشقية تنجح في تهريب عدد من الفتيان،
بالتعاون مع واحد من مرضاها المصاب بهستيريا اجتماعية، نتيجة تردي الوضع
السياسي في البلد، والذي يجد في استضافة مجموعة الشباب الأفريقي اللاجئ
مساهمة منه في قضايا بلده، ودوراً حقيقيا كمواطن غير راض عما يحدث في أورقة
الساسة وأصحاب القرار.
أما جندي حرس الحدود فإن إنسانيته المدجنة أسفل زيه العسكري
لا تلبث أن تفور في مشهد بليغ، حين ينتابه حالة صراخ مستمر وموجه بينما
يستعيد ما فعله مع المرأة السمراء، وكأن تلك الذكرى الشائكة لن تغادر دمه
أبداً مهما فعل، وهو ما سوف يدفعه إلى أن يتغاضى عن وجود الأسرة السورية في
مؤخرة شاحنة التهريب حين تتوقف عند الكمين الذي يشرف عليه.
هذه التحولات الدرامية التي تبدو متفرقة وصغيرة، هي ما تشكل
في النهاية مجاز الحدود الخضراء الحقيقي، فالحدود من صنع البشر وهم من
يمكنهم أن يجعلوها خضراء أمام من يحتاجون المساعدة، أو يغلقوا أمامهم باب
الرحمة، تاركين المشهد في لجة رمادية قاتمة.
صحيح أن الفيلم لا يستعد الألوان في النهاية لأن الأزمة لم
تنتهي، لكننا نرى كيف يتعامل البولنديون مع اللاجئين الأوكران عقب بداية
الحرب، وكيف تتناص تداعيات القهر والفرار أمام الآلة العسكرية ما بين
القادمين من الشرق والفارين من الغرب. |