ملفات خاصة

 
 

نافذة على فلسطين.. أفلام تقاوم بالصورة البصرية والفكر الخلاّق

الجونة: عدنان حسين أحمد

الجونة السينمائي

الدورة السادسة

   
 
 
 
 
 
 

لم يكن بالإمكان، والحرب قائمة على غزّة، إقامة مهرجان الجونة السينمائي السادس بمظاهر احتفالية باذخة كما في دوراته الخمس الماضية التي لفتت الانتباه إليها محليًا وعربيًا وعالميًا كواحةٍ للحرية الفكرية، والجرأة الفنية، والجمال البصري الذي ينمّي الذائقة الفنية لمحبّي الفن السابع ومتلقّيه.

ولم يسعَ القائمون على المهرجان لتبرير إقامته في ظل الظروف المأساوية التي يتعرّض فيها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة لأبشع إبادة جماعية عرفها العالم في تاريخه الحديث فلاغرابة أن يكسروا القاعدة المتبّعة في إلغاء المهرجان بعد تأجيله لأكثر من مرة على أن تتحسن الظروف وتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية ويلوذوا بفكرة "الدورة الاستثنائية" التي تضحّي بالمظاهر الاحتفالية الباذخة في حفليّ الافتتاح والاختتام ويرفدوا المهرجان ببرنامج استثنائي متفرد يحمل عنوان "نافذة على فلسطين" تتضمن عرض عشرة أفلام فلسطينية تم اختيارها بالتعاون مع "مؤسسة الفيلم الفلسطيني" التي رأت أنّ هذا البرنامج "يمثّل فرصة فريدة للتفاعل مع الأشخاص الصامدين. وأنّ هذه الأفلام ليست مجرد تصوير للحياة في فلسطين ولكنها نافذة على التجارب الجماعية والتحديات والانتصارات التي تشكّل المنطقة". ولكي تتضح الصورة أكثر وتخلو من التشويش والالتباس فقد أكدوا بأن هذا البرنامج "هو أكثر من مجرد مجموعة مختارة من الأفلام، إنها دعوة للتعاطف والتفاهم والتقدير المشترك للتجربة الإنسانية". وعلى الرغم من أنّ 8 من هذه الأفلام العشرة قديمة ويعود إنتاجها إلى عاميّ 2004م و 2019م إلاّ أن هناك فيلمين جديدين ومُهمَّين هما "الأستاذ" لفرح النابلسي و "وداعًا طبريا" للمخرجة لينا سويلم اللذين تم إنتاجهما سنة 2023م. أمّا الأفلام الأخرى بحسب تسلسلها فهي "إسعاف" لمحمد الجبالي، و "إلى أبي" لعبدالسلام شحادة، و "باب الشمس" ليسري نصرالله، و "بلا سقف" لسينا سليمي، و "الرسم لأحلام أفضل"، و "الشجاعية" لمحمد المُغنّي، و "كوندوم ليد" لعرب وطرزان ناصر، و "ليس بالصورة فقط" لدرور ديان وآن پاك. وقد تسنّى لي مشاهدة كل هذه الأفلام باستثناء "كوندوم ليد" الذي تصادف عرضه مع فيلم "سعادة عابرة" للمخرج الكوردي العراقي سينا محمد، وهو فيلم كوميدي تدور أحداثه عن زوجين مُحبَطين يسعيان لتحقيق لحظات حميمة في ظل القصف الإسرائيلي المتواصل لمدينة غزة.

يعتمد فيلم "الأستاذ" لفرح النابلسي على قصة رصينة ومحبوكة بشكل جيد صوّرت المخرجة وقائعها قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023م وبدء الحرب على قطاع غزة. تتمحور قصة الفيلم على شخصية باسم الصالح التي جسّدها ببراعة الفنان صالح بكري، مدّرس اللغة الإنگليزية الذي تعرّض ابنه المراهق للسجن بسبب مشاركته في تظاهرة، وعلى الرغم من مرض الابن إلاّ أنّ السلطة الإسرائيلية تتركه يواجه مصيره المحتوم بوحشية كبيرة الأمر الذي يفضي إلى تفكّك زواجه وفقدان أسرته، وزهده بالحياة. ولكنه بالمقابل يركز اهتمامه على الطالبين الشقيقين آدم المجتهد، ويعقوب المتمرّد اللذين تهدم السلطة الإسرائيلية منزلهما، وتحرق أشجار الزيتون، وتقتل يعقوب بدم بارد فتتطور الأحداث حينما يحتفظ الأستاذ بأسير إسرائيلي في منزله على أمل أن يقايضه بألف أسير فلسطيني بينهم أطفال ونساء حيث يقّدم الفيلم في خاتمة المطاف رسالة مفادها "أنّ فعل المقاومة يجب أن يكون مُحترفًا ومُمنهجًا بشكل مستمر".

يدور فيلم "إسعاف" لمحمد الجبالي على حرب 2014م في غزة حيث ينضم المخرج إلى طاقم سيارة الإسعاف مع اقتراب الحرب، ويستكشف القصص الخفية وراء أعمال العنف المتكررة في غزة وسط دوي المدافع وقصف الطائرات التي تدمر البشر والحجر والشجر. وعلى الرغم من قساوة أحداث الفيلم ودمويته إلاّ أنه يعبر عن المعاناة الصادقة للشعب الفلسطيني، ويرصد بصيص الأمل لسكّان غزة الذين يعيشون وسط حروب متواصلة لا تزرع اليأس والقنوط في نفوسهم المحبة للحرية والحياة الكريمة رغم قساوتها ووحشيتها.

على الرغم من أنّ الثيمة الأساسية لفيلم "إلى أبي" لعبدالسلام شحادة تتمحور حول التصوير الفوتوغرافي في خمسينات وستينات القرن الماضي وما تلاها من عقود إلاّ أنّ هذه الثيمة تتشظى إلى أبعد من مهنة التصوير سواء بالأسود والأبيض أو الملوّن فالمخرج يقسّم فيلمه إلى خمسة أقسام رئيسية تمرّ جميعها عبر تقنية التصوير الفوتوغرافي وهي حرب حزيران سنة 1967م، والانتفاضة الأولى، ودخول السلطة الفلسطينية إلى غزة، والانتفاضة الثانية، وفيلم "الأيدي الصغيرة" الذي أنجزه المخرج شحادة سنة 1996م. يعتمد المخرج على تقنية السرد الذاتي في هذا الفيلم متخذًا من أغنية سيد درويش خلفية لهذه السردية الحميمة التي تقول أشياءَ كثيرة تتجاوز حدود البوح والتوثيق حيث يقول:" "أنا اسمي عبدالسلام.. ولدتُ في مخيم رفح بعد الهجرة بـ 13 عاماً حكايات انكتبت في أعماقي ذكريات وصورًا.. كيف تهجّروا في عام 48.. أنا نفسي صرت حكاية" يعرض المخرج صورًا للرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر والرئيس العراقي عبدالسلام عارف وصورًا لمطربين مشهورين أمثال عبدالحليم حافظ وفريد الأطرش، ويعيدنا إلى ذكريات الطفولة والصبا حينما كان يلتقط صورًا لتلاميذ المدارس، ثم تتحول هذه الصور الجميلة إلى مصدر خوف ورعب شديدين حينما يستعملها المحتل كوثيقة إدانة وتجريم.

تتضمن النافذة أيضًا فيلم "باب الشمس" للمخرج المصري يسري نصرالله الذي يقتبس مادته من الرواية الملحمية للكاتب اللبناني إلياس خوري التي تروي قصة شعب فلسطين والنكبة وما عانه الفلسطينيون من التهجير في مخيمات الجليل إلى مخيمات لبنان ويرصد فيها خمسين عامًا من التاريخ المرّ والمعاناة القاسية من دون أن يغيّب عنصر الأمل أو يطمس غريزة الحب التي تتأجج في قلب الإنسان الفلسطيني في سنوات الحرب والسلام.

تتلقّى بطلة "بلا سقف" تحذيرًا من قِبل قوات الجيش الإسرائيلي قبيل شن الغارات الجوية لإخلاء المنزل بينما تنهمك هي في إعداد وجبة الإفطار الرمضانية لعائلتها فيسبب لها هذا الاتصال المروّع مأزقًا مأساويًا آخرَ يجبرها على مواجهة خيار مستحيل. يقدّم هذا الفيلم قراءة ثاقبة للواقع المعقد الذي تعيشه غزة في أوقات الحرب التي تهدد الفلسطينيين المسالمين بالقتل والطمس والإبادة الجماعية.

يأخذنا فيلم "الرسم لأحلام أفضل" للمُخرجَين مي عودة وضياء العزة إلى الصور المعبرة التي تجود بها قرائح الأطفال الفلسطينيين ومخيلتهم المجنّحة؛ أطفال تتراوح أعمارهم بين التاسعة والثانية عشرة يعيشون تحت حصار ظالم فيحرّكون رسوماتهم الجميلة التي تستدعي نضال الأطفال الفلسطينيين الذين يقارعون الاحتلال بطريقتهم الخاصة ويتيحون لأنفسهم مساحة كبيرة من الأمل والحلم بمستقبل أجمل وأكثر أمنًا أمانًا.

يتمحور فيلم "الشجاعية" لمحمد المغنّي حول أسرة نمطية من غزة تعيش حالة من الفوضى والارتباك بعد أن تعرضوا إلى الهجمات بالقنابل التي قوّضت منزلهم وقتلت بعضًا من سكّانه وأصابت البعض الآخر بجروح خطيرة حيث بترت ساق الأب، وأصيب ابنه الصغير بجرح طفيف في باطن قدمه الأيسر فيما انفصل عن زوجته التي تعيش مع عائلتها الآن لكنها تريد العودة إلى زوجها الذي نفر منها ورفض الإجابة على أي سؤال يتعلّق بها أمام الكاميرا.

يدور فيلم "ليس بالصورة فقط" لدرور ديان وآن پاك على الشقيقين الألمانيين الفلسطينيين رمسيس وليلى كيلاني اللذين تركهما الوالد بعد أن انفصل عن أمهما الألمانية وتزوج من معلّمة في غزة وأنجبت خمسة أولاد لكنهم تعرضوا في حرب 2014م إلى غارة جوية قتلتهم جميعًا حيث تسافر ليلى إلى فلسطين للتعرف على جذورها بينما يقوم رمسيس بجولة أوروبية ويتابع قضيته ضد إسرائيل من خلال المحاكم الألمانية بينما يتمنى عمهما صالح أن يرى أبناء أخيه على أرض الواقع وليس بالصورة فقط.

يختصر المبرمج الهندي رامان شاولا تجربة المخرجة الفرنسية لينا سويلم (نصف جزائرية، نصف فلسطينية) حينما يقول في دليل المهرجان أن فيلمها الأول "جزائرهم" يركز على الجانب الأبوي لعائلتها بينما تستكشف في "وداعًا طبريا" الجانب الأمومي، وهذا توصيف دقيق جدًا حيث تسافر سويلم عبر الزمان والمكان لالتقاط القصص التي تناقلتها أربعة أجيال من النساء الفلسطينيات الجريئات في عائلتها التي تتألف من والدتها وجدتها وسبع أخوات لتطرح على والدتها أسئلة الحُب، والسفر، وحياة المنفى بعيدًا عن الجذور والذاكرة الجمعية التي تتوهج في الأذهان. وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ هذه النافذة الفلسطينية قد رفعت العتب، ومنعت الإحراج، وجعلت إقامة المهرجان مهمة وطنية لابد منها.

 

المدى العراقية في

10.01.2024

 
 
 
 
 

شريط {الأجسام}.. يرصد الإحساس بالعجز والإهانة المعنويَّة

عدنان حسين أحمد

 احتضنت الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي لسنة 2023 مسابقة الأفلام الروائية القصيرة، التي تضمنت 21 فيلما من مختلف بلدان العالم، وكان من بينها فيلم {الأجسام أقرب مما تبدو عليه} للمخرج المصري أحمد صبحي، وعلى الرغم من أن الجوائز الأربع المخصصة لهذه المسابقة قد ذهبت لأفلام أخرى من بينها {يرقة} لميشيل ونويل كسرواني و{البحر الأحمر يبكي} لفارس الرجوب، إلا أن الأفلام الأخرى كانت تتوفر على سوية فنية واضحة لا يمكن تفاديها أو غض الطرف عنها،  ومن بينها  فيلم {الأجسام أقرب مما تبدو عليه} الذي ينطوي على ثيمات متعددة أبرزها الحب، وتعدد العلاقات العاطفية، والاتكاء على الآخرين، والشعور بالخزي والعار.

تدور أحداث الفيلم حول نعيم، الذي يخرج إلى موعد غرامي مع حبيبته ياسمين ببطاقة بنكية خالية من الرصيد، فيقرر الذهاب إلى منزل شقيقته سهر لاقتراض بعض النقود، لكنه يكتشف أن أخته قد تعرّضت للسرقة، بحسب إدّعائها، الأمر الذي يفضي بنعيم إلى الدخول في دوّامة عاطفية تجبره على مواجهة الإحساس بالذل والمهانة والانكسار. وعلى الرغم من التطورات الدرامية في سياق الحدث إلّا أنّ هناك مفاجأة أخرى يؤجلها كاتب السيناريو ومخرج الفيلم أحمد صبحي وسوف تتكشف قبل نهاية الفيلم بقليل. ثمة تركيز واضح على شخصية البطل نعيم، التي جسدها المخرج أحمد صبحي بنفسه، وأراد من خلالها أن يرصد فكرة العجز الذي تناوله في فيلمه الأول "حادث قديم جدًا" لكن القصور هذه المرة أفضى به إلى الشعور بالعار والشنار، فهو فتى في ريعان شبابه يحب ياسمين، ويخرج معها في مواعيد غرامية، لكنه مرتبط أيضًا بفتاة أخرى تُدعى سلمى التي نتعرّف عليها من خلال مكالمة هاتفيةيقول فيها:"إزايّك يا سلمى؟ أنا أنه بقى لنا كثير مش بنتكلّم بس من ساعة ما سبتيني وأنا بحاول أدوّر على نفسي، وحشتيني". فشخصية نعيم قلقة ومضطربة ولا تستطيع الاستقرار على علاقة عاطفية واحدة، وهو ينتقل بين ياسمين وسلمى كما أنه يعتمد على شقيقته سهر كلما ضاقت به الحيل.

تستغرب ياسمين من موقف نعيم الذي أوهمها بالخروج إلى هذا الموعد الغرامي، وهو لا يمتلك شروى نُقير ووضعها في دائرة الإحراج، فهي الأخرى لا تمتلك نقودًا تؤمّن لها العودة إلى منزلها وعليها أن تقطع طريق العودة مشيًا على الأقدام. يستأذنها بالصعود إلى الشقة والعودة خلال دقيقة واحدة، لكنه يكتشف أن شقيقته قد تعرضت للسرقة كما تدّعي، وأن زوجها محمود قد ذهب إلى مركز الشرطة، وحينما عاد طلب منها أن تخبره عن تفاصيل السرقة بالضبط، لكي يروي لضابط الشرطة ما حدث لكننا سنكتشف لاحقًا أنّ السرقة مزعومة ولم تقع على أرض الواقع أبدًا.

في خضم هذا الوضع المضطرب يطلب نعيم من شقيقته مبلغ 400 جنيه لأنه بحاجة ماسة إليها الآن وعليها أن تدبر هذا المبلغ مهما كلّف الأمر، آخذين بنظر الاعتبار أنّ زوجها زوجها محمود قد طلب منها أن تذهب إلى منزل أمها بحجة أنه غير قادر على التفاهم معها، ومعرفة مصير النقود التي أعطاها إيّاها منذ عشرين يومًا.

تحتدم النقاشات بين الأطراف الثلاثة، فالزوج محمود يتناول حبوب الجلطة، وزوجته سهر تنهار أمام الكلمات والنعوت القاسية لشقيقها، الذي يصفها بالغباء والنفاية البشرية عندها يُغمى عليها فتسقط أرضًا ولا تستفيق إلاّ بشق الأنفس.

يبدو أن البنت الصغيرة آلاء هي الوحيدة التي تعرف تفاصيل الحكاية من الألف إلى الياء، وقد أخبرت نعيم في نهاية المطاف بأنها أمها كانت مشتركة في جمعية وقد دفعت النقود المخصصة لتكاليف الدراسة إلى الجمعية، لكن ثمة رجلا نصب عليها فإدعت بأن النقود قد سُرقت منها. لما تزل ياسمين تنتظر أسفل العمارة، رغم مرور عشرات الدقائق وحينما يئست تمامًا هاتفته للمرة الثالثة، وهي في منتهى الغضب قائلة:" أنا بجد منبهرة ببجاحتك . . . أنا مش عايزة أعرفك تاني ولا أشوف وجهك أصلاً. لا تتصل بي ثانية ياولا . . عيّل زبالة". هنا يُصاب نعيم بالصدمة ويشعر بالذل والإهانة المعنوية فيتصاغر إلى حدّ الإحساس بالعدم. وعلى الرغم من كل ما كانت تعانيه سهر أحضرت لشقيقها بعض الأوراق النقدية ووضعتها بين أنامله قبل أن تتوجه لمنزل أمها وفقًا، لأوامر زوجها الذي يكافح جلطاته القلبية والمادية في آنٍ معًا.

جدير ذكره أنّ أحمد صبحي مخرج ومنتج وممثل أخرج عددًا من الإعلانات على الإنترنيت. أنجز أول أفلامه بعنوان "حادث قديم جدًا". وفيلم "الأجسام أقرب. ." الذي عرض في مهرجان الجونة السينمائي هذا العام.

 

الصباح العراقية في

15.01.2024

 
 
 
 
 

الأستاذ.. قوة الحبكة، ورصانة الثيمة، وبراعة الأداء

عدنان حسين أحمد (لندن)

تجمع المخرجة الفلسطينية فرح النابلسي بين موهبتين أساسيتين في صناعة الفيلم الناجح وهما كتابة السيناريو بشكل محترف، والرؤية الإخراجية المُرهفة التي تستطيع أن تقنع بها المتلقين ومحبّي الفن السابع على وجه التحديد. ويكفي أن نحيل القارئ الكريم إلى فيلم "الهدية" ليكتشف بنفسه حجم التكثيف في الجانبين السردي والبصري. فسيناريوهاتها وأفلامها تتوفر على قدر كبير من الحبكة الفنية والرصانة الموضوعية، وربما يكون فيلم "الأستاذ" الذي احتفى به مهرجان الجونة السينمائي لعام 2023م ضمن برنامج "نافذة على فلسطين" هو أكثر أفلامها الدرامية شدًا وتوترًا وإثارة حتى يجد المُشاهد نفسه مُشاركًا بالأحداث ومتفاعلاً مع تفاصيلها الدقيقة.

يدور فيلم "الأستاذ" على ثيمات متعددة أبرزها مقاومة المحتل الإسرائيلي بشكل احترافي وممنهج، ولعل السجن، والقمع، والاضطهاد، والتعذيب، والقتل بدم بارد، وتهديم المنازل، وحرق أشجار الزيتون أمام أعين أصحابها كلها تأتي قبل المقاومة كفعل إنساني مشروع تبرره الأديان السماوية، وتُجيزه الأعراف التي اجترحها الإنسان منذ بدء الخليقة وحتى الوقت الراهن، وسوف يظل معمولاً به إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولا.

لابد من الإشارة إلى أنّ فرح النابلسي قد صوّرت وقائع الفيلم قبل أحداث السابع من أكتوبر 2023م وبدء الحرب على قطاع غزة. وقد جسّد الفنان صالح بكري دور باسم، مدرس اللغة الإنگليزية الذي تعرّض ابنه المراهق إلى ظرف قاس أفضى به إلى السجن وكان سببًا مباشرًا في تفكّك حياته الأُسرية ولكنه بالمقابل ركّز اهتمامه على الطالبين الشقيقين آدم المجتهد، ويعقوب المتمرد اللذين تهدم السلطة الإسرائيلية منزلهما، وتحرق أشجار الزيتون، وتقتل يعقوب بدم بارد فتتطور الأحداث حينما يحتفظ الأستاذ بمختطَف إسرائيلي في منزله على أمل أن يقايضه بألف أسير فلسطيني بينهم أطفال ونساء. ينطوي فيلم "الأستاذ" على بعض المفاجآت التي لها علاقة بحبكة السيناريو الذي كتبته مخرجة الفيلم. فثمة شخصيات تظهر إلى السطح تباعًا وتأخذ دورها في الأحداث التي تدور مكانيًا في بلدة "بورين" في الضفة الغربية حيث يتعرض الشعب الفلسطيني إلى مختلف أشكال القمع ومُصادرة الحريات الشخصية والعامة، فيوسف الشاب المتمرد والأقل اجتهادًا من أخيه آدم يخرج من السجن وتترتب عليه التزامات قانونية جديدة لكنه لا يسكت على الأذى العميق الذي تُسبِّبه له السلطات الأمنية الإسرائيلية حينما تقوِّض منزله أمام عينية أو تحرق أشجار الزيتون التي زرعها، وسقاها، واعتنى بها سنواتٍ طوالا. لم يستطع يوسف أن يكبح جماح نفسه ويكظم غيظه فتثور ثائرته لكن طلقة المستوطن كانت أسرع منه بكثير حيث وجد نفسه يتمرغ بدمائه الساخنة التي تروي أرضه الطاهرة التي يحبها أكثر من الأنفاس الصاعدة والهابطة في رئتيه. تترك هذه الحادثة أثرًا مُوجعًا لدى شقيقه الأصغر آدم وتخلق لديه الرغبة في الانتقام لكن "الأستاذ" باسم يقف حائلاً أمام هذه الرغبة لأن المُختطَف الإسرائيلي يمكن أن يُبدّل بألف أسير فلسطيني أو أكثر.

تتشعب القصة إلى أكثر من اتجاه حيث يلتقي الأستاذ بـ "ليزا" الموظفة في الشؤون الاجتماعية البريطانية التي كانت صديقته في سنوات الدراسة، ويشكّل وجودها بادرة لولادة قصة حُب عاطفية لكنها لم تتطور كثيرًا مع أنها أنقذت الأستاذ من إمكانية إعتقاله من قبل رجال المخابرات الإسرائيلية، تمامًا كما أنقذه آدم أستاذه حينما نقل الأسير الإسرائيلي إلى مكان قريب من المنزل ودفع عنه شبهة الاختطاف التي تُعد عملاً إرهابيًا في دولة إسرائيل المحتلة.

لم تُرد المخرجة أن تتناول القضية من جانب واحد وإنما رصدت محام أمريكي رفيع المستوى يعود من الخارج لكي يفكّ أسر ولده الإسرائيلي مقابل عملية تبادل للأسرى بين الطرفين فخلقت توازنًا كبيرًا بين الأبوين الفلسطيني من جهة والإسرائيلي المقيم في أمريكا من جهة أخرى.

تنحاز المحكمة الإسرائيلة إلى المستوطنين دائمًا حيث تُصدر أمرًا ببراءة المجرم الإسرائيلي الذي قتل يوسف بدم بارد رغم وجود الأدلة الدامغة التي تدينه الأمر الذي يشجّع المستوطنين الآخرين على ارتكاب المزيد من الجرائم بحق الشعب الفلسطيني الأعزل الذي يتعمّق شعوره بالألم والفقد والخسارة.

لا تلجأ المخرجة إلى المبالغات والشعارات الفارغة الطنّانة التي لا تعلق في ذاكرة الجمهور وإنما تتناول في كل مرة قضية إنسانية تهزّ الوجدان، وتحرّك المشاعر العميقة المُرهفة التي يمكن أن يتعاطف معها أي متلقٍ من مختلف بقاع الأرض، فهي لم ترَ فلسطين ولم تعش فيها، وحينما شرعت بتصوير الفيلم قررت أن يكون المكان فلسطينيًا ولا غرابة أن تختار بلدة "بورين" في الضفة الغربية لكي تنقل لنا روح المكان وعبقه، وتصور الأحداث على حقيقتها من دون زيف أو خيال مُجترح من الذاكرة، فهذه القصة حقيقية استلهمتها من أرض الواقع وأضافت إليها ما يعزز مصداقيتها الفنية ويرسّخها في ذاكرة المتلقين. وأكثر من ذلك فإن هذه الزيارة قد كشفت لها طبيعية الحياة الحميمة في بلد آبائها وأجدادها وفتحت عينيها بقوة على الظلم والتفرقة العنصرية التي تحدث بشكل ممنهج ومدروس منذ نشوء الدولة العبرية وحتى الآن.

ما يلفت الانتباه في هذا الفيلم هو الأداء البارع للفنان الفلسطيني صالح بكري الذي أبهر المُشاهدين بتقمصه لهذا الدور المعقد الذي يجمع بين المقاوم والشخص المثقف الذي يمحض طلابه حُبًا من نوع خاص، ويسعى لحمايتهم من تغوّل جنود الاحتلال وعناصره الأمنية التي تتواجد حتى في القرى الفلسطينية النائية ولولاه لضاع آدم كما ضاع من قبل شقيقه يوسف. لم يكن اختيار النابلسي لهذه الشخصيات اعتباطيًا وإنما درست كل شخصية على انفراد بما فيهم الشخصيات الإسرائيلية التي تقف في مواجهة الشخصيات الفلسطينية أو المؤازرة لفلسطين مثل شخصية ليز التي جسّدتها بعفوية وتمكّن الفنانة "إيموجين بوتس". فالمخرجة تتمنى على المشاهدين أن يدرسوا المواقف والقرارات التي تتخذها هذه الشخصيات المأزومة والمتفاعلة مع الأحداث حيث تقول: (هدفي من فيلم "الأستاذ" هو أخذ المشاهدين في رحلة عاطفية مكثفة إلى تلك الحياة والتجارب، وآمل أن أتركهم يفكرون في الاختيارات والقرارات التي تتخذها الشخصيات والواقع القاسي الذي يضطرون فيه إلى اتخاذها).

بقي أن نقول بأنّ فرح النابلسي هي مخرجة، وكاتبة، ومنتجة، وناشطة في مجال حقوق الإنسان تقيم في المملكة المتحدة. ولدت في لندن عام 1978م. بدأت مشوارها الفني في مجال السينما عام 2016م. حققت النابلسي في فيلم "الهدية" نجاحًا عالميًا مرموقًا حيث وصل هذا الفيلم إلى القائمة القصيرة لجوائز الأوسكار في دورتها الـ93، عن فئة أفضل فيلم روائي قصير. كما ساهمت في كتابة ثلاثة أفلام قصيرة وهي: "كابوس غزة"، "اليوم أخذوا ابني"، و"محيطات الظلم" وقد استوحتها جميعًا من أحداث حقيقية تعكس معاناة الشعب الفلسطيني في ظل الاحتلال الإسرائيلي الهمجي. أمّا فيلم "الأستاذ" الذي يُعد علامة فارقة في السينما الفلسطينية فقد نال جائزة لجنة التحكيم في في الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر التي رأسها المخرج الأسترالي باز لورمان ونال فيها الفنان صالح بكري جائزة أفضل ممثل. لابد من الإشارة إلى براعة جيل بورت في التصوير واللمسات الفنية المونتاجية لمايك بايك الذي منح الفيلم تدفقًا عفويًا وسلاسة غير مسبوقة في تتابع الأحداث وتشابكها وتأثيرها النفسي على مجمل شخصيات الفيلم وخاصة الأستاذ وصديقته البريطانية وآدم الذي يشكّل المعادل الموضوعي للابن الذي غاب في سجون الاحتلال الإسرائيلي. إنه فيلم جدير بالمشاهدة والتأمل والتحليل وفيه من اللقطات والمشاهد التعبيرية الفنية التي يتعذّر على عشّاق السينما ومحبّيها أن يضعونها على مدارج السنيان.

 

الشارع المغاربي المغربية في

16.01.2024

 
 
 
 
 

محمد زينات.. فنان حي تحلّق روحه في سماء العاصمة الجزائرية

عدنان حسين أحمد

لم ينتقِ المخرج الجزائري محمد لطرش ثيمة بسيطة يمكن تتبّعها بسهولة حينما قرّر أن يصنع فيلمًا وثائقيًا عن سيرة الممثل والمخرج والمناضل محمد زينات من خلال اقتفاء أثر فيلمه الوحيد "تحيا يا ديدو" ويغوص في أزقة العاصمة مستنطقًا الأصدقاء والأقرباء والعارفين بأسرار الذاكرة الجمعية لسكّان حي "القصبة" العتيق علّه يمسك بالحلقة المفقودة التي أرّقتهُ سنينًا طوالا. ارتأى محمد لطرش أن يعنون هذا الفيلم باسم "زينات، الجزائر والسعادة" واشترك به في مسابقة الأفلام الوثائقية الطويلة في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي الدولي لعام 2023م.

يمارس المخرج دور الراوي الذي يروي الأحداث ويعلّق عليها فقد عاد في خريف 2019 م إلى الجزائر، بلده الأصلي، وفي كل مرة كان يُغادر باريس يغمره إحساس بالإثارة لكن الهدف هذه المرة ليس لزيارة العائلة وإنما لاقتفاء أثر طفل نشأ في أزقة "القصبة" قبل قرن من الزمان تقريبًا اسمه محمد زينات الذي اشترك في فيلم "الرجل العادي" سنة 1975م وجسّد دور الرجل الذي دخل إلى البار وأطلق النار فجأة على المالك العنصري الذي لعب دوره الممثل جان كارميه. عُرف محمد زينات بموهبته في التمثيل المسرحي والسينمائي إلاّ أنّ المخرج محمد لطرش يعتبره صانع أفلام على الرغم من أنه أخرج فيلمًا واحدًا هو "تحيا يا ديدو" الذي صُوِّر في الجزائر سنة 1970م وظل يلاحق لطرش لمدة 25 سنة.

لا يمكن تصنيف فيلم "تحيا يا ديدو" من وجهة نظر لطرش، فهو فيلم مذهل وغير متوقع سبّب له صدمة كبيرة لم ينجُ منها حتى الآن. وقد حاول لمدة زمنية طويلة أن يحصل على حقوق هذا الفيلم ويعرضه لأكبر عدد ممكن من الناس لكنه لم يعثر على "النكتيف" الأصلي، وما كان بحوزته هي نسخ نادرة في حالة يُرثى لها. وأوشك الفيلم أن يختفي تمامًا ثم حدثت المعجزة حين عثر على الـ "سالب" في قبو في الجزائر، وتمّ ترميمه لكن الفيلم لم يُعرض وما يزال لطرش يحلم بعرضه للآخرين بعد 50 سنة من صناعته ويعيد اكتشاف مخرجه من جديد.

تدور ثيمة فيلم "زينات . . "على البحث عن "تحيا يا ديدو" ومحاولة عرضه على جدار في حيّ القصبة لكنه لم يجد النسخة المرممة في السينماتيك وعليه أن يبحث عنها في المركز الوطني للسينما. يلتقي لطرش بصديقه بوجمعة گراش، رئيس قسم السينماتيك لمدة 30 سنة ويعتبره أسطورة حية كرّس حياته للسينما لكنه فقد بصره في خاتمة المطاف وكان يلحّ على لطرش أن يصنع فيلمًا عن زينات لكنّ هذا الأخير كان يفكر بعرض "تحيا يا ديدو" لكي يعطي لزينات ما يعود للجزائر أو بالعكس أن يعطي للجزائر ما يعود لزينات. يصرّ بوجمعة على أنّ "تحيا يا ديدو" هو أكثر من مجرد فيلم، إنه عمل فني، وأنّ زينات لم يعتمد على سيناريو وإنما يجسّد ما يراه، وما يشعر به، ويترك البصمة الجزائرية عليه. يُورد لطرش السيرة الذاتية النضالية والفنية لزينات وهي معروفة للقارئ المتابع لكن الأهم فيها أنه تألق تحت الأضواء وانفتحت شهيته للفن السابع.

في سنة 1970م يكلّف بشير منتوري، رئيس بلدية الجزائر الفنان محمد زينات لأن يصنع فيلمًا ترويجيًا عن العاصمة مدته 20 دقيقة لكنه يتحايل على الجميع ويصنع فيلم "تحيا يا ديدو" الذي سيصبح علامة فارقة في السينما الجزائرية مُوظِّفًا فيه أشعار مومو الشعبية التي يحفظها الناس عن ظهر قلب ومُرصعًا إياه بمظاهر الحياة التقليدية مثل لباس "الحايك" وموسيقى "الفرقة العسكرية" وما إلى ذلك. وما إن يختفي مومو، الشاعر الشعبي حتى يحلّ محله طفل جميل يحاول أن يردد أشعار مومو نفسها اسمه رضوان الذي يأخذ وقتًا طويلاً قبل أن يعثر عليه محمد لطرش. يلتقي لطرش بآن پاپيو، الفتاة الفرنسية التي كانت تدرس في الجزائر وأحبّها زينات وكانت ترفض الحديث عنه وعن فيلمه الوحيد وتبيّن أن زينات لم يكن لديه سيناريو لفيلمه وإنما بضعة أفكار من بينها فكرة مومو شاعر القصبة. وحينما أنهى التصوير ذهبا إلى باريس لمنتجة الفيلم لكنها تركت العمل لأسباب سايكولوجية وبات من الصعب أن تعمل مع زينات الذي حُرم من العمل في بلده بينما احتضنه السينما الفرنسية وصنعت له اسمًا لكنه سوف يُسجن في مستشفى للأمراض العقلية لمدة 11 سنة ويموت في سان دنيس بفرنسا في 10 أبريل 1995م عن عمر يناهز الـ 63 سنة.

لم يصدّق لطرش أنّ المركز الوطني للسينما سيعطيه نسخة مرممة من الفيلم المفقود الذي سيحيا من جديد ويعمّر لمدة أطول زمنيًا. يلتقي بجمال الذي يعرف حي القصبة كما يعرف ظاهر يده ويتجول معه في أزقتها الضيقة باحثًا عن جدار مناسب لعرض الفيلم. فجأة كأنّ السماء هي التي أرشدته إلى جدار مناسب كُتب عليه "نحن نور" وذهب إلى شخص يؤجر الكراسي التي سوف يجلس المتفرجون من أبناء القصبة. يعرّفه بوجمعة على شخص يُدعى "مبروك" الذي أصبح مديرًا للمسرح، ويا للمصادفة العجيبة فإن هذا "المبروك" يعرف رضوان الصغير الذي يبحث عنه لطرش منذ عدة أسابيع وأصبح الآن في متناول اليد. تنتشر جائحة كوفيد 19 فتحبس المواطنين في بيوتهم ويذهب مبروك ضحية لفايروس الكورونا الذي أحدث مجزرة كبيرة في الجزائر. وحينما استفاقت العاصمة من غيبوبتها حاول لطرش أن يعرض الفيلم لكنّ هذه الأنشطة كانت محظورة لأسباب صحية تمنع التجمعات البشرية فاتصل برضوان واقترح عليه أن يلتقيا عند سلالم ترولار وسوف يروي له قصته بالكامل عن خاله زينات الذي علّمه كل شيء وأخذه إلى مقاهي الجزائر وملاعبها وبلاجاتها وسينماتها. وسوف نفهم من رضوان أنه شاهد الفيلم في سن الـ 12 أو 13 سنة في السينماتيك، وقد اشترى تذكرة مثل أي متفرج، وقد بدأ يضحك حينما رأى نفسه وهو يركض في كل الاتجاهات. وحينما كبُر بدأ يفهم لماذا صوّر زينات فيلمه في القصبة القديمة حيث كان الناس سعداء ومليئين بالحيوية والنشاط. لم يشاهد رضوان الفيلم منذ 10 أو 15 سنة على شاشة التلفاز رغم أنّ الأصدقاء كانوا يحيطونه علمًا بذلك، وإذا ما شاهد جزءًا منه سرعان ما يغيّر القناة لكي يرى شيئًا آخر. وحينما سأله لطرش عن سبب نفوره من هذا الفيلم الجميل تبيّن أن "رضوان" متحامل على خاله لأنه لم يأخذه معه إلى فرنسا ويغيّر حياته جملة وتفصيلاً. وأكثر من ذلك فهو يشعر بأنّ خاله قد هجره، وتخلى عنه، وهرب منه ليتركه نهبًا للضياع والأحزان المتواصلة، فمن من سكّان القصبة يعرف رضوان الصغير؟ لا أحد، ومثلما مات زينات، ومات مومو، مات رضوان الصغير رغم أنه على قيد الحياة! لقد وصل رحلة محمد لطرش إلى النهاية وهو يعترف بأنه كان خائفًا وقلقًا ألا يجد آثار محمد زينات وأن يكون قد نسي تمامًا ودُفن تحت ثقل فقدان الذاكرة الجمعية ولكنه خلال إقامته في الجزائر شعر كم كان زينات حيًا وأن روحه ما تزال تحلّق في سماء العاصمة. وقد آنَ الأوان لأن يغادر الجزائر من دون أن يعرض "تحيا يا ديدو"، وأنّ اللقاء برضوان قد أقنعه بأن يصنع فيلمًا وثائقيًا عن محمد زينات ويسمّيه "السعادة". يُصبح مطار الجزائر على مرمى البصر وذلك بالضبط هو المكان الذي بدأ منه فيلم "تحيا يا ديدو".

وفي الختام لابد من الإشارة إلى أنّ محمد لطرش الذي درس العلوم السياسية وتخصص فيها في باريس قد أنجز عددًا من الأفلام الوثائقية والقصيرة نذكر منها فيلمه القصير "إشاعات إلخ" سنة 2003م، وفيلمه الوثائقي "البحث عن الأمير عبد القادر" 2005م، وفيلمه القصير الثاني "مساعدة للعودة" 2009م، وفيلمه الوثائقي "بوجمعة ودار السينما" 2019م.

 

الشارع المغاربي المغربية في

23.01.2024

 
 
 
 
 

"سعادة عابرة" و"الأحد":

مشتركات سينمائية جميلة عن الشيخوخة

محمد هاشم عبد السلام

رغم البعد الجغرافي الشاسع، واختلاف تضاريس وعادات وتقاليد وثقافة ولغة، يتقاطع الفيلمان الكردستاني "سعادة عابرة" لسينا محمد والأوزبكستاني "الأحد" لشوكير خوليكوف، بشدّة، إلى درجة التطابق، تقريباً، في الموضوع، وخط سير الحبكة، وكثير من الأجواء والتفاصيل، ومشاهد تبدو كأنّها منسوخة، ما يُثير تساؤلات كثيرة، أبرزها متعلّق بطبيعة العملية الإبداعية وماهيتها، ومدى تعقّدها وتشابكها.

في حين أنّ مَبعثَ خوليكوف طرحُ قضية الماضي في مُقابل الحاضر، واختلاف الأجيال، والحياة الطبيعية ضد الحياة المدنية المتحضّرة، مع تغليف طرحه بالإنساني العميق والبسيط؛ ارتكز طرح محمد على عمق المسكوت عنه، وبساطة اليومي الإنساني وامتداده المُلامِس، برهافة، أوضاعاً سياسية شائكة في كردستان العراق، وتبعات الفَقْد والحرب والدمار.

من النقاط المُشتركة اللافتة للانتباه بين الفيلمين، اعتمادهما على بطلين رئيسيين وحيدين، لا تكاد الكاميرا تغيب عنهما؛ وكونهما يبلغان السنّ نفسها، تقريباً، بين مُنتصف السبعينيات وأواخرها؛ إلى بساطة العيش وشظفه، والحضور البارز للعزلة المادية والاجتماعية والنفسية، والوحدة المُطبقة، والخوف من الحاضر وأشباح المستقبل القريب، رغم الاعتراف بعيش حياة جيدة وخالية من الهموم، إلى حدّ كبير.

يُلاحَظ أيضاً، بتأمّل عناصر التمثيل، أنّ الفيلمين اعتمدا على ممثلين هواة، ومع هذا كان الأداء مُتقناً ومُقنِعاً وذا مصداقية. وفي سياق الحبكة، اشترك الرجلان في الجدّية والصرامة والفظاظة والصمت والتحكّم، وقسوة معاملتهما زوجتيهما، رغم ما تقومان به من مهام جسيمة، في رعايتهما والاضطلاع بالأعباء المنزلية الشاقّة، المُثقِلة لكاهل أيّ رجل، لو كان مكانهما. من ناحية أخرى، ورغم اختلاف الشخصية والمكان والبيئة والثقافة واللغة، تبقى المرأة، في الحالتين، مبعث الرعاية والحنان واللطف، التي تنتظر أدنى بادرة عطف وتواصل ومحبة، فهي التي تمرض وتُقاوم وتستنكف عن طلب العون والمساعدة، وأول من يُغادر الحياة.

فنياً، في الفيلمين دراما هادئة ومُؤثّرة وعميقة. الوتيرة بطيئة وتأمّلية، من دون ملل. فيهما قلّة حوار، وانتفاء أحداث تقريباً، وعدم الخروج من المنزل ومحيطه الضيق جداً، وتمركزهما حول شخصيتين. رغم هذا كلّه، هناك ديناميكية ساحرة مع الزوجين المُسنّين، وتكيُّف مع أساليب حياتهما وإيقاعهما وطرقهما الهادئة، وعزوفهما عن الحياة الحديثة بكل متطلّباتها، وغياب كلّ رغبة في مُفارقة المكان. لا استعراضات إخراجية، من أي نوع، مع الاعتماد على براعة الأداء التمثيلي، وتكثيف المحادثات المختصرة بينهما، والاكتفاء بتواصل ضمني وإيمائي، ما يمنح الأداء بُعداً عميقاً وطريفاً، أحياناً. يُلاحَظ أيضاً أنّ الأحداث تكاد تكون مسرحية الطابع؛ لذا، لا ينقطع الرصد المشهدي الصامت لما يحدث عبر كاميرا ثابتة في مَشاهد كثيرة.

رغم أنّ "سعادة عابرة" و"الأحد" أول فيلمين روائيين طويلين لمخرجيهما، تجنّب سينا محمد (1988) وشوكير خوليكوف (1992)، بمهارة وذكاء لافتين للانتباه، المشكلات التي تُصاحب الأعمال الأولى عادة. مثلاً: لا تبتعد الحبكة ولا تتوه عن اهتماماتها الأساسية؛ ولا تشويش بمواضيع وخيوط فرعية، وشخصيات وحوارات غير ضرورية. بدلاً من ذلك، هناك تركيز احترافي مدروس على ما يكفي من صُوَر ومجازات وجماليات، تنقل كلّها، بصمت وعمق ووعي، انطباعات دائمة وراسخة، وشديدة العذوبة والإنسانية.

في "الأحد"، بيئة جبلية خشنة وقاحلة وباردة، في ريف أوزبكستان، حيث يعيش زوجان حياةً مُكتفية ومُتواضعة، بهدوء ورضا وسكينة، بين جنبات منزل قديم جداً، جدرانه محتاجة إلى تجديد وطلاء، ومُجهّز بأساسيات لازمة لمعيشة مُتقشّفة، مع ثلاّجة غير مُستقرّة وصوتها مُزعج، وجهاز تلفزيون عتيق، وموقد يعمل بقنينة غاز، وفرن يعمل بالحطب.

الزوج (عبد الرحمن يوسفالييف) عجوز غريب الأطوار. يتحوّل وجهه الغاضب أحياناً إلى ابتسامة صفيقة لا تُقاوَم. خشنٌ وفظّ، ولطيف بين حين وآخر. الزوجة (روزا بيازوفا) هادئة وجادة وعملية، تتميّز بصبر لافت للانتباه. أحدهما يُكمّل الآخر. لا يبحثان عن أكثر من التشارك في اليوميات، وبعض الرفقة، والتواصل الضروري. يضطرب التوازن المثالي لحياتهما بسبب زيارات عرضية لابنهما بوتير (نصرولو نوروف)، الذي يجلب معه هدايا غير مُريحة، يُرسلها ابن آخر يعمل بعيداً، ولا يزورهما أبداً. تشمل الهدايا موقداً كهربائياً حديثاً، وجهاز تلفزيون رقميّاً ذا شاشة مسطّحة وجهاز تحكّم عن بعد، وثلّاجة جديدة بلا صوت. وقبل هذا كلّه، رغبة شديدة في ترميم جدران المنزل، واستبدال السيارة العتيقة.

رغم ممانعتهما، يجهد ابناهما في جرّهما تدريجياً إلى القرن الـ21. يكاد الموقد يسبّب كارثة، عندما يحاولان تشغيله. يستغرق الأمر شهراً قبل أنْ يتعلّما كيفية تشغيل التلفزيون الجديد. لم يعتادا أبداً انتفاء طنين الثلّاجة الجديدة. أمور أخرى أيضاً تسلبهما تدريجياً حياتهما الهانئة ـ الهادئة. هما لا يكترثان بكلّ هذا التحديث. يبحثان عن الجمال والرضا ومتعة الحياة في أكثر الأحداث الدنيوية بساطة وروتينية: حلب الأبقار، وجمع المياه من الجدول المحلي، ونسج الصوف لصنع سجّاد ملوّن، والاستراحة عادة تحت السماء المُرصّعة بالنجوم، فوق بطانيات وأغطية منسوجة بأيديهما.

في "سعادة عابرة"، زوجان مُسنّان (صالح باري وبروين رجبي) يعيشان في منزل صغير مُستقلّ وبعيد، تحيط به الطبيعة القروية الصحراوية الجميلة والقاسية، في إقليم كردستان العراق. يرعيان الأغنام، وهو مصدرهما الوحيد للدخل. البداية معهما وهما ينظران إلى السماء بينما تُحلّق طائرة مُقاتلة فوقهما، في انتهاك مشؤوم لمحيطهما المثالي. تدريجياً، نألف الروتين البسيط لحياتهما المُتقشّفة. في الصباح، يربط الرجل خروفاً على دراجته النارية، ويتوجّه إلى السوق لبيعه، في حين تغسل المرأة الملابس، وتُطعِم الخراف والطيور، وتُنظّف المنزل. تستمرّ القنابل في السقوط والانفجار بعيداً، والطائرات في التحليق. هناك صُوَر مُعلّقة على جدار لشبابٍ يافعين، بأشرطة سوداء تشير إلى وفاتهم، من دون أي تفسير. لعلّ أولئك الشباب أولادهما.

الوتيرة بطيئة، لكنّها مُهمّة لرصد تفاصيل روتينية مُثيرة لاستنطاق مسكوتٍ عنه. تأخذ الحياة منعطفاً مفاجئاً عندما تمرض الزوجة. في مشهد ختامي، رومانسي لطيف، تجلس الزوجة خلف زوجها على الدراجة النارية، للمرة الأولى. في توجّههما إلى المستشفى، تُثير كلمات صادقة وعفوية للزوج، كـ"احتضنيني"، تجربة تحوّلية، تكون نوعاً من شفاء لها، كما يُحتَمل أنْ تُغيّر علاقتهما إلى الأبد. فالإنسان يحتاج أحياناً إلى اهتمامٍ فقط ممن يُحبّهم. ربما يبدو هذا الاهتمام تافهاً، لكنّه يُغيّر حياة أناسٍ، والاحتضان يولِّد عاطفة الشخص، ويُعيده إلى الحياة مجدّداً.

رغم تقارب الموضوع والحبكة والشخصيات والأداء، وبطء الإيقاع، والرؤية الإخراجية فيهما، يتفرّد الفيلمان جداً، ويبدوان أصيلين وصادقين، كلّ بطريقته. ورغم تمحورهما حول آلام الشيخوخة، والمحطّات الأخيرة للحياة، واستعراضهما حيوات قائمة على شراكة عميقة، وإخلاص وتفان، وتبيان وجوه أخرى مُتعدّدة لمعنى الحب ومفهومه والتواصل والتمسك بالحياة، وحضور الموت، هما غيرُ كئيبَين، ولا مُملّين، بل إنّهما يبعثان على التمسك بالحياة، وبمفرداتها البسيطة.

 

العربي الجديد اللندنية في

13.03.2024

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004