جودار.. فيلسوف السينما الثائر
بقلم: أسامة عبد الفتاح
هل يليق بجودار مقال تقليدي، ذو "بناء"، ذو مقدمة ومتن
وختام، وهو أستاذ التفكيك والتشظي؟ هل تصلح في رثائه كلمات متوقعة منمقة
وهو ضد كل ما هو إنشائي أجوف وعاش حياته يمقت التعبيرات والممارسات
البرجوازية المقولبة المكررة؟ هل تكفي هذه المساحة، أو حتى أضعافها، للحديث
عمن صارت السينما بعده غير ما كانت قبله؟
الإجابة عن كل الأسئلة السابقة هي: لا، لكن لا يجب أن يمر
رحيل جان لوك جودار (1930 – 2022) مرور الكرام، لابد من وداع من ألهم آلاف
السينمائيين من مختلف الأجيال حول العالم، فيلسوفا، ومفكرا، وكاتبا،
ومخرجا، ومن يستمر تأثيره حتى اليوم، وسوف يتواصل مع الأجيال القادمة، لأنه
– ببساطة – ليس خاصا بأسلوب في صناعة الأفلام ولا تكنيك في تنفيذها قد
يتطور ويتغير بمرور السنوات، بل رؤية للفن السابع، ووجهة نظر في الحياة
بشكل عام، شديدة الخصوصية ولا تصيبها الشيخوخة.
قال يوما إنه لا يصنع أفلاما سينمائية، أو سينما مثل
الآخرين، بل يريد التعبير عن أفكاره ورؤيته في شكل صورة سينمائية.. ينطلق
جودار من الفلسفي المجرد إلى صورة تعبِّر عما يفكر فيه، ولا يمكن الاقتراب
منه دون دراسة الفترة التي ظهر فيها (أواخر خمسينات وبدايات ستينات القرن
الماضي)، والتي كانت تشهد توهج روح الفلسفة الفرنسية المرتبطة بأفكار ما
بعد الحداثة والبنيوية وما بعد البنيوية ثم التفكيكية.. لابد من ربطه
بأفكار العظام من معاصريه مثل الفيلسوف جاك دريدا (1930 – 2004)، وعالم
اللغة والناقد والفيلسوف رولان بارت
(1915 – 1980).
وإذا كانت تفكيكية دريدا محاولة لفهم العلاقة بين النص
والمعنى، فإن سينما جودار محاولة لفهم العلاقة بين الصورة والمغزى، من
بداياته بمجموعة أفلام قصيرة في النصف الثاني من الخمسينات إلى فيلمه
الأخير، الذي يحمل بشكل صريح عنوان "كتاب الصورة" (2018)، في درس ختامي من
الأستاذ عن فلسفة الصورة السينمائية.
في تلك الأجواء الفكرية والفنية، وفي ظل الظروف والتداعيات
السياسية والاجتماعية التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، أي بعد عام 1945،
نشأت الموجة الفرنسية الجديدة في السينما أواخر الخمسينات على أيدي جودار
ومخرجين كبار مثل فرانسوا تروفو وأنييس فاردا وكلود شابرول وجاك ريفيت،
وتولت النزول بالسينما الفرنسية من سماوات أفلام السيف والعباءة، والأعمال
الرومانسية الحالمة، إلى أرض الواقع لتعبّر عن المواطنين ومشكلاتهم في
حياتهم اليومية، في تأثر واضح بلا شك بالواقعية الإيطالية الجديدة وبغيرها
من الحركات السينمائية المتمردة في العالم في نهايات الخمسينات وبدايات
الستينات.
من أفلامه القصيرة الأولى، أدرك جودار، الفرنسي – السويسري،
أن الموجة الجديدة في حاجة إلى وجوه أقرب إلى رجل الشارع العادي، وجوه يمكن
أن تكون للمشاهدين مثل الأقارب أو الأصدقاء، ووجد في عدد من الممثلين
أبرزهم جان بول بلموندو ضالته، ولذلك استعان به كثيرا حتى أصبح أحد أبرز
أبطال تلك الموجة.. وكانت الانطلاقة الحقيقية للاثنين معا عام 1960 من خلال
الفيلم الشهير "آخر نَفَس"، أول أعمال جودار الروائية الطويلة، والذي حقق
نجاحا كبيرا داخل وخارج فرنسا، وأعلن عنه كواحد من أبرز صناع التيار
الفرنسي الجديد، وإن كان هو نفسه صرح وقتها بأنه لا يفهم ماذا يعني تعبير
"الموجة الجديدة" وماذا يقصد الناس عندما يقولون إنه صار "من أهم رموزها"؟!
ارتبط جودار بشكل خاص جدا بمهرجان "كان" السينمائي الشهير
منذ أن ظهر على شاشته كضيف شرف في فيلم صديقته أنييس فاردا "كليو من 5 إلى
7" عام 1962 وحتى فيلمه الأخير "كتاب الصورة" الذي شارك في "كان" عام 2018،
حين حصل على سعفة ذهبية خاصة عن مجمل أعماله.. ووصل عدد أفلامه التي شاركت
في المهرجان الأشهر والأهم إلى 21.
وفي رأيي كانت أبرز مشاركاته في "كان" عام 2014، حين خاض
المسابقة بفيلمه "وداعا للغة" وهو على مشارف الرابعة والثمانين، ليس ليثبت
أنه لا يزال قادراً على أن يصنع الأفلام بكل الحيوية، ولكن ليؤكد أنه لا
يزال رائدا في التجريب وتقديم كل جديد في هذا السن.. فقد قرر - بجرأة
معهودة - أن يصور الفيلم بالتقنية ثلاثية الأبعاد، التي اعتاد المخرجون
اللجوء إليها في أفلام الخيال العلمي والمغامرات الهوليوودية الكبيرة، وهي
الفئة التي لا ينتمي إليها فيلمه بكل تأكيد، لكنه قرر استخدام التكنولوجيا
الجديدة على طريقته الخاصة.
ورغم ذلك، ليست الأفلام أهم ما يربطه بـ"كان"، فما يذكره
التاريخ أولا هو صعوده إلى مسرح المهرجان عام 1968 وتشبّثه بالستارة لكي
يمنع استمرار عرض الأفلام.. وقتها صاح في الحاضرين: "لست هنا للحديث عن
اللقطات المقربة وحركة الكاميرا، جئت أطلب منكم التضامن مع الطلبة
والعمال"، وكان يقصد مظاهرات الطلبة والعمال ضد الرئيس الفرنسي في ذلك
الوقت شارل ديجول، ونجح في إيقاف المهرجان وتسجيل موقف لن ينساه أحد.
لابد من وداع يليق بالمناضل الثوري اليساري العظيم، الذي
صارا رمزا للحرية والتمرد على كل ظلم وكل جمود في كل مكان، والذي عاش عمره
المديد كله مدافعا عن القضايا العادلة ومنها العربية.. فهو الذي ناصر طويلا
القضية الفلسطينية، وأعلن بوضوح انضمامه إلى حركة مقاطعة السينما
الإسرائيلية عام 2018، ووقّع على بيان ضد "موسم فرنسا – إسرائيل"، التظاهرة
التي كانت مقررة خلال ذلك العام للتقارب بين البلدين.. وهو أيضا الذي قدم
فيلم "الجندي الصغير" عام 1963 عن حرب التحرير الجزائرية.
صنع عنه المخرج الفرنسي الكبير ميشيل أزانافيسيوس فيلم
"الرهيب" عام ٢٠١٧، وشارك به في مسابقة "كان".. شخصيا أعجبني الفيلم، فلم
يستسلم فيه أزانافيسيوس لإغواء جودار وسحر شخصيته، وحاول تقديمه على حقيقته
كيساري ثائر ومتمرد وغريب الأطوار أيضا، لكن لا شيء ولا أحد – كما ذكرت –
يمكنه التعبير عن حقيقة وجوهر تلك الشخصية الفذة مهما كانت المساحات
والوسائط.. لذلك اعتبر جودار نفسه الفيلم "غبيا"، في رد فعل متوقع منه! |