جان لوك غودار
هموم شكلية .. ورؤية جديدة
بقلم: عماد النويري
السينما والحياة عند غودار، هما شيء واحد. السينما لا تصور
الحياة ولا تعكسها، إنما هي جزء من الواقع ذاته تنفعل به وتتفاعل معه. إنه
يحرك الكاميرا في جميع الاتجاهات ويصور كل البشر. ويختار لحظات محددة من
حياتهم. . ليست لحظات شاذة أو غريبة. . وإنما اللحظات التي يستطيعون خلالها
الكشف عن أنفسهم بصورة أفضل . إنه يقطع اللقطات ويعيد قطعها ولصقها..
وتنطق جمل المونولوج أو الحوار، واحدة وراء الأخرى بلا علاقة ظاهرة بينهما
، بحيث تكون غير مفهومة، وكأنها تنسجم انسجاماً تاماً مع أجزاء الصور
الموضوعة بإهمال على الشاشة. ومن هنا ينبع الإحساس بأن أفلام جودار لا
تتضمن تطوراً في الأحداث. وإن الصور والكلمات فيها تتقابل أو تختلط في زمن
حاضر دائم. ويبدو الأمر كما لو كان جودار يسعى بكل الطرق أن يتجنب وضع
اصبعه في تروس السينما الكلاسيكية… إنه يرفض أن يقوم بدور الساحر. وأن يلعب
لعبة الصور السحرية . العاطفة- والفكرة.
إنه يعتبر أن السينما سر من الأسرار، ولكي ينكشف هذا السر
أمام المتفرج فإنه في البدء يضايق المتفرج. ثم يصدمه. ثم يجعله يعتدل في
جلسته. ومن ثم يرغمه على أن يظل محتفظاً بالمسافة بينه وبين الشاشة.
واذا كنا عرفنا أو سمعنا عن التغريب البريختي، في المسرح.
فإن غودار يفعل في السينما كما فعل بريخت عندما كسر الجدار الرابع، أو
الحائط الرابع. ان جودار يسعى وبوضوح الى كسر الايهام عند المتفرج في صالة
العرض بأن الذي يعرض أمامه هو فيلما يحكي قصة لها بداية ووسط ونهاية وأحداث
تتصاعد في خط درامي متنام يصل الى الذروة. وللوصول الى حالة التغريب
السينمائي هذه فإن جودار يستخدم أكثر من طريقة.
قيادة اللعبة
أحياناً يتدخل جودار في أفلامه ليوصل رسالة واضحة الى
المتفرج وهي: أنا المخرج الذي أقود اللعبة وآخذكم الى حيث أريد فلا تقعوا
في مصيدة الصورة المتحركة. ومن الأساليب الأخرى، التي يستخدمها لخلق حالة
التغريب هذه هي افراغ المشاهد الدرامية من مضمونها الدرامي. ففي فيلم: على
آخر نفس، يقتل ميشيل- جان بول بلموندو- شرطي المرور. نحن نرى العملية كلها
تتم في ثلاث لقطات: لقطة كبيرة للمسدس- ليس في منتصف الكادر، ودون أي
تأثيرات ضوئية- بحيث تبدو اللقطة- عمدا- مملة غير جذابة. ثم لقطة غير واضحة
المعالم- فلو- لا يظهر فيها أي تفصيل بوضوح. فلا نرى وجه رجل الشرطة، وانما
نرى وكأن شخصاً يسقط على ظهره فوق شيء أشبه بالأعشاب أو الحقول. ومشهد
القتل هذا الذي نراه في ثلاث لقطات مشهد فقير جداً. هنا يعارض جودار أفلام
الأجرام الكلاسيكية التي يتم فيها تنظيم كل شيء- باستخدام مؤثرات الإضاءة
وزوايا التصوير. الموسيقى والمونتاج- لإضفاء الطابع الدرامي على الحدث….
ودفع المتفرج
إلى المطابقة بين شخصيته وشخصية الممثل. لكن في مشهد جودار-
في آخر نفس- يستحيل حدوث ذلك.
جهاز الإبصار
الأسلوب الثالث الذي يستخدمه غودار أو الذي يميز سينماه، هو
مضايقة جهاز الإبصار لدى المتفرج بصفة مستمرة. وذلك بتقديم لقطات إما طويلة
جداً أو قصيرة جداً. تتجاوز الحد الأقصى لأبصار المتفرج أو تكون أقصى من
الحد الأدنى له ففي فيلم: رجال الشرطة، يقوم الممثلون في أحد المشاهد
بإلقاء بطاقات بريدية- كارت بوستال- على مائدة. وتلقى البطاقات، واحدة تلو
الأخرى دون توقف لمدة خمس دقائق متصلة. ودون أن تتحرك الكاميرا من مكانها
قيد أنملة. وفي الفيلم ذاته نرى أحد رجال الشرطة يطلق رصاص بندقيته على
إحدى السجينات الشيوعيات. ويطلق الرصاص لمدة طويلة بعد أن يكون المتفرج قد
تأكد تماماً أن السجينة قد قتلت.
هدف جودار من المشهدين السابقين واحد . وهو نسف فكرة الخط
الروائي تماماً. وإحباط شغف المتفرج بالحكاية. ومنعه من الاستسلام للحبكة
القصصية والانقياد لها. إن جودار لا يظهر لنا إلا كل ما هو واقعي. وكل ما
يحدث فعلاً في المكان الذي يحدث فيه ذاته. ولما كان من المستحيل أن نصور
على الشاشة ممثلين يقتل بعضهم البعض بطريقة واقعية فإن جودار لا يصور أبداً
مشاهد مثلا هذه. وإذا حدث وصورها فإنه يفعل ذلك بطريقة تجعل المتفرج واعياً
تماماً بأن القتل أو المذابح التي يراها على الشاشة غير واقعية وليست سوى
تمثيل… وجودار يعلم تماماً أن ظاهرة المطابقة في السينما تلعب دوراً،
يتزايد جداً، أمام مشاهد العنف والجنس.
تجارب سمعية
وبالنسبة للصوت البشري فإنه يلعب في جميع أفلامه دوراً
جوهرياً. فالمخرج يستخدمه لكي يدفع المشاهد إلى دخول تجارب سمعية جديدة.
فجودار يحاول أن يحرك الإدراك البصري للمتفرج، نحو أدارك سمعي، ففي فيلم:
عطلة الأسبوع، فإن المشهد الأول من الفيلم يستغرق حوالي عشر دقائق وهو
عبارة عن لقطة واحدة بكاميرا ثابتة. ونرى على الشاشة حجرة وضعت في منتصفها
مائدة وكرسي . ويجلس رجل على الكرسي بينما تجلس على الطاولة فتاة ترتدي
لباس البحر- بكيني-، والفتاة تتحدث بلا ا انقطاع وتقص على الرجل حكاية لا
معقولة- وجنسية- لا أول لها ولا آخر. فجمل الحكاية ليست مرتبطة إحداها
بالأخرى. بل أحياناً لا تستطيع سماعها بسبب مرور طائرة أو دراجة بخارية أو
نفير سيارة…. وهكذا نرى أن جودار يفعل بالصوت البشري ما يفعله بالصورة
نفسها. إذا يبتر جزءاً من المعطى السمعي بهدف وضع المتفرج إلى فك رموزه.
ويستدعى ذلك جهداً كبيراً لفتح آذان المتفرجين حتى يستطيعوا فك رموز رسالة
صوتية صعبة عليهم أن يشتركوا في تأليفها وإعادة تركيبها بلا توقف.
وجهة نظر تسجيلية
ومن أكثر الأساليب إثارة للاهتمام هو إدخال الممثل في
الواقع الذي يصور من وجهة نظر تسجيلية. وقد كان لهذا الأسلوب تأثير كبير
جداً على السينما الحديثة. وقد قال جان كوليت- وهو أول ناقد يؤلف كتاباً عن
جودار- أن هذا الأسلوب هو الطابع الذي تتسم به سينما جودار كلها. فنحن لا
نرى في أفلامه أبداً صورة جمالية صنعت من أجل التكوين… أو الإبهار كهدف
أساسي.
إن غودار يوحد تماماً بين حياته الشخصية المتفتحة إلى
الحياة الديناميكية غير المكتملة التي لا تكف عن البحث. وبين عمله- كمخرج
بحيث أصبحت حياته هي أفلامه. إنه ينحاز إلى جانب الحياة وهو متجرد تماماً
من كل شيء. لقد ترك نفسه لتيار الحياة الجارف المتحرك الذي تحف به المخاطر.
ولم يحاول خلال هذا النوع من الحياة أن يحمي نفسه بنظريات أو صيغ أو هياكل
أو حيل يستخدم فيها المونتاج. إنه من خلال أفلامه يرغب أن يتوه… وبأن يشعر
بالقلق الذي نحس بنبضه في كل صورة. ولكن قلق رجل رضي أن يتوه حتى يستطيع أن
يجد نفسه….
رغم أن هموم غودار الشكلية هذه جعلته- سواء أراد ذلك أم لا-
يتقوقع على ذاته ويعيش في عزلة فريدة. فإنه يصعب الشك في نزاهته. فهو فنان
يحب السينما إلى درجة الجنون. ويمتاز بجرأة تفوق كل الحدود.
حين الاقتراب من سينما جودار يجب أن نضع في الاعتبار أن
تلقي الجمهور الفرنسي أو ربما الأوروبي لسينما جودار يختلف جذرياً عن تلقي
جمهور بعيد- جمهور العالم الثالث مثلاً. كما عندنا.
إن غودار في النهاية هو واحد من الذين ساهموا في تطور
السينما كفن. واستكشاف إمكاناتها…لقد قدم- شئنا أم أبينا- رؤية جديدة ووضع
يده على إمكانات للفن السينمائي لم يكتشفها أحد من قبله….
يقول عنه جون مرسل تايلور: غودار أصيل إلى أبعد الحدود. إنه
أحد أولئك المخرجين الذين لا يمكن أن تصبح السينما بعدهم تماماً كما كانت
من قبل. إنه لا يأخذ شيئاً واحداً على نحو يقيني. لا يؤمن بأن هناك- ما
يجب- وما- لا يجب – حتى يجرب نفسه.
إن مسألة تقييمه وتقييم سينماه تختلف عندنا… لكن إذا حدث،
وأقدم على فيلم من أفلامه فإنه يقدم دون فكرة مسبقة. ولنا كل الحق في أن
نرى ما نشاء. |