التزم بأسلوبه وأفكاره على مدى سنين طويلة
توفي اليوم المخرج السويسري جان-لوك غودار وفازت صحيفة
«ليبراسيون» بالخبر قبل سواها. نعته وذكّرت بما لا يحتاج إلى تذكير من نبوغ
هذا المخرج وصدق اتجاهاته الفنية والسياسية. غودار مارس السينما بأسلوب
مختلف تطوّر واختلف منذ البداية تبعاً لمراحل وظروف، لكنه لم يخرج من الخط
الذي رسمه لنفسه: أن يكون مخرجاً هو أن تعبّر عن موقفك من السياسة والثقافة
والتاريخ. إذا كنت قادراً على مزج كل ذلك بأسلوبك الخاص. وغودار مارسه
بأسلوبه الخاص بلا ريب.
لقاء بدأ مسيرة
بالنسبة إليه، فإن الفيلم عليه أن يحكي الموضوع الذي يطرحه
من جهة، وأن يحكي عن الفيلم ومكوّناته من جهة أخرى، ومرجعياته الفكرية
أيضاً. هذا ما عمد إليه في أكثر من 70 فيلم روائي وغير روائي بدءاً من
فيلمه الأول «نفس لاهث» سنة 1960 وصولاً إلى آخر فيلم له، ذاك الذي حققه
سنة 2018 تحت عنوان «كتاب الصورة»
The Image Book.
وُلد غودار في باريس لعائلة بروستانتينية ميسورة في الثالث
من ديسمبر (كانون الأول) سنة 1930. في سن الثالثة عاد والداه إلى سويسرا.
وعاد هو إلى باريس ليدرس علم الأجناس في السوربون سنة 1941. خلال فترة
دراسته تلك واظب على حضور الأفلام في «نادي سينما الكارتييه لاتان» حيث
تعرف على المنظر أندريه بازان وعلى هاويين للسينما انتقلا لاحقاً لصنع
الأفلام هما جاك ريفيت وإريك رومير.
كانت لقاءات لطرح الأفكار وتبادل الآراء حول الأفلام التي
يشاهدونها والحديث عن السينما الفرنسية والأميركية غالباً. هذه الأحاديث
قادت إلى التفكير بتأسيس مجلة سينما. والمجلة فعلاً تأسست في العام 1950
باسم «كاييه دو سينما» التي لا تزال تصدر إلى اليوم.
أول مقال نقدي كتبه غودار لمجلة «كاييه دو سينما» نُشر في
العام 1952 عن فيلم ألفريد هيتشكوك «غريبان في قطار»
Strangers on a Train،
لكن شغف غودار الأساسي لم يكن الكتابة فقط بل توخاها للوصول إلى غاية أخرى
هي الإخراج. عندما وجد أن الكتابة لن تصنع له هذا المستقبل، عاد إلى سويسرا
وعمل في البناء (من بين أشغال أخرى) بغية جمع ما يكفي لتحقيق ذلك الهدف.
في العام 1956، عاد إلى الكتابة من جديد ثم توقف مرة أخرى
عنها لكي يخرج فيلمه الروائي الطويل الأول «نفس لاهث» الذي صوّره سنة 1959
وعرضه في العام 1960 عن سيناريو كتبه رفيقه الآخر فرانسوا تروفو. وهو منذ
ذلك الحين لم يتوقف عن العمل باستثناء فترة منعزلة من حياته امتدت من العام
1972 إلى العام 1978 أخرج فيها أفلاماً قلما شوهدت نسبة إلى شروط حياة
وتقاليد عمل وضعها لنفسه.
عندما غلبت السياسة
من العام 1959، تاريخ تحقيقه أول أفلامه، إلى اليوم، مرت
سينما غودار بمراحل أربعة. كل منها يتميّـز بخضم من الأفكار التي أنجزت له
مكانته الكبيرة الحالية على الرغم ما مر به من صعاب.
امتدت المرحلة الأولى من فيلمه الأول «نفس لاهث» إلى «واحد
زائد واحد» سنة 1968. في تلك الفترة جرّب غودار عدة حلول لرغبته بكسر
التقليد السردي المتّبع. شغله على أسلوبه كان قائماً، حسب تفسيره، على
«الشكل المختلف ضد الشكل التقليدي» وشمل تأسيس كل ما قامت عليه سينماه
لاحقاً.
المرحلة الثانية شهدت تبلور غودار من الإيمان بالوجودية إلى
الإيمان بالماوية (حسب تعاليم ماو تسي سونغ).
كذلك بدت تأثيرات السينمائي الروسي دزيغا فرتوف ومنهجه المسمى بـ«سينما
الحقيقة» واضحة على أعماله. إنها الفترة التي بدأت بفيلم «حكمة مرحة»
(1968) وامتدت لبضع سنوات رفض فيها العمل ضمن «النظم البرجوازية» كما وصفها
فرتوف في أبحاثه التي حلّل فيها التركيبات الاجتماعية، وبيّن أوجه ما سمّاه
بـ«الصراع الذي يعايشه المخرج الملتزم إذا ما سمح لنفسه بالتعامل مع النظام
الرأسمالي».
إعجاب غودار بدزيغا فرتوف دفعه، وجان بيير كورين، لتأسيس
«جمعية دزيغا فرتوف» وإلى إعلان غودار أن منهجه بات «صنع أفلام ثورية
بأسلوب ثوري». خلال هذه الفترة، انقطع غودار عن التعامل مع أبناء الصناعة
السينمائية في فرنسا ملتزماً بتحقيق أفلامه عن الطبقة البروليتارية وحدها.
أما المرحلة الثالثة، فتقع أيضاً في السبعينات، وفيها بلغ
تطرّف غودار السياسي حداً انقلب فيه حتى على أعماله السابقة. انتقل للعيش
في بلدة غرينوبل مع زوجته الثالثة آن ماري ميافيل وأسس شركة اسمها دالٌ على
منحاه الجديد في هذه المرحلة وهو
SonImage
أو «بلا صورة».
أعماله القليلة في تلك الفترة كانت أقرب الى «أفلام البيت»
Home movies
وأنجزها بعيداً عن أدوات السينما وبكاميرا فيديو مبكرة. الملاحظ أن هذه
الفترة وقعت مباشرة بعد أن تعرّض غودار لحادثة حين كان ينطلق بدراجته
النارية كاد أن يُقتل فيه. تأثير ذلك النفسي عليه ليس معروفاً لنا على نحو
معمّق لكنه أدى، بوضوح، إلى عزلته واختيار الطريق الذي انعزل فيه وسينماه
عن التواصل مع الآخرين حتى ولو كانوا من المؤيدين لطروحاته السابقة، فنية
أو سياسية.
مع نهاية السبعينات بادر إلى التبلور من جديد فيما يمكن أن
يطلق عليه الآن مرحلة رابعة. إنها فترة النضج الفني حتى ضمن أسلوبه الخاص.
لكن عوض التبعثر فكراً وأسلوباً، صار أكثر تنظيماً، وضّب غودار أفكاره وصاغ
منها مواضيع شيّقة سردها بأسلوب يحكي أكثر مما يُبدي.
هذا واضح في كل أعماله المتوالية في الثمانينات مثل «الاسم
الأول كارمن» و«هايل ماري» و«تحري»، وصولاً إلى التسعينات وما بعدها كما
الحال في «موتزار للأبد» و«موسيقى أخرى» و«فيلم سوشياليزم» و«غودار عن
غودار: بورتريه شخصي»، وحتى «كتاب الصورة» الذي لم ينجز بعده شيئاً وإن قيل
إنه كان يحضّر لتحقيق مشروع آخر على الأقل في القريب العاجل.
الفيلمان الأول والأخير
ما بين فيلمه الأول وفيلمه الأخير مسافات شاسعة ونبوغ واحد.
«نفس
لاهث» فيلم روائي ويمكن له أن يوصف بفيلم بوليسي في الوقت الذي ينتمي إلى
«سينما المؤلف» (تلك التي تبنتها جماعة نقاد «كاييه دو سينما») بكل راحة.
هو عن ميشيل (جان- بول بلموندو) الذي يسرق سيارة أميركية
موديل أواخر الخمسينات لسبب يعلن عنه لاحقاً بقوله «أنا معجب بصناعتين
أميركيتين: السيارات والأفلام». بعد مطاردة قصيرة يقتل ميشيل رجل بوليس ثم
يعود إلى باريس ليسترد ديناً لصديق وليقابل المرأة الأميركية التي يحب (جين
سييبرغ). يقول لها إن «الرجل لا يحب إلا من لا تناسبه» وهناك جزء طويل من
الفيلم يدور في غرفة فندق يتبادلان فيه الكثير من الحديث الكاشف عن نقاط
نفسية وعاطفية ستقود لما سيلي. تحاول باتريشا تجنّب فعل الحب معه رغم
إصراره.
يدرس غودار العلاقة بينهما من منطلق منظور ميشيل أساساً إلى
الحياة وموقف كل منهما حيال الآخر. هو مشهد طويل ليس لاختيار خطأ من
المخرج، بل لأسلوبه في سرد الحكاية. الغاية إظهارهما قريبين-بعيدين: هي
الباحثة عن شيء لا تعرفه، وهو ذو القناعة بأشياء يؤكد عليها: «أنتم
الأميركيون معجبون بأغبى الشخصيات الفرنسية: لا فاييت وموريس شيفالييه».
يقول لها موقظاً الحس بأن غودار هو الذي يقول. وغودار أيضاً هو الذي يضع
على لسانها العبارة التالية (ولو في مشهد آخر): «لا أعرف إذا ما كنت غير
سعيدة لأنني غير حرّة أو غير حرّة لأنني غير سعيدة».
حب ميشيل لفتاته لا يقابله حب متبادل، إذ تخبر عنه وينتهي
مقتولاً في أحد شوارع العاصمة الفرنسية.
إلى جانب ما تبثه الحكاية من مشاعر وآراء فإن الإنجاز
المنفرد هو التوليف المتوتر الذي نتج عن حذف فقرات من ثواني الفيلم بحيث
تقفز اللقطة على الشاشة قصداً. هذه الحلول جاءت مدروسة وخالية من الخوف، ما
صنع عملاً فنياً نموذجياً لسينما جديدة أرادت تغيير وجه السينما الفرنسية
وكان لها ما أرادت.
أما فيلمه الأخير «كتاب الصورة» فهو تسجيلي، أو على وجه
الدقة، فيلم غير خاضع للتصنيف. وينتمي إلى أعمال غودار الأخيرة التي لا
تحكي شيئاً محدداً، لكنها في الوقت ذاته عن كل ما يخطر على بال غودار من
أفكار عن الموسيقى وعن الحياة وعن الثقافة والسياسة و-طبعاً- عن الصورة.
شغل كهذا تطلّب منه التركيز على التوليف كيف يستطيع أن يخلق
منه الشكل الطاغي والفريد عوض أن يسرد مواضيعه، تسجيلية كانت أو روائية،
بالتتابع التقليدي وحسب لقطات رقمية.
هذا التوجه مارسه في «موسيقى أخرى» و«تاريخ السينما»
و«وداعاً للغة» ولو امتد به العمر لمارسه لاحقاً كذلك.
شخصية مثيرة للاهتمام
كان غودار دوماً شخصية مثيرة للإهتمام، لا كمخرج فقط (وهذا
كافٍ بالتأكيد) لكن كشخصية شاركت في ثورة 1968 الثقافية وكان لها موقف مؤيد
لفلسطين، وعندما رفض نياشين الدولة (مثل «نيشان الجدارة الوطنية الفرنسي»
قائلاً: «لا أحب تلقي أوامر وليس عندي أي جدارة»)، وكذلك عندما هاجم غولدا
مائير في فيلمه «هنا وفي غير مكان» (1976) فاتهم بمعاداة السامية وطُلب منه
نفي ذلك لكنه لم يكترت للرد وأكمل طريقه في السينما كما أحب ورغب.
مهما كان من أمر غودار ومواقفه، فإنه من أولئك الذين يمكن
وصف السينما به كأحد أركانها ومحدثيها وفنانيها الكبار. |