القاهرة السينمائى.. افتتاح مبهج وسبيلبرج كما هو
بسنت حسن
لا أعلم إن كان (ستيفن سبيلبرج) يشعر بقرب نهايته ليصنع
فيلمًا أشبه بسيرته الذاتية؟ وسأتحدث عن سبيلبرج وعن فيلمه (فابلمانز)
(فيلم الافتتاح) لاحقًا.
أما الأجدر والأحق الآن فهو الحديث عن البساطة والصدق
والذكاء والبهجة التي صدرها لنا مهرجان القاهرة السينمائي الدولي حتى كتابة
هذه السطور ومنذ اللحظات الأولى لحفل افتتاحه وعندما تغنت خشبة المسرح بصوت
واستعراضات الفنان المبهج الراحل (سمير صبري) وانتقى مخرج العرض لقطات من
أعماله العديدة المبهجة مع استعراض راقص وباليه شديد الحيوية والعذوبة في
تحية رقيقة ومستحقة من المهرجان ليس فقط لسمير صبري - صانع البهجة - بل
لجيلٍ بأكمله.
جيل يحبه الفنان حسين فهمي، رئيس المهرجان، بصدق ودون رياء
فذلك الجيل قد أحب الحياة والسينما بصدق فأحب غالبيتهم بعضهم البعض، ولا
أنسى كلمات ورثاء الفنان حسين فهمي لصديق عمره الممثل الفرنسي الكبير (ألان
ديلون) وبكائه الحار عند رحيل السندريلا.
وما أقوله الآن أتمنى أن يصل لمن سخروا من أفلام دنجوان
السينما المصرية والتي يراها المصابون بهوس العمق وإدمان القبح أفلام سطحية
ساذجة ويرونه مجرد ممثل وسيم.
مع إن الوسامة سمة أساسية في الكثير من الأحيان لجانات
السينما في العالم كله ولا أظن أن الفرنسيين هجوا (ديلون) لوسامته كما فعل
البعض في بلادي
أما عنصر العمر.. فالشاشات قد نقلت نقلًا حيًا لحفل
الافتتاح الذي ظهر فيه الفنان حسين فهمي بكامل لياقته وحيويته وثباته
الانفعالي وذهنيته الحاضرة وبدى كما هو ممشوق القوام لا يترنح وغير منحني
الظهر كما يتمنى له المغرضون وكأن السنين لم تمر عليه ولم تؤثر على روحه أو
هيئته..
فكان واثقًا مطمئنًا وهو يقف على خشبة المسرح الذي ألفه
ويألفه منذ سنين.. بل هو الذي عاون وبمفرده المخرج العالمي الكبير (بيلا
تار) الذي كان فاكهة حفل الافتتاح بتواضعه الجم وخبرات السنين المتراكمة
والتي بدت على ملامحه وتحدثت عنها أفلامه.
وارتجل الفنان حسين فهمي كلماته البسيطة الرشيقة في ليلة
الوفاء للسينما فخرجت عفويةً وعذبة من القلب وكان هو مقدم حفل الافتتاح
الذي رحب فيه بضيوفه بلياقته ولباقته المعهودة دون تطويل ممل أو خطابية ولم
يقرأ كلمة طويلة مملة تكتب للرؤساء عادة ويعشقها من يعتلون المسرح، فحديث
الفنان (حسين فهمي) كان حقًا حديثًاً من القلب إلى القلب.
وبعد تكريم المخرج العالمي (بيلا تار) الذي عقدت له ندوةً
في صباح اليوم التالي.
كرم المهرجان أيضًا الأحياء وليس فقط من رحلوا
وذلك أفضل جدًا
ولمحنا ذلك في حديث الفنانة (لبلبة) في لحظة تكريمها وكان
حديثها أيضًا ارتجاليًا ومن القلب تحدثت فيه بعفوية خفيفة الظل عن والدتها
التي رحلت وهي تتمنى لها كل عام أن تكرم
فكرمت أخيرًا الفنانة (لبلبة) في فعاليات الدورة رقم ٤٤ من
مهرجان القاهرة السينمائي الدولي وللأسف لم ترها والدتها التي رحلت لكن
تكريمها أثلج صدور كل من يتمنون تكريم من يستحقون التكريم وهم أحياء.
ويفتح ذلك الأمر جدلًا واسعًا حول معايير التكريم في
المهرجانات السينمائية في مصر وليس فقط مهرجان القاهرة.. فتكريم المهرجانات
للأجيال الشابة وجيل الوسط يعتقد كثيرون أنه لجذب الجماهير التي تحب رؤية
النجوم الشباب على خشبة المسرح.
في حين يرى البعض أن تلك الخشبة الأولى بها والأحق هو الجيل
الذي قدم الكثير من أيام سينما الأبيض والأسود والتي انحاز لها الفنان حسين
فهمي في كلمته الرشيقة.
فعندما يكرم نجوم الأبيض والأسود أولًا، سيصبح تكريم الشباب
بعد ذلك مستحقًا.. بعد منحهم سنوات يعطون ويقدمون فيها أعمالًا أكثر تضاف
لرصيدهم عندئذ يكون تكريمهم لا غبار عليه مع العلم بأن الجيل الذي يكرم
حاليًا هو جيلي أنا شخصيًا ولكني أنحاز وأضم صوتي لمن يرى أن جيل الأبيض
والأسود هو الأحق بالتكريم في حياتهم وقبل رحيلهم مع كل الأمنيات الطيبة
لبقاء كل المبدعين على قيد الحياة.
أما مدير المهرجان الذي يتولى إدارة مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي لأول مرة في حياته العملية والفنية بعد استقالته من
مهرجان الجونة وهو المخرج السينمائي الشاب (أمير رمسيس) فكان ظهوره على
خشبة المسرح كمروره في حياته العادية.. فأمير رمسيس تلمحه دومًا هنا أو
هناك وكأنه طيف وومضة تلحظها ثم تختفي بهدوء فحضوره لا يكون أبدًا جاثمًا
على الصدور، بل تستشعره خفيفًا ورشيقًا كهيئته التي أظن أنها أضفت شيئًا ما
على روحه وشخصيته رغم ادعاء صحفي المهرجان المفصول أنه ديكتاتور عتيد.
وبالطبع أنا لم أعمل في فريق (رمسيس) من قبل لكني أعرفه منذ
سنوات دراسته في معهد السينما ومنذ أول أفلامه السينمائية ومشروع تخرجه
بفيلم (نعناع الجنينة) ولم ألحظ في سلوكه طوال سنين بل عمر كامل تزاملنا
فيه وانتمينا لذات الجيل وواجهنا ذات المعطيات والصعوبات والتحديات ما يمكن
أن يجعل أحدًا يصفه بالديكتاتور! فالعدل والحق والحزم والحسم والاستقامة
وأخذ الأمور على محمل الجد وعدم التقصير أو التهاون أو التعامل في المجال
المهني وفقًا للهوى والأهواء يسميها كثيرون ديكتاتورية وبالتالي يطالبون عن
وعي أو بدون وعي بالديماجوجية والديمقراطية العمياء.. ديمقراطية الجهل
والجهلة التي أوصلتنا على المستوى العام لعام لم ننسه حتى الآن.. عام شهدنا
جميعًا فيه ما اصطلح على تسميته بديمقراطية (الصناديق) التي أودت بنا
لكارثة نحمد الله على تجاوزها.
وبعد انتهاء حفل الافتتاح الرشيق البسيط الأنيق الذي كان
أقرب لفواتح الشهية منه للوجبات الدسمة، هرع كثيرون لحفل ما بعد الافتتاح
وهو شيء جميل وفرصة سانحة للالتقاء ببقية الضيوف والزملاء والتعارف
والترحيب ببعضهم البعض لكني كنت أفضل أن يكون ذلك بعد انتهاء فيلم الافتتاح
الذي لم يجلس لمشاهدته إلا عشاق السينما الحقيقيون وكنت واحدةً منهم وكان
الفيلم هو وجبة المهرجان الدسمة، بل كانت وجبة شديدة الدسامة حتى التخمة لا
بسبب غلظة العمل فالعكس تمامًا هو الصحيح فلقد كان الفيلم فيلمًا اجتماعيًا
مسليًا متقن وجيد الصنع يحكي فيه ستيفن سبيلبرج عن سنوات التكوين وعشقه
للسينما التي يخرها وجعل منها آلة حرب ومعول هدم ولي للحقائق لصالح المشروع
الصهيوني الذي هو مشروع حياة بالنسبة له ولبلده المصنع وكأننا نشاهد فيلمًا
اسمه الصهيونية نعيش أحداثه بشكل شبه يومي.
فالدسامة التي أصابتنا بالتخمة حتى الاختناق رغم خفة الظل
التي لم تستطع حجب رائحة الصهينة التي فاحت من جنبات ذلك العمل وليس فقط
هذا العمل بل مجمل أعمال سبيلبرج التي تشتم فيها الأنوف رائحة الصهيونية
فهو هبة دولة الكيان الصهيوني بلا منازع ولم يستطع مخرج سواه أن يقوم بما
قام به وقدمه من أفلام، بل خدمات جليلة لذلك الكيان غير المتجانس أما نحن
فالنيل وحده هو هبتنا.. وأبناء النيل لا يعادون أحدًا ولا يتنمرون على أحد
وليسوا عنصريين أو من هواة التمييز بل على العكس.
هم فقط يكرهون الكذبة وأصحاب الدعايات الفجة للكيان المغتصب
القائم على أساس ديني أراق فيها الدماء فبنى دولةً ملطخة بالدماء محاطةً
دومًا بالخوف والترقب والكراهية وانتظار لحظة الثأر.
وضع بائس للجميع ويثير الشفقة على أصحابها فالعنصرية
الدينية تدمر معتنقيها قبل غيرهم.
والحديث باستفاضة عن هذا الفيلم سيكون في مقال الأسبوع
القادم وكل مهرجان وقاهرتنا قاهرة لأعدائها محبة لمحبيها ومحبة للفن والقوى
الناعمة غير الباطشة أو المعتدية.. قاهرة مبهجة تضيء وتتلقلق بنجومها
وضيوفها وصناعها من عشاق الفن السابع. |