تم يوم أمس عرض فيلم افتتاح الدورة 44 من مهرجان القاهرة
السينمائي الدولي وسط ترحيب كبير كون الفيلم من صنع مخرج له سمعة ومكانة
عاليتان في سماء الفن السابع وهو ستيفن سبيلبرغ.
الفيلم هو «ذا فابلمان» («آل فابلمان»)، الذي هو استعادة
المخرج لحياته صغيراً ثم شاباً وذكرياته الحانية تجاه تلك الفترة التي
شغفته السينما وقرر إنه يريد أن يصبح مخرجاً.
الاختيار جيّد ويحسب للرئيس حسين فهمي ومدير المهرجان الفني
أمير رمسيس، وهو يتجاوز العديد من الأفلام التي انتخبت للافتتاح في دورات
سابقة. تشعر مع هذا الافتتاح بأن المهرجان انتمى فعلاً لمنظومة عالمية
محترفة تختار أعمالها بدراية وبذكاء تسويقي يخدم تطلّعات المهرجان الجديدة.
هذا لا علاقة له بحقيقة أن «ذا فابلمان»، ليس أفضل أعمال
سبيلبرغ. هو فيلم لصاحب اسم كبير يروي فيه جانباً من قصّة حياته وهذان
سببان مهمّان وجيدان لاختياره.
حكاية متفاوتة
ينضم «ذَ فابلمانز» (شوهد في مهرجان تورونتو قبل شهرين) إلى
عدد متزايد من الأفلام التي تروي جوانب من حياة مخرجيها. جيمس غراي يقدم
هذه الأيام أيضاً سيرته الذاتية في «زمن القيامة»
(Armageddon Time)
الذي يتناول حياته في كنف عائلته (اليهودية أيضاً) إنما على نحو أكثر
تحدّياً من ذلك الذي يجيء به سبيلبرغ في فيلمه هذا. غراي يدمج السيرة
بالمفهوم السياسي للعنصرية ويقدّم شخصيته الأولى (يقوم بها بانكس ربيتا»)
منفتحاً على ضرورة التآخي بين العناصر والأجناس البشرية.
وينأى أليهاندرو غونزاليز إيناريتو بسيرته إلى نحو ملحمي
خاص تحت عنوان «باردو: مفكرة كاذبة لحنة من الحقائق»
(Bardo:
False Chronicle of a Handful of Trutho)
وكل من هذه الأفلام الثلاثة يحتشد لدخول جوائز الأوسكار والغولدن غلوبز
وجوائز «جمعية المخرجين الأميركية».
مع سبيلبرغ نتعرّف على سامي فابلمان (غبريال لابيل) صغيراً
خارج صالة سينما في مدينة نيو جيرسي تعرض فيلم سيسيل ب. دميل
The Greatest Show on Earth
المُنتج سنة 1952. سبيلبرغ ولد سنة 1956 مما يجعل المشهد مقبولاً لأن
الغاية منه الكشف عن أن سبيلبرغ - سامي كان صغيراً، وطبيعي أن يخاف من مشهد
حطام القطار في ذلك الفيلم، لكن المشهد والخيال الذي حمله هو بدوره كان
نوعاً من الدواء إذ جعله يتعلّق بالأفلام ويعشق - لاحقاً - تصويرها
بالكاميرا التي اشتراها والده له.
بعد ذلك يقفز الفيلم بنا إلى سامي وهو في سن المراهقة. الآن
هو أكثر شغفاً بالأفلام ويصوّر عائلته بتلك الكاميرا أو يدعو رفاق المدرسة
لمشاهدة الأفلام بعدما انتقل وعائلته إلى ولاية أريزونا. في بال سبيلبرغ
المضي بسرد حكاية سامي حتى بداية ولوجه الإخراج (تلفزيونياً أولاً ثم
سينمائياً) في أواخر الستينات. بذلك فإن الفيلم الذي يبدأ بسامي صغيراً
يشاهد فيلماً أثار مخاوفه، ينتهي به شاباً يحقق أول أفلامه في رحى
ستوديوهات يونيفرسال.
هناك نوعان من العاطفة في هذا الفيلم واحدة مستقاة من كون
سبيلبرغ عاطفي
(Sentimental)
في أفلامه يميل إلى توفير ما يشعر به من أحاسيس حيال موضوع له، وآخر
انفعالي في مستوى تلك العاطفة
(Emotional).
الأولى تتغلّب على الثانية هنا كون المخرج يسرد قصّة حياة لا تخلو من الحزن
وبعض الألم (المعاداة للسامية) والحنان. لكن هذا أيضاً هو وضع أفلامه
جميعاً. هي أقل انفعالاً وأكثر عاطفية لدرجة طاغية تطرح المواقف على أساس
أنها لازمة ووجهة نظر. على ذلك، هذه الشؤون المهمّة التي مر بها سبيلبرغ
(التعنيف في المدرسة، العنصرية، ومشاكل العائلة والطلاق... إلخ) تمر على
نحو استعراضي وليس على نحو من يريد تحليلها وتفكيكها اجتماعياً. شيء مثل
منهج بَز لورمَن في فيلمه (غير الشخصي) «ألفيس».
يعرف سبيلبرغ كيف يُصيغ مشاهده في حركة وإيقاع آسرين، على
ذلك ليس هناك تحرر من السرد التقليدي المحافظ. حواراته للأسف وعظية غالباً
ومتكررة وحكايته كان يمكن لها أن تستفيد من قطع بعض المشاهد عوض سرد الفيلم
في 150 دقيقة يمر بعضها ببطء.
مناعة الحطّاب
في عروض ما بعد الافتتاح فيلم المسابقة «قصّة الحطّاب»
(The Woodcutter Story)
للفنلندي ميكو ميليلهتي. فيلم بسيط التركيب وآسر في الوقت ذاته 2022. فيلم
حول رجل اسمه بوب (ياركو لاهتي) يعيش في بلدة صغيرة، ودائماً ما ينظر إلى
نصف الكوب الملآن رغم سوء الأوضاع والظروف.
نظرته هذه معروفة لدى رفاق عمله والمحيطين به لدرجة أن
أحدهم يصفه بأنه مثل كوب نصفه مملوء بالماء. النصف الثاني فارغ. هذا وصف
دقيق لحال بوب ونظرته إلى كل شيء.
بعد قليل من بداية الفيلم يتم إغلاق المصنع الذي يعمل فيه
ويُحال وأصحابه إلى البطالة. الجميع يشكو ويتذمّر، لكنه الوحيد الذي ينظر
للأمور على أن التفاؤل أمر واجب.
في خط موازٍ نجد أحد أصدقائه يكتشف أن زوجته تخونه مع حلاق
البلدة. نراه يأخذ فأساً ويقتحم منزل الحلاق ويهوى على رأسه بالفأس. زوجة
القاتل موجودة وهي تنظر إلى زوجها في خوف شديد. هذا قبل أن يضع الرجل حدّاً
لحياته بالانتحار قبل أن تصل إليه يد السُلطة. ذلك لا يترك تأثيراً كبيراً
على بوب الذي كان القاتل - القتيل قد صارحه بما يحدث معه. يستقبل ما حدث
لصديقه كما لو كان يتابع مسلسلاً تلفزيونياً.
ليس أن الفيلم عنيف ولا حتى يائس. يأخذ المخرج خطاً مخففاً
للحدث عن وضع فردي تحت ظل وضع اجتماعي. هناك روحانيات في هذا الفيلم المؤلف
من فصلين تشغلهما كاميرا ثابتة وكادرات تؤطر الشخصيات والمشاهد جيداً. لكن
المشكلة هي في المفادات التي تنتظر تبلورها عبر هذه الحكاية المجرّدة من
العواطف (باستثناء علاقة بوب مع ابنه) لكن الفيلم يستمر من دونها أو هو غير
قادر على بلورتها لتمنح الفيلم بعض أسبابه. هذا هو الفيلم الأول للمخرج
ويستحق - بسبب اختياراته من المواضيع والمفارقات - فرصة ثانية.
فؤوس أخرى
في تظاهرة «عروض منتصف الليل»، وهي تظاهرة تضم ستة أفلام من
تلك التي لا تريد أن تنام بعدها، هناك «النسخة النهائية»
(Final Cut)
للفرنسي ميشال أزانافسيوس. أحد أسوأ الأفلام هذا العام.
يفتح الفيلم على طاقم عمل فيلم رعب صغير حول الزومبيز.
يتضمن الطاقم فنيين وممثلين. فجأة يجدون أنفسهم عرضة لهجوم من زومبيز
حقيقيين.
عند هذه اللحظة المتقدّمة من الفيلم لم أمانع في أن يقوم
الفيلم من موته المبكر ليرتفع قليلاً عن مستوى قصد المخرج به أن يماثل
الطريقة التي يتم فيها (حسب رأيه ورؤيته) تلك الأفلام الرخيصة المماثلة.
الطريقة الأجدى ليست المحاكاة باستخدام ذات الطرق والعناصر التي في أفلام
العنف، بل في القدرة على توفير النظرة إليها لتتضمن وصفها على النحو التي
هي عليه والمسافة التي على الفيلم اتخاذها لكي تنجح مبادرته سواء أكانت
استخدام الهلع كمفتاح أو الكوميديا والسخرية كسبب لهذا الاختيار.
لكن أزانافسيوس بعيد جداً عن ذلك. يريد أن يصنع فيلماً
ساخراً عن أفلام (بما فيها الفيلم الياباني الذي نقل حكايته، «قطعة من
الميّت»، ولا يستطيع. لا النكتة تصل ولا الرعب يحدث. ما يقع عنف ودم
ممهوران بمخرج برهن على أنه أقل فنّاً مما أبداه عندما حقق أوسكاره الوحيد
عن فيلمه «الفنان»
(The Artist)
سنة 2019.
ومع مشاهد، مثل يد مقطوعة يلعب بها أفراد الفيلم - داخل
الفيلم - ورؤوس يُطاح بها بالفؤوس وما شابه من لقطات ومشاهد أخرى لتجسيد
دموية الفيلم الصغير داخل الفيلم الكبير، يصل الفيلم إلى متحدر جديد ينزلق
فوقه ويستمر عليه حتى النهاية التي هي استكمال لمشاهد البداية جرى العودة
إليها في سلق أفكار كونها تعود بنا إلى ما قبل بدء تصوير الفيلم داخل
الفيلم. في هذا الجزء الذي لا أهمية له نشاهد منتجاً يابانياً يتقدّم من
مخرج فرنسي غير ذي شأن (رومان دوريس) بمشروع هذا الفيلم المنوي تصويره. هذا
المخرج الفرنسي لديه ابنة صغيرة (هي ابنة المخرج أزانافسيوس فعلاً) ومتزوج
من ممثلة (التي هي شريكة حياة أزانافسيوس في الواقع). من ناحية، هذه تحية
للفيلم الياباني الذي اقتبس أزانافسيوس فيلمه منه وعذر لتقديم ابنته وزوجته
في دورين غير ملهمين. |