سعادتى الحقيقية هى ردود أفعال الجمهور.. ولا أعتبر ما
أقدمه فلسفة بل هموم ذاتية
داوود عبدالسيد ليس مجرد مخرج سينمائى؛ بل هو صانع محتوى
وصاحب هَمّ اجتماعى طوال رحلته الفنية، ومن كبار مثقفى ومبدعى مصر، عاش
طوال حياته يشارك الجمهور همومه وأحزانه وهواجسه.
«المصرى اليوم» حاورت المخرج الكبير بعد فوزه بجائزة النيل
للفنون، ليتحدث عن نفسه وعن مشواره السينمائى والذوق الفنى للجمهور، وكيف
كان وكيف أضحى، ولماذا ابتعد عن السينما وهموم المواطن!.. وإلى نص الحوار:
■ ما انطباعك بعد فوزك بجائزة النيل للفنون؟
- سعادتى الحقيقية هى ردود أفعال الجمهور على الجائزة،
وأصداء ذلك عند المحبين والمتابعين، فهو التقدير الأهم والأغلى فى نظرى،
أمّا مدى تأثير ذلك على مستقبلى السينمائى؛ فلا أستطيع الجزم بشىء حتى
الوقت الحالى، فأنا أعيش اللحظة بلحظتها، ولا أشغل بالى كثيرًا بما سيحدث
غدًا.
■ بعد سنة من قرار الابتعاد أو الاعتزال.. حدثنا عن نمط
حياتك.
- نمط الحياة اختلف بالتأكيد، أصبحت قليل النزول، لا أحضر
أى اجتماعات أو مؤتمرات كما كنت أفعل من قبل. أشاهد الأفلام على المنصات،
ومع تقدم السن أشعر بغربة، فجيلى يتآكل، كما أن المجتمع يتغير اجتماعيًا
وثقافيًا وفكريًا كل يوم، فأنت تخرج من كل شىء قادم.
■ هل تشعر أن هذا الزمن ليس زمنك؟
- إلى حدٍ كبير، فالشجرة تسقط منها ثمرة كل فترة، جيلى
يتآكل كما قلت لك، وذلك يشعرك أن الأمور قريبة.
■ الاعتزال كان القرار المريح بالنسبة لك؟
- لم يكن قرارًا بالاعتزال الشخصى، أراه اعتزال جيل، فأبناء
جيلى ابتعدوا عن السينما، مثل بشير الديك وخيرى بشارة وعلى بدرخان بعد حدوث
تغيير كبير فى شخصية الجمهور المصرى، فلا يوجد منتج فى الوقت الحالى يدعوك
لعمل فيلم، لأنه يريد نوعا محددا من السينما، وهى السينما التجارية سريعة
الربح، وأنا ليس لدى اعتراض عليها، لكن هذا النوع لا أقدمه أنا وبعض
الآخرين.
■ هل لديك مشكلة فى فهم طبيعة الجمهور حاليًا؟
- دعنا أولًا نسأل: من هو جمهور السينما؟ ثم أين تتواجد
صالات السينما؟ وكم ثمن التذكرة؟.. إجابات هذه الأسئلة تؤكد لنا أن جمهور
السينما فى الوقت الحالى هو جمهور الطبقة المتوسطة والعليا والطبقة الأكثر
ثراءً، فلم يعد هناك وجود لجمهور الطبقة المتوسطة الذى كان يدخل السينما
على أيامنا، فهذا النوع الأخير من الجمهور أصبح غير قادر على دخول السينما
فى زمننا هذا، فهو يحتاج للذهاب إلى المول التجارى ويركن سيارته ويدفع ثمنا
باهظا للتذكرة وأشياء أخرى كثيرة، فأصبح جمهور السينما الحالى ليس لديه
هموم كبيرة أو حقيقية.
■ أيحزنك أن الجمهور اختار نوعًا واحدًا من السينما وهى
السينما التجارية؟
- لم يحزننى ولم يفرحنى، فدائمًا ما أقول لأى مبدع أتحدث
معه: «قَدّم أعظم فيلم.. ولو بائع ترمس شاهده ولم يعجبه، يجب أن تحترم
رأيه»، فالفن ممارسة ومشاهدة وتجربة، يجب أن يتعلم بائع الترمس من خلال
الممارسة والمشاهدة والاختيار، وأن يناقش الفيلم مع أصدقائه وأهله وجيرانه
ولا يتعلم بفصول التقوية والوعظ والفرض الفنى.
■ هذا الجمهور أصبح يخشى أن يشاهد همومه على الشاشة.
- هناك طبقات ليس لديها أى هموم، وهناك بعض الأشخاص هَمّهم
أن تزيد ثروتهم من عشرة إلى عشرين مليون جنيه، ففكرة الهموم الإنسانية لم
تعد موجودة أو تشغل بعض الطبقات.
■ لماذا لم تحاول أن تقدم عملًا فنيًا على إحدى المنصات
الجديدة؟
- ما حجم التدخل الذى ستفعله أى منصة أو أى منتج؟!.. ثم
إننى لست فى مقتبل عمرى لكى أحارب لتقديم عمل على منصة، فهذا الأمر يحتاج
إلى طاقة وعمر وأنا لم أعتد ذلك.
■ أفلام التسلية أصبحت تيارًا سائدًا فى أهم سينمات
العالم.. ما سر هروب الناس للتسلية من وجهة نظرك؟
- إنها دائما الأسهل، فالجمهور لا يحب أن يرهق رأسه بأفلام
عميقة تثير قضايا أو تناقش هموم الذات، فالحب يعتبر هَمًّا، هل توجد أفلام
تتحدث عن الحب.. تتحدث عنه كَهَم وليس كتسلية؟!، هذا هو الفارق، فجيلنا جيل
ما بعد النكسة كان مهمومًا عكس الأجيال الحالية.
■ المناخ الفنى والثقافى فى الثمانينيات كان لا يختلف
كثيرًا عن المناخ فى الوقت الحالى.. ووقتها كان هناك إقبال على أفلام جيل
الواقعية الجديدة، لكن الآن أصبحت الأمور صعبة.. ما الذى حدث للجمهور من
وجهة نظرك؟
- كان يوجد إرهاب وتطرف ومشكلات اجتماعية وفكرية، لكن كنا
نقاوم كل هذا.. الآن، لا نستطيع أن نقاوم شيئًا بسبب الرقابة المجتمعية
وليست المؤسسية.
■ هل تشعر أن لدينا قطاعات مجتمعية تخشى من فكرة الخيال؟
- البعض يخاف من الخيال، فالتشدد الدينى يصنع خوفا من
الخيال، لكن الأغلبية لا يهمها، فلماذا أشغل خيالى؟! أريح رأسى وأشاهد كم
سيارة يتم تكسيرها، وكم شخصًا يقتل فى الفيلم، وانتهى الموضوع عند هذا
الحد.
■ تطرقت فى فيلم «الكيت كات» إلى أزمة العجز.. هل مازلت ترى
أننا مجتمع عاجز فكريًا وروحيًا؟
- نحن لم نعبر عجز نكسة 1967 حتى الآن من الناحية الثقافية
والفكرية؛ فالفكرة ليست فى الانتصار الحربى الذى حققناه فى 1973، الفكرة فى
دخول عصر جديد وأنت كمجتمع مسلح بالعلم والثقافة وحرية الرأى والتفكير،
وهذا لم يحدث بعد مرور كل هذه السنوات، فأسباب الهزيمة المجتمعية التى حدثت
فى عام 1967 لاتزال كما هى.
■ هل المجتمع أصبح محافظًا إلى درجة كبيرة وأصبح هناك مجال
أكبر للأفكار المتطرفة؟
- المجتمع محافظ طوال الوقت، والتطرف موجود طوال الوقت..
لكن إذا لم تقدم تعليما جيدا وتنويرا حقيقيا، ستظل هذه التيارات تكتسب
أرضًا جديدة كل يوم، فالمناخ العام السلفى يجب مواجهته بالعلم والتنوير.
■ لذا يجب أن تتاح حرية أكبر للفن لمواجهة قضايا التطرف
وقضايا المجتمع المختلفة.
- الفن يواجه تلك القضايا بالفعل، لكن يجب ألا نستخدمه
كمبيد حشرى، الفن الطبيعى دون أيديولوجيات أو نية مسبقة لمواجهة شىء سيصل
لقلوب الناس. أذكر لك مثلًا، قَدّم موسيقى جيدة ستصل لقلب المستمع بشكل
طبيعى، على سبيل المثال قارن بين الأغانى العربية والأجنبية، ستجد الأغانى
الأجنبية فيها شعر وأحاسيس حقيقية، أما فى الأغانى العربية فستجد الحديث عن
الغرام والعذاب والهجر بركاكة، لذلك فإن أغانى المهرجانات لها صدى فى
الواقع، رغم فجاجة بعضها لكنها تعبر عن شىء حقيقى، بينما أغانى كبار
المطربين تعبر عن أى واقع؟!.
■ هل تعتقد أن شخصية المصريين تغيرت وأصبحوا أكثر حدة
وشراسة خصوصًا مع انتشار السوشيال ميديا؟
- هذا نتاج الحياة اليومية التى يعيشها المصريون، فالمواطن
المصرى مختنق بالمشكلات والأزمات ويعيش حياة يومية مزعجة ومقلقة، لذا يُخرج
همّه فى الشخصيات العامة على السوشيال ميديا، فالمصريون أصبح فيهم «حاجة
غلط»، وهذا يعود للتعليم والثقافة فى المقام الأول، والديمقراطية مهمة
جدًا، فنحن لن نأخذ درسًا فى الديمقراطية، سنتعلم الديمقراطية بالتجربة
والخطأ عندما تكون هناك جمعيات وأحزاب ووجهات نظر مختلفة، فالصراع
الديمقراطى يربى المجتمع.
■ وكيف ترى المجتمع المصرى؟
- أراه «ملخبط»، شديد التطرف من جهة، وشديد التساهل من جهة
أخرى.. طبقة تشعر أنها تعيش فى فلوريدا، وطبقة تشعر أنها تعيش فى قندهار.
■ بالتطرق إلى السوشيال ميديا.. هل ترى أنها أفادت أم أضرت
المجتمع؟
- أفادته بالتأكيد، وبها حرية رأى ليست موجودة فى كثير من
وسائل الإعلام.
■ وكيف ترى ما تقدمه النقابات الفنية مع فنانيها من منع
ومصادرة وعقاب؟
- النقابات يجب أن توفر الحرية لمبدعيها، فالنقابة لا تعاقب
عضوها، إنها تحثه على أن يقدم عمله، لا تصادره أو تعاقبه.
■ هل كل فيلم قدمه داوود عبدالسيد هو رحلة اكتشاف لذاته؟
- بالتأكيد.. فهى رحلة تطور إنسانى طويلة جدًا، فأنا مثل
بطلى، أدخل تجربة فى كل فيلم وأخرج منها بقناعات ووجهات نظر مختلفة.
■ كان شعارك دائمًا أنك تغير الجمهور لا ترضيه، هل تعتقد
أنك نجحت فى ذلك؟
- هناك شباب يقابلوننى فى مؤتمرات وحفلات ويحدثوننى على أن
أفلامى غيرتهم للأحسن، والبعض يقول لى «أنا حبيت السينما من خلال أفلامك»
فأعتقد أننى نجحت بشكل كبير.
■ لكن فى الوقت الحالى.. هناك حالة نفاق مجتمعى من قبل بعض
المبدعين لذوق بعض الطبقات؟
- هذا هو منطق التجارة «بتحب لحمة.. أعملك لحمة!» تحب أن
تشاهد أفلام تسلية، أقدم لك أفلام تسلية!، فهم يسيرون وراء أذواق الناس ولا
يحاولون تغييرها.
■ أشعر أنك شخص بسيط جدًا لا تحب البهرجة ولا تحب الألقاب؟
- بالطبع، أنا لا أفضل الشهرة، أحب أن أحضر «ساندوتش فول»
وأتناوله فى الشارع، أحب الاستمتاع بتفاصيل الحياة، أجلس على مقهى، أقف على
رصيف، أعيش حياتى بحرية لا يحدها أو يمنعها حاجز الشهرة.
■ ما تعليقك على لقب «فيلسوف السينما» الذى يطلقه عليك
البعض؟
- لم أدرس فلسفة، ولا أعتبر ما أقدمه فلسفة، إنها هموم
ذاتية أشعر بها وأجعل الناس تشاركنى همومى.
■ هل الجمهور فلسف أعمالك وقام بتأويلها أكثر مما تحتمل؟
- هذا حدث مع فيلم «الكيت كات»، فالشيخ حسنى هو أعمى البصر
والبصيرة وشخص عاجز، والفيلم يتحدث عن فكرة العجز بشكل كامل، فكل الشخصيات
فيه تحاول البوح بعجزها.
■ الفن رسالة أم وجهة نظر بالنسبة لك؟
- الفن تجربة وليس رسالة، تعيش عالما مكثفا فى ساعتين أو
ساعة ونصف، فمن الممكن أن تعيش تجربة فى الحياة، والفن يكثف لك هذه التجربة
فى ساعتين، أنت تحب فتاة؟ تحب أى فتاة، الطويلة، القصيرة، ولماذا تحبها؟
وكيف ستسير علاقتكما؟ فأنت تتعلم من خلال هذه التجربة، الفن ليس دعائيًا أو
إرشاديًا، والفن لا يقدم حلولا، إنه يقدم لك تجربة، فكرة تغيير القوانين
ليست مرتبطة بالأفلام، من الممكن أن يتغير قانون بسبب ندوة أو برنامج
تلفزيونى، إذا جاء نتيجة للفيلم فأهلًا وسهلًا ولكنه نتيجة وليس هدفا.
■ فكرة جنى الأموال لم تكن رقم واحد بالنسبة لك، فكيف كنت
تتعامل مع ضغوط الحياة بشكل عام؟
- بالقناعة، فأنا شخص قنوع، فعندما تزوجت، كنا كل شهر نستلف
ممن حولنا، وكانت دائمًا الأزمات المالية تحل، فنحن لا نحب أن نعيش فى ترف
ولا فى فقر، فالقناعة دائمًا كانت سبيلى.
■ وماذا عن التنازلات التى قدمتها خلال مشوارك؟
- لا يوجد شخص لم يقدم تنازلات، لكن التنازلات بالنسبة لى
فى التفاصيل، ممثل أريده ولم يأت، فأحضرت ممثلا آخر.. تفاصيل كهذه.
■ ما علاقتك بالمجموعة التى عرفت باسم «الواقعية الجديدة»
محمد خان وعاطف الطيب وخيرى بشارة.. لم تكن قريبًا منهم؟
- بالعكس كنا زملاء، وكل شخص مهتم بإنتاج الآخر، لكننا جيل
واحد مساراته مختلفة.
■ وهل كنت تتعامل مع الممثلين كأدوات فنية أكثر منهم صُناع
عمل؟
- بالتأكيد لكن لا أسخف منهم، وهناك بعض الممثلين قد لا
تعجبهم أدوار قدموها، إذن لماذا قدموها من الأساس؟!
■ كيف ترى فكرة ألقاب النجوم؟
- إذا كنت أرفضها لنفسى سأحبها لغيرى؟!.
■ ولماذا لم تعمل مع عادل إمام طوال مشوارك؟
- عرضت عليه أول سيناريو كنت سأقدمه «كفاح رجال الأعمال»
ونال إعجابه، ولا أعرف ما الذى حدث بعدها، فعادل إمام لا يقول أسبابًا.
■ وما سر نجاح فيلم «الكيت كات» الشديد مع الناس فى رأيك؟
وهل أغراك نجاح الفيلم بتقديم أفلام بصبغة شعبية بعد ذلك؟
- الفيلم نجح لأنه ممتع وظريف، والأعمى المصرى ليس له مثيل
فى العالم، فهو يتمتع بالظرف والخفة دائمًا. وبعد نجاح الفيلم، ظللت أقول
لنفسى إن الكيت كات سيئ حتى لا أصبح أسيرًا لنجاحه.
■ هل أنت شخص «مزاجنجي»؟
- إلى حد كبير، أحب الحرية فى كتابة العمل حتى لو عامين،
ولا أحب التقيد بفكرة مواعيد التسليم فى أوقات محددة، أحب أن أمارس عملى
بحرية دائمًا.
■ ما آخر فيلم شاهدته ونال إعجابك؟
- دائمًا كان يؤرقنى أن أقدم فيلمًا ممتعًا ويكون جيدًا
فنيًا، فيجب أن تقدم كمبدع فيلما ممتعا وجيدا فى نفس الوقت، وفيلم «من أجل
زيكو» ينطبق عليه المعنى الذى أقوله لك، وهو آخر ما شاهدته ونال إعجابى،
ونفس الأمر ينطبق على فيلم «ليل خارجى».
■ وآخر مسلسل؟
- لا أشاهد المسلسلات بطبعى، لكن فى آخر رمضان نتيجة لرؤية
زوجتى لبعض المسلسلات، شاهدت بعض حلقات مسلسل «راجعين يا هوى»، وخالد
النبوى نال إعجابى بشدة.
■ عندما ترى ارتباط الأجيال الجديدة بك، ماذا تشعر؟
- أشعر بالفخر والامتنان لهذا الجيل الذى يحب السينما.
■ هل تشعر أنك أديت دورك، أم لا يزال لديك أحلام تتمنى
تحقيقها سينمائيًا وفنيًا؟
- قدمت مشروعى أو ما استطعت تقديمه.. وبالتأكيد كنت أتمنى
تقديم أكثر من ذلك؛ فالإنسان دائمًا طماع.