يوميات فينيسيا (4):
يوم اللحم والعظم وكل شيء!
أمير العمري
اليوم الثالث من أيام المهرجان. شاهدت أربعة أفلام. بدأت
المشاهدة من الثامنة والنصف صباحا بالفيلم الأمريكي “عظام وكل شيء”
Bones and All
للمخرج الإيطالي “لوكا جوادانينو” في أول تجربة له في أمريكا، ثم الفيلم
الفرنسي “أثينا”
Athena
للمخرج رومان جافراس إبن المخرج الشهير كوستا جافراس وهو من أصل يوناني
بالطبع لكن فيلمه ليس عن أثينا اليونانية بل عن الاضطرابات والمواجهات بين
الشباب من أصول عربية وافريقية والشرطة الفرنسية (سيأتي مقالي عنه فيما
بعد)، ثم فيلم “مونيكا”
Monica
للمخرج الإيطالي أمريا بالاورو، وهو من الإنتاج الأمريكي أيضا، وأخيرا فيلم
“كل الجمال والدم المراق”
All the Beauty and the Bloodshed،
وهو الفيلم التسجيلي الطويل من إخراج لاورا بويتراس الأمريكية صاحبة
الأفلام التسجيلية الشهيرة.
اليوم إذن، كان مشحونا بأفلام ثقيلة، منها ما هو فني تماما
مثل “كل الجمال والدم المراق”، ولا يمكن وصفه بانه مجرد فيلم تسجيلي (أو
وثائقي) فهو فيلم تشكيلي كامل يجمع بين القصصي والتسجيلي والتعبيري. وله
بالطبع وقفة خاصة. وأما “مونيكا” فهو من أكثر أفلام المهرجان غرابة وغموضا
وله بالتأكيد علاقة بشخصية بطلته الأمريكية “تريس ليسيت” المتحولة جنسيا من
رجل الى امرأة ومع ذلك أصبحت مليئة بالأنوثة والجاذبية الجنسية الطاغية!
تريس ليسيت بطلة فيلم “مونيكا”
أود الآن التوقف امام الفيلم الأول “عظام وكل شيء” الذي
صدمني كثيرا، بل وصدمني أكثر من الفيلم نفسه، ذلك الاستقبال الحار من قبل
جمهور الشباب حد الهوس: في أي عالم نحيا اليوم؟ وما هذا الجمهور؟ وكيف يمكن
أن يجد الكثيرون فيلما كهذا عملا فنيا رفيعا جديرا بالاحتفال، وجديرا
بالعرض داخل مسابقة مهرجان دولي كبير مثل مهرجان فينيسيا (هل لمجرد انه
لمخرج إيطالي مشهور!)، وثانيا أن يجد فيه الجمهور شيئا يستحق أن يؤخذ على
محمل الجد، وأن يعامل كعمل فني رفيع!
صحيح أن الفيلم مصنوع بمهارة من ناحية حرفية الإخراج
السينمائي: خلق الجو، تحريك الشخصيات، تحقيق الإثارة من خلال الترقب الدائم
لما سيحث فيما بعد، التمثيل البديع سواء من جانب الممثل الانجليزي المخضرم
“مارك ريلانس”، أو الممثلة الشابة الناشئة “تايلور راسل”. وقد يكون موضوعه
تعبيرا رمزيا هما آلت إليه الأمور في عالمنا اليوم. ولكن هل أصبحنا فعلا
نأكل بعضنا البعض؟
أظن أن فيلما كهذا سيصبح مما يسمى
cult movies
أي الأفلام الصادمة التي تجد صدى لها عند الجمهور المولع بأفلام الرعب
والصدمة، الأفلام القاسية التي تتلاعب بالصورة وبالمشاعر.
إلا أن هناك نوعا من الأفلام يعرف بـ”أفلام التقزيز” سبق أن
كتب عنه كثيرا صديقنا الناقد المعتزل مدحت محفوظ. وأظن أن هذا الفيلم ينتمي
لهذا النوع أكثر. فنحن أمام فيلم عن آكلي لحوم البشر في عالمنا المعاصر في
قلب الولايات المتحدة وليس بين قبائل قديمة متوحشة في مجاهل افريقيا، فيلم
مليء بالدم والأحشاء والنهم لالتهام اللحم البشري والأعضاء الداخلية بكل
شراهة وشراسة، ومع هذا، يحيط المخرج فيلمه المقتبس عن رواية أمريكية ذائعة
الصيت، بقدر من الرومانسية والنغمة الحزينة التي ترثي لبطلته التي جاءت إلى
العالم على هذا النحو، واصبحت مدفوعة دفعا لما تفعله بدوافع قدرية، لكنها
تبدأ أيضا في التشكك وطرح الأسئلة ربما رغبة في الكف عما تفعله رغما عنها.
مارك ريلانس
هي فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، تدعى “مارين” تعيش مع
والدها، والدها يحبسها ويوصد الباب عليها. ونحن لا نعرف السبب لكننا سرعان
ما سنعرفه. وهي طالبة في المدرسة العليا، تقبل دعوة من زميلات لها لقضاء
الليلة معهن، وتتسلل بطريقتها من المحبس، لتقضي الليل مع الفتيات لكنها عند
أول فرصة تتاح لها تقضم إصبع احداهن وتأكله ثم تفر عائدة الى والدها
والدماء تغطي صدرها ووجهها وفمها. ليست هذه هي المرة الأولى طبعا فالرجل
يسألها: هل فعلتها مجددا؟ احضري أغراضك ولنغادر خلال 3 دقائق قبل وصول
الشرطة.
وينتقلان فعلا الى بلدة أخرى في الوسط الأمريكي. وسرعان ما يهجرها أبوها
بعد أن يترك لها شريط تسجيل عليه رسالة صوتية منه، وشهادة ميلاد والدتها.
نحن في أمريكا أوائل الثمانينيات. عصر رونالد ريجان. انتشار
البطالة والهائمين على وجوههم والمهمشين. وطبعا لم يكن العالم قد عرف
الهواتف المحمولة ولا شبكة الانترنت. ودون شك يبرع المخرج في تصوير أجواء
الثمانينيات، كما يجعل الصور تصطبغ باللونين: الأحمر القاني والبني الداكن.
تايلور راسل
ستجد الفتاة نفسها بمفردها. ويصبح شغلها الشاغل هو العثور
على والدتها لكي تعرف منها أصل هذه الحالة الغريبة التي دفعتها إلى
الانتقال من مكان إلى آخر بل إن والدها يقول لها في رسالته الصوتية إن أول
اعتداء منها كان على جليسة الأطفال، أي وهي بعد في مهدها! الأم هي المصدر
الأصلي لتلك الحالة. والواضح من السياق أنها كانت أيضا كذلك. وهي لاتزال
على قيد الحياة ولكن اين؟
من هنا نصبح أمام فيلم من أفلام الطريق. مارين تسير على غير
هدى فيقابلها رجل يدعى “سولي”
Sally
(يقوم بالدور بأداء خاص فريد ومثير للرعب والضحك في آن، الممثل الإنجليزي
مارك ريلانس). يقول لها إنه تعرف عليها من رائحتها عن بعد، فهو يستطيع أن
يشم الذين ينتمون إلى نفس الفصيلة التي ينتمي إليها هو أيضا، أي فصيلة آكلي
لحوم البشر. ويخبرها أن هناك الكثيرين مثلها ومثله، لكنه يطمئنها بالقول
“نحن لا نأكل بعضنا البعض أبدا”.
في بيته، أو المنزل الذي يزعم أنه بيته سيلقنها درسا في
التهام الجسد الانساني بالكامل، أي باللحم والعظم وكل شيء. ويقول إنه لا
يقتل، بل ينتظر فقط الانسان المشرف على الموت، ويساعده على إدراك نهايته ثم
يأكله. ولديه في المنزل جسد سيدة ماتت لتوها، يدعو مارين لالتهام الجثة معه
بحيث لا يبقى منها شيء.
ما يفعله هذا الرجل بكل هذا الثبات والاقدام بعيدا عن أي
تساؤل بل يبدو أنه يستمتع أيضا بما ساقه إليه القدر، يدفع مارين للفرار لكي
تلتقي بشاب من جيلها، هي التي تكتشف أنه ينتمي إلى نفس فصيلة أكلة لحوم
البشر. وتنشأ بينهما علاقة رومانسية، ويرتبطان ببعضهما، ويشتركان في
شعورهما بالعذاب بسبب حالتهما التي لا يملكان لها دفعا. ومرة أخرى ستغادر
مارين لكي ترى أمها التي عرفت مكانها أخيرا داخل مستشفى للأمراض العقلية.
وهناك لن تكون النهاية جيدة.
تيموثي شالاميت
من الواضح أن جوادانينو، من خلال هذا الفيلم، يريد أن يصدم
المتفرج، وأن يخدش بقوة لدى جيل الشباب، الصورة الرومانسية الشائعة في
المسلسلات والأفلام التي تجعلهم يعيشون وهم الحلم الأمريكي الرقيق الناعم،
وهي الفكرة الأساسية في الرواية الأصلية. وهو يجعل بطلته الشابة نموذجا
تعيسا، فهي تشعر بأزمتها، لكنها لا تستطيع لها دفعا، تريد ان تكون مثل
غيرها، لكنها مضطرة للاستجابة لغريزتها، وهي ترفض بشدة العودة مع “سوللي”
الذي يعود للعثور عليها مجددا ويدعوها للعودة معه. هل وقع في حبها رغم فارق
السن الكبير بينهما؟ إن ميله إليها ينبع في الحقيقة، من شعوره القاتل
بالوحدة، ورغبته في التشارك مع فتاة على شالته، يعلمها كيف تتعامل مع هذه
الحالة، وكيف تستمتع بها أيضا.. لكنه يبدو بائسا حزينا، ضائعا.
هناك إيحاءات تشير إلى نوعية هؤلاء المهمشين والهائمين
والفقراء والذين يعجزون عن التعايش مع هويتهم بل يفتقدون الهوية ويبحثون
عنها وعن الانتماء. فمارين (التي تجسدها ببراعة تايلور راسل) هي على أي
حال، من الأقلية السوداء في المجتمع الأمريكي. والشاب الذي ترتبط به لفترة
وهو “لي” (يقوم بدوره تيموثي شالامت) شاب مقطوع الصلة بعائلته، يهيم على
وجهه باستمرار، يمارس السرقة والانتحال وتدخين المخدرات ولا يعرف له
مستقبلا ولا مصيرا.
ورغم كل المبررات التي يمكن أن نستشفها من بين ثنايا القصة
المرعبة، تظل مشاهد الدماء والقتل والفتك والتهام الجثث والدماء الذي تسيل
فتغرق الملابس، هي كل ما يبقى في أذهاننا ونحن نغادر قاعة العرض السينمائي.
لكن قطاعا من الشباب من مدمني أفلام الرعب، سيعجبهم ولا شك، مثل هذه
المغالاة في تصوير التهام اللحم والعظم.. وكل شيء! |