بعد أن حصدت المخرجة السورية سؤدد كعدان بفيلمها السابق
"يوم أضعت ظلي" (2018) جائزة أسد المستقبل من مهرجان فينيسيا، تعود مرة
أخرى للمهرجان الأعرق، في مسابقة Orizzonti
Extra هذه
المرة، بفيلمها الطويل الثاني "نزوح". مرة أخرى نعود إلى سوريا، موطن
المخرجة، وقت الحرب، لنتابع إحدى الأُسر التي تعيش في حي هرب منه أغلب
سكانه، أو كما يقولون في الفيلم "نزحوا"، نتيجة الدمار وصعوبة العيش
وانقطاع أغلب الموارد، لكن رب الأسرة، يرفض أن يترك بيته.
وكأن الحرب مزحة
قُدمت الكثير من الأفلام بالفعل عن الحرب في سوريا، سواء
وثائقية أو روائية، ويبدو أنه لا زال هناك الكثير ليُحكى. لكن مع تزايد عدد
الأفلام التي تتناول هذه المرحلة الحرجة، فإن صناع الأفلام يصبحون أمام
تحدٍ متزايد، إذ عليهم أن يجدوا جديدًا ليقدموه وإلا ستصبح الأفلام نسخًا
مكررة من بعضها.
يبدأ الفيلم بمشهد للطفلة زينة (هالة زين) وهي ترسم، ثم
نتعرف على أبيها معتز (سامر المصري) وأمها هالة (كنده علوش). يبدو للوهلة
الأولى أن زينة هي الشخصية الأساسية في الفيلم، ومن خلال وجهة نظرها سنتابع
الأحداث، وهذه زاوية جيدة. ناقشت أفلام أخرى تأثير الحرب على الأطفال، ربما
كان أهمها "عن الآباء والأبناء" لطلال دركي، لكنها لا تزال زاوية جديرة
بالبحث.
لكننا سريعًا ما نجد الفيلم ينتقل بين الأم ومعاناتها
لإقناع زوجها بالنزوح إلى مكان الآخر، الأمر الذي يقابل منه دائمًا بالرفض
القاطع. لا يوجد ما يمنع بالتأكيد أن يكون للفيلم عدة خطوط، لكن الأزمة
التي ظهرت سريعًا في هذا العمل هي أننا أمام وجهة نظر الطفلة التي تشاهد ما
يحدث حولها -أحيانًا- بعين الخيال، قبل أن تدخل في صداقة مع ابن الجيران
المراهق عامر (نزار العاني)، وهو الخط الأفضل، وفي المقابل لدينا الشد
والجذب بين الأم والأب للهرب بعيدًا عن هذه المنقطة المنكوبة، وهو الخط
الذي لا يحمل أي جديد ولا يتطور بشكل حقيقي حتى الفصل الأخير من الفيلم.
في الحقيقة لا تتوقف مشكلة هذا الخط فقط عند كونه لا يحمل
جديدًا، الأزمة الأكبر تأتي في الطريقة الخفيفة التي تتعامل بها الشخصيات
مع الحرب. بينما نعرف أن الابنة الكبرى لهذه الأسرة هربت بالفعل مع زوجها،
نجد أن الأب يعارض بشدة فكرة النزوح حتى بعد أن ألقيت قذيفة على المنزل نتج
عنها تهدم الجدران والسقف، سنجد أن الأب المتشدد الذي يرفض أن تخرج امرأته
دون أن تغطي رأسها يقرر أن يداري الحوائط المتهدمة بملاءات الأسرة التي
تكشف أكثر مما تستر! وعندما يحاول إقناع زوجته وابنته بأنه قادر على الدفاع
عنهما يخرج مسدسًا ويمسكه بطريقة خاطئة في مشهد من المفترض أن يكون مضحكًا،
وقد كان مضحكًا بالفعل من مدى خفته، إذ أنه من غير المنطقي على الإطلاق أن
هذا الرجل لا يجيد الإمساك بمسدس، خاصة في توقيت الحرب ذاك، بينما طفلته
ذات العشر سنوات تدرك الطريقة الصحيحة.
معتز يرفض أن يترك بيته رغم كل هذه الأزمات، لكن الأزمة
الأكبر لدينا كمشاهدين أننا لن نشعر أبدًا بمنطق في رفض معتز الدائم للخروج
من البيت، فحججه واهية. هكذا سنجد عند نقطة معينة في منتصف الفيلم تقريبًا
أن الأحداث شبه توقفت، النقاش مع الأب انتهى إلى رفض النزوح، بينما تقضي
زينة الليل مع عامر على سطح البيت. لا يوجد ما يدفع الأحداث للأمام، وإذ
تتسم الشخصيات بالخفة كما ذكرنا فإننا من الصعب أن نتفاعل معها وننتظر
مصيرها.
بحثًا عن الأسلوب المفقود
في فيلمها السابق، استخدمت سؤدد كعدان الظلال للتدليل على
مصائر الشخصيات، بينما في "نزوح" سنجد أن الكثير من التفاصيل التي تُمنح
للشخصيات لا تُوظف بشكل لائق حتى نهاية الفيلم. بينما نبدأ الفيلم مع هالة
وهي ترسم، ونشاهدها في مشهد لاحق أيضًا ترسم على الحائط، فإن هذه التفصيلة
تُنسى في النصف الثاني من الفيلم ولا تعود لاستخدامها. تحاول المخرجة أيضًا
أن تمنح فيلمها بُعدًا فانتازيًا من خلال وجهة نظر الطفلة، إذ نجدها تُلقي
بالأحجار في السماء للتحول السماء أمامها إلى سطح مياه. بينما يتكرر هذا
المشهد عدة مرات، بل إن الأم تفعل نفس الأمر، فإننا أيضًا لا نلمح تأثير
هذا الخيال لاحقًا، وهذا على الرغم من أن الفيلم خلال مدته حاول أن ينحاز
إلى الحلول السعيدة، لكنه لم يمنح المساحة المطلوبة لخيال الطفلة في
النهاية.
يمتد تذبذب الأسلوب أيضًا في ما يخص تحريك الممثلين. فبينما
نجد أن الطفلة هالة زين تقدم أداءً جيدًا، وكذلك كنده علوش التي حاولت
السيطرة على شخصية الزوجة المغلوبة على أمرها والمرأة القوية التي تأخذ
مجريات الأمور عندما يتطلب الوضع ذلك، فإننا في مقابلهما سنجد أداءً هزليًا
من سامر المصري لا يليق على الإطلاق مع أجواء الحرب التي تتعرض لها
الشخصيات. ربما كان سيصبح الأداء مقبولًا لو كانت المخرجة قررت أن تكون
الكوميديا هي الحالة المسيطرة على الفيلم، لكن في حقيقة الأمر الكوميديا
تظهر وتختفي خلال الأحداث، وعندما ننظر إلى البيوت المتهدمة جراء الحرب
فإنه من الصعب أن نضحك بحال، وهكذا أتى أداء المصري ليضيف إلى حالة
الارتباك، خاصة عندما كان ينفعل بافتعال شديد عندما يسمع كلمة "نزوح".
يمكننا هنا أن نتوقف عند فيلم زياد دويري الشهير "بيروت
الغربية" الذي تعرض للحرب الأهلية في لبنان، وكان أبطاله مجموعة من
المراهقين، قدم من خلالهم وجهة نظر مختلفة لحالة الانقسام في المجتمع
اللبناني آنذاك، ونجح في أن يقدم مشاهد كوميدية لا تنسى نابعة من قلب
الشخصيات المكتوبة بعناية، لكنه في الآن ذاته لم يقدم فيلمًا خفيفًا أو
كوميديا على حساب المنطق.
يبدو أن لسؤدد كعدان المزيد لتخبره عن الحرب في سوريا،
وربما أرادت في "نزوح" أن تخفف من الأجواء المقبضة المعتادة في الأفلام
المشابهة، لكنها في طريقها إلى ذلك أسقطت العديد من التفاصيل الأخرى التي
أضرت بالنتيجة النهائية.
كاتب وناقد سينمائي |