خاص "هي"- مهرجان كان 2022:
فيلم السعفة الذهبية
"Triangle of Sadness"..
انسَ كل ما شاهدته عن الطبقية
أندرو محسن - مهرجان كان
بنهاية مهرجان كان في دورته 75، قررت لجنة التحكيم برئاسة
الممثل الفرنسي فينسينت ليندون، أن تضم المخرج السويدي روبن أوستلوند لنادي
الحاصلين على سعفتين ذهبيتين، بمنحه الجائزة الأبرز في عالم السينما عن
فيلمه
"Triangle of Sadness"
(مثلث الحزن)، بعد أن كان قد حصل عليها عن فيلمه السابق
"The Square"
(المربع) عام 2017، ليصبح المخرج التاسع الذي يحصل عليها مرتين.
في فيلمه السابق، أعاد أوستلوند النظر في مفهوم الفن
المعاصر بشكل شديد السخرية وشديد الجرأة أيضًا، ليقف ببراعة شديدة بين الحد
الفاصل من التقليل من هذه الفنون بشكل ركيك، وبين أن يترك المشاهد يعيد
النظر بشكل مختلف فيها.
مثلما يبدو أن "المربع" يضع عنوانًا جانبيًا عن الفن
المعاصر لكنه في الآن ذاته يتناول الإنسانية بشكل عميق من خلال هذه
الموضوع، فإننا يمكن أن نضع عنوانًا آخر لـ "مثلث الحزن" وهو الطبقية. مرة
أخرى يبدو موضوعًا حساسًا، وإن كان ليس موضوعًا بنفس طزاجة الفن المعاصر،
بل نوقش كثيرًا من قبل. لكن هذا لا يسبب أي مشكلة لأوستلوند الذي يتناول
هذا الأمر بأسلوبه الساخر فيجعلنا وكأننا نشاهد للمرة الأولى عملًا عن
الطبقية.
كيف تنظر في إعلان الملابس؟
في المشهد الافتتاحي للفيلم، نشاهد مجموعة من عارضي
الأزياء، في تجربة للأداء من أجل إعلان جديد. يتواجد شخص يُجري معهم عدة
حوارات، ثم في النهاية يعرف الفرق بين نظرتك عارض الأزياء في الإعلان عندما
يكون الإعلان لعلامة تجارية في متناول الجميع أو بيت أزياء يشتري منه عدد
محدود. في الأولى يجب أن يبدو العارض مبتسمًا وينظر للكاميرا مباشرة، يدعو
من يشاهد الإعلان للشعور بأن هذه العلامة مصنوعة له، ويُرغبه في الشراء
للشعور بهذه السعادة البادية على وجهه. بينما في بيت الأزياء باهظ الثمن،
لا ينظر العارض للكاميرا مباشرة ولا يبتسم، ويُشعر من يراه بأنه متعالٍ. في
نهاية المشهد يطلب المحاور من العارضين أن يبدلوا الأوضاع بين ابتسامة
المنتج العادي ونظرة العلامة الثمينة.
هذا المشهد هو تلخيص لفكرة الفيلم بشكل عام، مدخل لنظرة
عميقة على مفهوم الطبقية والفارق في التعامل حتى في أبسط التفاصيل مثل
إعلانات الملابس. ينقسم الفيلم لثلاثة فصول: الأول كارل ويايا، والثاني
اليخت، والثالث الجزيرة، وفي كل فصل يفاجئنا أوستلوند بكيفية تناول الموضوع
ببراعة.
من نقطة صغيرة، هي علاقة بين حبيبين، يعمل كلاهما في مجال
عرض الأزياء، نبدأ في تناول فكرة الطبقية، كيف يتعامل كل منهما مع الآخر
وكيف ينظران للعالم، ثم ننتقل في الفصل الثاني إلى نظرة أوسع، فحتى
الأثرياء ينقسمون إلى طبقات، ويشعرون بالتفاوت والطبقية عندما يكونون في
مكان واحد وهو ما نشاهده على اليخت الذي تكلف الرحلة عليه ثروة، فمن دفع
ثمن التذكرة لا ينظر بتساهل إلى من حصلوا على رحلة مجانية. وفي هذا الفصل
تتجلى أفضل مساحات الحرية والعبث في الفيلم، إذ داخل اليخت يجعل أوستلوند
شخصياته من ذرة الفيشار التي تنفجر داخل قدر ذو مساحة محدودة على النار،
جميعها تختلط ببعضها وتتقافز من مكانٍ لآخر. كانت اختيار الممثل الأمريكي
الشهير وودي هارلسون في هذا الفصل تحديدًا بمثابة إضافة قوية لحالة
الكوميديا في الفيلم.
في الفصل الأخير، الجزيرة، يضع المخرج تصورًا أخيرًا، هو
كيف سيتعامل البشر الطبقيين بطبيعتهم مع وجود ضغوطات وعوامل استثنائية. لا
يخلو الفصل الأخير من الكوميديا والتي تأتي بشكل أكبر هنا من الممثلة
الفلبينية دوللي دي ليون، لكن ما يجعل الفصل الأخير أقل من سابقيه هو أنه
من السهل توقع كيف ستؤول الأمور في النهاية، على العكس من بداية الفيلم.
كيف تصنع مشاهد خالدة؟
أكثر ما يميز أفلام المخرج السويدي -بجانب الكوميديا
المختلفة- هي قدرته على صناعة مشاهد خالدة، تنطلق من أفكار شديدة البساطة
ولا تبدو على الإطلاق بأنها تصلح لصناعة مشهد مختلف. في "المربع" نتذكر
مشهد كَنس أحد العمال في المتحف لأحد المعروضات الموجودة على الأرض دون أن
يعرف أنها قطعة من المعرض أساسًا.
في "مثلث الحزن" يصنع أوستلوند مشهدًا، لا أعتقد أنه سيفارق
أذهان كل من يشاهده لفترة طويلة جدًا. يجلس كارل (هاريس ديكنسون) ويايا
(شارلبي دين) على مائدة طعام في مطعم يبدو من المطاعم الفارهة. ينتهي
الاثنان من تناول الوجبة، ثم يأتي وقت الحساب، وهنا يدور حوار سيمتد لدقائق
طويلة تالية عن من يجب أن يدفع الحساب. هنا تتجلى براعة أوستلوند في صناعة
حالة كوميدية لم نشاهدها من قبل من مجرد خلاف على من يدفع الحساب، ولا
تتوقف عبقرية هذا التتابع عند طرافة الحوار، هذا الذي لا يزال يصب داخل
الفكرة العامة للفيلم، لكنها أيضًا تتضح في كيفية صناعة تصعيد متواصل
للمناقشة، في كل مرة نتوقع فيها أن الحوار انتهى ولا جديد يمكن إضافته هنا.
يمكن القول إن هذا المشهد يجمع جينات الفيلم بأكملها.
هذه التفاصيل البارعة في بناء مشهد / تتابع، تتكرر بشكل
أكبر في أحد مشاهد الفصل الثاني، اليخت، عندما يحضر ضيوف اليخت لعشاء على
شرف القبطان، وهو ما ينذر في البداية ببعض الكوميديا بالطبع، لكننا مع
نهاية المشهد سنعيد النظر في عبارة "بعض الكوميديا" إذ أن المخرج يحول هذا
التتابع إلى كتالوج يضم أغلب أشكال الكوميديا الشهيرة، بين الفارص
(المبالغة)، والكوميديا المقرفة
(Gross out)
التي تعتمد على عناصر مثل القيء لإثارة الضحك، وحتى البارودي (المحاكاة
الساخرة)، إذ سنتذكر بشكل ما مشاهد من تايتانك.
رغم أن "مثلث الحزن" ربما لم يكن الفيلم الأفضل بشكل قاطع
في مسابقة كان هذا العام، فإنه يظل أكثر الأفلام التي يصعب الخلاف على
جودتها، وهو عكس الأفلام الأخرى في المسابقة التي ربما كانت أكثر جرأة في
أفكارها وأسلوبها لكنها شهدت انقسامات حادة في الآراء حولها.
كاتب وناقد سينمائي |