مهرجان كان السينمائي ينحاز إلى هستيريا التصنيفات:
يشبهوننا / لا يشبهوننا!
ندى حطيط
وحيداً كطير يغرّد خارج السّرب، جاء صخب المخرج الفرنسي –
السويسري جان – لوك غودار احتجاجاً على حال الابتذال التي وصلت إليها
الدعاية الإعلاميّة الغربيّة الموجهة ضدّ روسيا، وهذه المرّة في أروقة
مهرجان كان السينمائي.
فها هي تظاهرة كبرى أخرى مخصصة للثقافة الإنسانية عبر
العالم تتوقع – إن هي انصرفت عن تخصصها الفني والتقني المحض وتعاطت السياسة
– أن تكون بوابة تلاقٍ وانفتاح ومناهضة للحروب، لكّن الغرب أبّى لها إلا أن
تكشف عن حقيقتها، مجرّد أداة دعاية أخرى، منحازة إلى هستيريا التصنيفات
النهائية – يشبهوننا / لا يشبهوننا – التي طالما كانت سرّ كل (هولوكوست)
شهده العالم الحديث من اغتصاب نانكينغ (عاصمة الصين القوميّة خلال الحرب
العالميّة الثانية) على يد الجيش الياباني إلى مذبحة «صبرا وشاتيلا» على
تخوم الحزينة في بيروت. لم ينتبه القائمون على مهرجان كان السينمائي أن جلّ
جمهورهم مخرجون سينمائيون أو مختصون في صناعة الصورة واختلاق العوالم،
ففرضوا عليهم، وكأنهم من بقية الغافلين، أن انطلق مهرجانهم بإطلالة أخرى
إجباريّة رديئة الإخراج لـ»الممثل الكوميديّ» الذي صار رئيس جمهوريّة
فولوديمير زيلينسكي – على حد تعبير غودار – فكأن مهرجان الفن السابع الأهم
في أوروبا مجرّد نسخة أخرى من قمّم الناتو (حلف شمال الأطلسي) أو اجتماعات
قادة الاتحاد الأوروبيّ في بروكسل، وغيرها من تجمعات السياسيين الغربيين،
التي لم يعد ممكناً النجاة فيها من «كليشيه» طلّة الرئيس الأوكراني
المقدسّة. وليت أرباب مهرجان كان توقفوا عند ذلك، ولكنّهم فتحوا الباب
مشرعاً لممارسات تعصّب عنصري لا تليق بمتعلمين عاديين، فما بالك بقادة
ثقافة وأساتذة فن، سعياً لإقصاء السينمائيين الروس من المهرجان، واستبعاد
مشاركة المخرج الروسي كيريل سيريبنيكوف عن المنافسة!
كاميرات مبتلاة بعمى ألوان مزمن
لا أحد تستفيق عنده ذرة من ضمير إنسانيّ ولا تؤذيه مشاهد
الجثث المتناثرة في الشوارع، أو قوافل اللاجئين المرعوبين، أو الدّخان
المتصاعد من الأطلال السوداء المشتعلة للمباني في غير مدينة أوكرانيّة.
وتفيد تقارير موثقة للأمم المتحدة بمقتل ما لا يقلّ عن 2000
مدني إلى الآن، وهو رقم لا بدّ وسيرتفع، ربما لعشرة أضعاف ذلك، أو أكثر مع
استمرار الأعمال القتاليّة هناك. لكن أهوال الغزو الروسيّ التي هيمنت على
نشرات الأخبار طوال الأسابيع الماضية، وبدل أن تثير موجة من التضامن
الإنساني وأوسع الدّعوات لوقف الحرب، تحوّلت على يد آلة الدّعاية الغربيّة
– (مهرجان كان) وأخواتها – إلى أضخم مجهود إعلامي في التاريخ لحشد التأييد
في اتجاه التصعيد وتوسيع دائرة القتل: لهاث لتسريع تدفق أكوام الأسلحة من
صواريخ «جافلين» والطائرات بدون طيار وصواريخ «ستينغر» إلى سيل من العربات
المدرعة والدبابات وحتى القاذفات والطائرات المقاتلة، وابتهالات للقوات
الجوية الأمريكية لقصف المطارات الروسية وفرض منطقة حظر جوي فوق أوكرانيا،
فيما تتدفق مئات الملايين من الدولارات كتبرعات خيرية لمساعدة اللاجئين
تتحول بشكل أو آخر إلى أرتال لا تنتهي من الشاحنات المتجهة عبر الحدود
محمّلة بذخائر جديدة.
موجة السعار هذه التي مست الإعلام الغربيّ وتدفعه للعب دور
قادح شرر الحرب تأتي في وقت يتجاهل فيه ذات الإعلام وبشكل مخجل سياسات
العدوان التي تمسّ المدنيين وتتسبب في وقوع الضحايا من غير ذوي البشرة
البيضاء في جهات العالم الأربع. ففي الوقت ذاته الذي تقصف فيه القوات
الروسية المدن الأوكرانية، ويرصد مقتل عدة مئات من المدنيين، يقصف الجيش
الإثيوبي مثلاً إقليم تيغراي، الذي يخضع لحصار عسكري منذ أكثر من مدة عام،
وتنقطع عن سكانه الكهرباء والمواد الغذائية والإمدادات الطبية، مع ما يقدره
المختصون بنحو 50 ألفا الى مئة ألف قتيل بسبب القتل المباشر، بالإضافة إلى
150 ألفا الى 200 ألف آخرين قضوا بسبب المجاعة.
وكذلك في اليمن، حيث يفتك الموت بالأطفال بسبب الكوليرا في
البلدات المدمرة بعد سبع سنوات من الحرب يقدّر عدد الضحايا نتيجتها بنحو
260 ألف حالة وفاة مباشرة وغير مباشرة إلى الآن.
وغير بعيد عنّا، تستمر وتتصاعد الاعتداءات الوحشيّة من قبل
سلطات الاحتلال الإسرائيلي على أهل البلاد الأصليين في الأراضي الفلسطينية
المحتلة، وتطلق النار على الصحافيين والمسعفين، أمام أعين وعدسات كل
الإعلام العالمي، ويُلقى بالآلاف من الشبان بمن فيهم أطفال دون السن
القانونية وفتيات صغيرات في سجون ذات سمعة سيئة، وتتعرض بيوتهم للهدم
ومقدساتهم الدينية للاعتداءات المتكررة. لكن كاميرات الإعلام الغربي وكأنها
مصابة بعمى ألوان، فتجزع عندما يكون الضحايا من ذوي البشرة البيضاء، ثم
تفقد القدرة على النظر والنقل والتوثيق إذا كان هؤلاء قد ولدوا – بدون ذنب
منهم ولا خطيئة – ببشرة داكنة.
تغطية إعلاميّة تتمم عمل الموروثات الثقافيّة
إذا كان الغزو الروسي لأوكرانيا يظهر في وعي الإنسان
الغربيّ بشكل أثقل بما لا يقاس عند المقارنة مع نزاعات أخرى، فإن أحد
الأسباب الأهم – سوى الترسبات الثقافيّة المتوارثة منذ أيّام أثينا وروما –
هو حجم التغطية الإعلامية المذهل. فحسب مواقع الرصد الإعلاميّ فقد خصصت خمس
شبكات تلفزيون أمريكية كبرى ما مجموعه 562 دقيقة من البث حول الصراع في
أوكرانيا خلال الشهر الأوّل من اندلاع العمليات الحربيّة – أي أكثر من ثلث
مجموع تغطيتها الإخبارية . وهذا يقترب من ضعف الـ 306 دقائق التي خصصت
للشهر الأول من الغزو الأمريكي لأفغانستان، وأكثر بمقدار الربع عن الـ 414
دقيقة التي خصصت للغزو الأمريكي للعراق، وبمقدار الثلث عن الـ 345 دقيقة
التي كرست لتغطية الخروج الأمريكي من كابول في أغسطس/آب العام الماضي.
ولذلك فبينما أصبح وجه زيلينسكي مفروضاً كقِبلة في ذهن المواطن الغربيّ،
فإن قليلين في الغرب يستطيعون في المقابل استذكار صور أشد ألماً، مثل تلك
المحفورة في ثنايا ذاكرتنا المحلية، عن قصف ملجأ العامريّة أو تلك الأعمال
الانتقامية البشعة التي قامت بها القوات الأنجلو – أمريكية في حصارها
وإخضاعها لفلوجة العراق مثلاً، أو حفل الزفاف الأفغاني، الذي تحوّل بضربات
«دورونات» غربيّة موجهة إلى مذبحة تامّة.
سرديّة واحدة مريبة تكاد تقول لا تثقوا في
هناك سرديّة وحيدة متضمنة في التقارير الإخبارية الغربيّة
عن الحرب في أوكرانيا وصريحة في التعليقات التحريرية بشأنها.
وهذه تقرأ الصراع على النفوذ في وسط أوروبا وكأنّه هجوم
روسي استفزازي، وغير مُبرر، متأتٍ حصراً من طبيعة شخصية الرئيس بوتين عينه،
ولم تلعب فيه سياسة الولايات المتحدة القاضية بتوسيع حلف شمال الأطلنطي
شرقا، أي دور!
وتتولى غرف كبريات دور الإعلام الغربيّ إنتاج عناوين مضللة
لقرائها من نوعية إنه «غزو بوتين غير المبرر» و»حالة صريحة من العدوان
غيرالمبرر» و»هجوم بوتين الغادر». وبالطبع فإن الحفاظ على الحجة القائلة إن
توسع حلف شمال الأطلسي لم يلعب أي دور في الأزمة يتطلب كثيراً من الاختصار
والتلفيق وليّ عنق الحقيقة من قبل الإعلاميين الغربيين – وتابعيهم من بعض
العرب -. وبدلاً من طرح تساؤلات حول السلوك المتعجرف للغرب في سعيه لتوسيع
حلف شمال الأطلسي، وما إذا كانت روسيا مبررة في الاعتقاد أن أمنها قد تعرض
للخطر، وإذا كان بإمكان الرئيس بايدن وغيره من القادة الغربيين فعل المزيد
لتهدئة مخاوف القيادة الروسيّة وتضييق فرص توسّع النّزاع، تجدها تحرّض
الجميع على تأديب بوتين، ذلك الروسيّ «المجنون» غريب الأطوار، الذي تجرأ
بالتمرّد على النظام العالميّ.
وعندما لا تجد منفذاً إخباريا رئيساً غربياً واحداً يضغط من
أجل وقف فوري للحرب والبحث عن تسوية تفاوضية بعد مرور أشهر على بدء الحرب،
وتصرّ جميعها، كما جوقة ببغاوات على الدّفع في اتجاه تصعيد حرب خطرة بين
دول تمتلك أسلحة دمار شامل كافية لتدمير كوكبنا عدّة مرات، فلربما يأتي وقت
قريب نلوم فيه أنفسنا على أننا لم نمتلك جميعاً فطرة غودار!
إعلامية وكاتبة لبنانية – لندن |