ثلاث إيرانيات من جيل الحرب في "كان"... لمّ الشمل
محمد صبحي
جيل الثمانينات في إيران موسوم بالحرب. هم الأطفال الذين
ولدوا بعد الثورة (1979) وأثناء الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)
وذهبوا إلى المدرسة في فترة ما بعد الحرب. ساد جوّ مخيف في المجتمع،
وانضباط عسكري في المدارس؛ اتسم وجودهم كله بالمحظورات والضوابط.
اليوم صاروا بالغين وبالغات، في الثلاثينيات أو الأربعينيات
من العمر، بعضهم ما زال داخل إيران، لكن عدداً غير قليل منهم هاجر وترك
البلد المخنوق بقوانين أصحاب العمائم. غولشيفته فرحاني، وتارانه عليدووستي،
وزهرا أمير إبراهيمي، ثلاث نساء من هذا الجيل. تلتقي الممثلات الإيرانيات
الثلاث، هذا العام، في المسابقة الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي في دورته
الحالية (من 17 حتى 28 أيار/مايو). اثنتان منهن تعيشان حالياً في المنفى في
فرنسا، والثالثة ما زالت في إيران. اتخذن طرقاً مختلفة لينتهي بهن المطاف
مجتمعات في المكان نفسه اليوم، على منصة "كان". تحكي قصصهن الشخصية عن
تمايزات واختلافات عميقة في بلدٍ قديم ومتنوع يفشل باستمرار في تقديم صورة
متجانسة عن نفسه.
غولشيفته فرحاني.. الذهاب بعيداً
ولدت غولشيفته فرحاني، أشهر الفنانات الثلاث عالمياً إثر
وصولها إلى هوليوود، في طهران العام 1983. لم تُرِد أن تصبح ممثلة، وارتادت
في البداية مدرسة للموسيقى لعزف البيانو. لكنها، في سن الرابعة عشرة، لعبت
دور البطولة في فيلم "شجرة الكمثرى" (1998) للمخرج داريوش مهرجویی، أحد
أبرز الأسماء في ما سيُعرف لاحقاً بسينما الموجة الإيرانية الجديدة. منذ
ذلك الحين، اختلفت حياتها، وأدت أدوار البطولة في 17 فيلماً آخر.
بحلول العام 2008، كانت بالفعل ممثلة ناجحة - بعدما عملت مع
العديد من المخرجين الإيرانيين المشهورين - عندما حصلت على دور في الفيلم
الأميركي "كتلة أكاذيب" للمخرج ريدلي سكوت، ولعبت دور البطولة أمام
ليوناردو دي كابريو وراسل كرو. كانت تلك فترة الفورة لأفلام "الإرهاب" ما
بعد 11 أيلول/سبتمبر، ومثّل هذا الفيلم الضخم إنتاجياً بداية اختراقها
الدولي. كانت أول إيرانية تعمل في هوليوود منذ ثورة 1979، والسلطات
الإيرانية لم تتحمّل ذلك ولا عرفت كيف تتعامل مع النجمة الإيرانية
المتمرّدة. لم تمتلك يداً طائلة تسيطر بها على هذا الإنتاج الأميركي،
وبالطبع لم يعجبها ذلك. ففي النهاية، كما في أي دولة استبدادية، كان الفن
مسموحاً به فقط طالما امتلكت الدولة القدرة على تحديد إطاره. أخذ الأمر
مساحة كبيرة في النقاشات المحلية، وراج ذلك الخلاف "المجتمعي" حول ما إذا
كان يجب تصوير مشاهد فارحاني في هذا الفيلم الهوليوود بالحجاب أم من دونه.
غير أن فرحاني ذهبت أبعد من ذلك.
لدى عودتها إلى إيران بعد تصوير الفيلم، صادرت السلطات
الإيرانية جواز سفرها واستُجوبت مراراً وتكراراً لمدة سبعة أشهر. قالت
لاحقاً في مقابلة صحافية: "في نظرهم، كان عملي في هوليوود مساوياً للتعاون
مع وكالة المخابرات المركزية. وعندما نزل فيلم "كتلة أكاذيب" إلى الصالات،
اتهموني بالتعاقد مع وكالة المخابرات المركزية لتدمير سمعة الإسلام".
بعد بضعة أشهر، تلقّت عرضاً لتمثيل دور البطولة في إنتاج
هوليوودي آخر، وهو "أمير فارس: رمال الزمن" لمايك نيويل. عندما حاولتْ
السفر إلى لندن من أجل تصوير دورها، مُنعت من مغادرة البلاد. "عرضتْ عليّ
السلطات الحصول على جواز سفري لمدة 24 ساعة في مقابل تقديمي مبلغاً مالياً
للسفر إلى لندن والعودة لإجراء اختبار الكاميرا. ذهبت معهم. لكني تأخرتُ ست
ساعات. غادرَتْ الطائرة. ودوري في الفيلم ذهب لممثلة أخرى". أُطلق الفيلم
في العام 2010، وبدلاً من غولشيفته فرحاني، لعبت الممثلة البريطانية جيما
أرتيرتون دور الأميرة الفارسية تامينا إلى جانب جيك غيلنهال.
آخر فيلم مثّلته فرحاني في إيران هو "عن إيلي" لأصغر
فرهادي. حاز العمل جائزة الدب الفضي لأفضل مخرج في مهرجان برلين 2009. على
السجادة الحمراء وفي جلسة التصوير بعد عرض الفيلم في برلين، كان بالإمكان
رؤية انفصالها (أو فصلها) عن بقية زملائها الممثلين الذين حاولوا إبعاد
أنفسهم عن فارحاني، خوفاً من أن تشاركهم صورة تظهر في الصحف الإيرانية. كل
شيء طغت عليه مشاركتها في هذا الفيلم الأميركي. لم تراع فرحاني العُرف
الشائع والمُقنّن إيرانياً بأن تُظهر الممثلات الإيرانيات الصورة الرسمية
للمرأة (بستر الجسم وتغطية الرأس بالحجاب) حتى خارج البلاد، وبالتالي أضحى
ظهورها في بعض مشاهد فيلم "كتلة أكاذيب" بلا غطاء للرأس، فضيحة في إيران،
لا سيما في وسائل الإعلام المحافظة. بالإضافة إلى ذلك، ذهبت إلى العرض
الأول للفيلم في الولايات المتحدة، مرة أخرى بلا حجاب، وظهرت مشكوفة
الذراعين في صور إلى جانب بطله ليوناردو دي كابريو. تكهَّن الجميع
بالعواقب. اعتقد كثيرون أن السلطات ستحظر عرض "عن إيلي" في إيران بسببها.
لم يحدث هذا لكن فرحاني غادرت البلاد بعد كل المضايقات والاستجوابات، ولجأت
في البداية إلى الولايات المتحدة ثم فرنسا الحاصلة على جنسيتها. اختارت
باريس لإقامتها منذ العام 2009.
في المنفى الفرنسي، بدأت من جديد، وتزوّجت من جديد، وتطلّقت
مرة أخرى. منذ ذلك الحين، ظهرت في 24 فيلماً آخر، من بينها "باترسون"
(2016، جيم جارموش) من بطولة آدم درايفر. مغادرتها إيران أكسبتها شجاعة
أكبر في اختيار أدوارها، كما في مساراتها الحياتية، حتى إنها ظهرت أكثر من
مرة في مشاهد عارية، وكالعادة نالتها الانتقادات. قالت لاحقاً: "كل ما قمت
به منذ مغادرتي إيران أصبح بمثابة عمل سياسي، بينما هو ليس كذلك. لم أكن
سياسية ولا ناشطة بل فقط ممثلة، امرأة ممثلة. لو كنت رجلاً لكان مساري
مختلفاً".
في نسخة "كان" هذا العام، تظهر غولشيفته فرحاني إلى جانب
ماريون كوتيار في فيلم الدراما الفرنسي "أخ وأخت" للمخرج أرنو ديبلوشان،
المشارك في منافسات المسابقة الرسمية للمهرجان.
زهرا أمير إبراهيمي.. إرهاب باسم الأخلاق
زهرا (زار) أمير إبراهيمي ليست معروفة في الخارج بعد. ولدت
في طهران العام 1981، كانت ممثلة تلفزيونية اكتسبت بعض الشهرة بفضل بطولتها
لمسلسل تلفزيوني رائج بعنوان "نرجس" (2006)، عندما انتهى المطاف بظهور
فيديو جنسي لامرأة، زُعم أنها إبراهيمي نفسها، في الإنترنت. بين عشية
وضحاها، دُمّرت حياتها.
في غضون شهرين فقط، وُزّعت حوالى 100 ألف نسخة من الشريط
الجنسي. بدأت الدولة التحقيق. استُجوبت هي وعائلتها ومعارفها وحتى صديقها
في ذلك الوقت. واجهت اتهامات مختلفة، مثل أنها شاركت في إنتاج وتوزيع
الفيديو. مجرد ممارسة الجنس مع صديقها الذي لم يتزوجها، يعتبر جريمة يُعاقب
عليها القانون الإيراني. خوفاً من العواقب والعقوبات المختلفة، أنكرت في
البداية أن تكون هي المرأة التي ظهرت في الفيديو، ووصفته بالمزيّف، مدعيةً
بأن خطيبها السابق انتقم منها بتلفيقه مستخدماً تقنيات المونتاج والتعديل
بهدف إلى تدمير حياتها المهنية.
مُنعت من السفر لبضع سنوات، وتعطّلت حياتها المهنية كممثلة،
لكنها كانت أكثر قلقاً مما سيحدث لها في المقام الأول. كان عليها دفع كفالة
لتتمكن من التنقل بحرية في أنحاء البلاد حتى صدور حكم المحكمة. كانت تخشى
الخروج إلى الشارع بمفردها لأن المجتمع بأكمله لن يتركها ولن يدع حياتها
الخاصة تمضي في سلام. باع الفيديو ملايين النسخ في السوق السوداء، في بلدٍ
تُظهر مسلسلاته التلفزيونية التي تنتجها الدولة نساء يذهبن إلى فراشهن
بالحجاب. تكالب الناس على التحديق في الحياة الجنسية لممثلة شابة، واحتفظوا
لأنفسهم في الوقت ذاته بوضعٍ يمكّنهم من إدانتها أخلاقياً، والتنمُّر
عليها، وإرهابها، وإشعارها بالذنب حيال عيشها واختياراتها. حتى أن صحفاً
كتبت أنها حاولت الانتحار. كان سيناريو مثالياً يليق بمجتمع أبوي: مثل هذه
"الفضيحة" يجب إنهاؤها بانتحار المرأة المذنبة، ومن الأفضل نسيانها على
الفور، بحيث يمكن للمجتمع – بعد تغذيته وإشباع نهمه – الشعور بأنه "طبيعي"
مرة أخرى بلا أدنى إحساس بالذنب.
في النهاية، غادرت إبراهيمي البلاد وذهبت إلى فرنسا. فقط في
العام 2019، بعد 13 عاماً من تلك الحادثة، تحدثت علناً في مقابلة مع
"الغارديان" عن حقيقة أن مقطع الفيديو إياه كان يخصّها فعلاً، وأنه تم
تداوله على الإنترنت من خلال أحد معارفها، وهو ممثل مسرحي. كان الأخير معها
في إحدى الحفلات، ووجد الفيديو على جهاز الكمبيوتر الخاص بها واحتفظ بنسخة
منه سرّاً. اعترف الممثل المسرحي بأنه مذنب. حُكم عليه بالسجن ست سنوات،
لكن أُطلق سراحه بعد بضعة أشهر واستمر في العمل كممثل في إيران. طوال هذه
السنوات، لم تتحدث إبراهيمي علانية، ويرجع ذلك أساساً إلى والديها، اللذين
ما زالا في إيران. لكن، الآن، بعدما سقطت "القضية" بالتقادم، كسرت صمتها.
في المنفى، تعلَّمتْ الفرنسية، ودرست مجدداً ومثّلت في عدد
من الأفلام، بما في ذلك بعض الإنتاجات الألمانية مثل "طهران تابوه" (2017،
علي سوزانده) و"غداً سنصبح أحراراً" (2019، حسين بورسيفي). وهي الآن في
المنافسة في مهرجان "كان" كبطلة لفيلم "هولي سبايدر"، للمخرج الإيراني علي
عباسي المقيم في السويد. شاركت السويد والدنمارك وألمانيا وفرنسا في
الإنتاج. القصة مستوحاة من قضية قاتل متسلسل حقيقي قتل ما مجموعه 16 امرأة
بين العامين 2000 و2001 في مدينة مشهد الدينية الإيرانية، موطن قبر الإمام
الرضا، ثامن أئمة الشيعة. القاتل، المعروف باسم "العنكبوت القاتل"، أعلن
بنفسه مهمته "الأخلاقية": تطهير المدينة المقدسة من بائعات الهوى في
الشوارع. اغتصب 13 امرأة قبل قتلهن. أُعدم في العام 2002. في الفيلم ، تلعب
زهرا أمير إبراهيمي دور الصحافية الاستقصائية التي تحقّق في القضية.
تارانه عليدووستي.. نضال من الداخل
تعدّ تارانه عليدووستي حالياً واحدة من أبرز الممثلات
الإيرانيات وأكثرهن شهرة. هي ابنة لاعب كرة القدم الدولي حميد عليدووستي،
والنحّاتة نادرة حكيم الله، ولدت في طهران العام 1984. وحصل فيلمها الأول
"أنا تارانه، عمري 15 عاماً" (2002، رسول صدرعاملي)، على جائزة "النمر
البرونزي لأفضل ممثلة" في مهرجان لوكارنو السينمائي. تبع ذلك العديد من
الأفلام الناجحة، أبرزها مع المخرج أصغر فرهادي، بما في ذلك "البائع" الذي
فاز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان "كان" 2016 وجائزة أوسكار أفضل فيلم
بلغة أجنبية العام 2017. ومع ذلك، قاطعت عليدووستي حفلة توزيع جوائز
الأوسكار، بسبب قرارات الرئيس الأميركي حينها دونالد ترامب بخصوص الهجرة.
غرّدت حينها "الحظر الذي فرضه ترامب على تأشيرات دخول الإيرانيين عنصري،
واحتجاجاً عليه لن أحضر حفلة توزيع جوائز الأوسكار".
تعمل عليدووستي بشكل أساسي في إيران، وهي متزوجة ولديها
ابنة. بالإضافة إلى حياتها المهنية كممثلة، فهي تكتب وتترجم أحياناً (تجيد
الإنكليزية والألمانية، وترجمت إلى الإيرانية أعمالاً لأليس مونرو ونيكول
كراوس). وتنخرط أيضاً في القضايا المتعلقة بحقوق النساء والرياضة النسائية،
وتحاول إحداث فرق في بلدها. وهي معروفة أيضاً بالتعليق المتكرر على القضايا
السياسية والاجتماعية على الشبكات الاجتماعية. وكانت هناك جدالات في
المجتمع الإيراني حول بعض تصريحاتها أو أنشطتها، والتي ما زالت تؤدي إلى
بعض المشاكل مع السلطات بين الحين والآخر. في مؤتمرٍ صحافي لأحد افلامها،
وأثناء تعديلها الميكروفون أمامها، شُوهد على ساعدها وشم يحمل علامة قوة
المرأة؛ ما أحدث نقاشاً نسوياً. رداً على ذلك، نشرت في "انستغرام" صورة لها
وعلّقت: "اهدؤوا قليلاً! نعم، أنا نسوية!"
أصبحت عليدووستي واحدة من أهم الشخصيات في حركة "أنا أيضاً"
(MeToo)
في بلدها. في الآونة الأخيرة، أصدرت، ضمن مجموعة من 300 ممثلة في المشهد
السينمائي في إيران، بياناً ضد العنف الجنسي في صناعة السينما، دان كافة
أشكال العنف والتحرش الجنسي في مكان العمل. من بين أمور أخرى، أردن تشكيل
هيئة مستقلة ومهنية للتعامل مع حالات ضحايا العنف الجنسي.
في مسابقة "كان" الرسمية هذا العام، تشارك عليدووستي في
فيلم الدراما الإيراني "إخوة ليلى" للمخرج سعيد رستائي، والذي تؤدي فيه دور
ليلى البالغة من العمر 40 عاماً، والتي تحاول انتشال والديها وإخوتها
الأربعة من الفقر وتخطّط لبدء شركة عائلية، بعد أزمة اقتصادية غير مسبوقة.
بعد الإعلان الرسمي عن أفلام المسابقة الرسمية، امتلأت
وسائل التواصل الاجتماعي بصور الممثلات الثلاث معاً. وقيل إن ثلاث ممثلات
إيرانيات سيتنافسن الآن على جائزة أفضل ممثلة. لكن رداً على ذلك، كتبت
غولشيفته فرحاني في "إنستغرام": "عضوات الفريق الواحد لا يتنافسن مع بعضهن
البعض. جائزة مهرجان كان بالنسبة اليّ هي مجرد صورة تضمّنا نحن الثلاث الآن
في إطارٍ واحد بعد سنوات". شاركت الممثلتان الأخْرَيان أيضاً تلك الصورة
المشتركة وتحدثتا عن "الأختية" التي تجمعهن ثلاثتهن.
قد يكون مهرجان "كان" مكاناً للظهور والترويج الذاتي للبعض،
خصوصاً من "نجمات" ومشاهير العرب، لكنه بالنسبة لهؤلاء الإيرانيات الثلاث
من جيل الحرب، يبدو مكاناً للتآزر ولمّ الشمل. |